صحيفة المثقف

بين أزمة الاقتصاد والتطبيع مع إسرائيل

ناجي احمد الصديقإلى أين يسير السودان

لم يمر السودان فى تاريخه القريب او البعيد بظرف دقيق وحساس كما يمر به الان، ففي جانب الأزمة الاقتصادية يعلم الناس ان الاقتصاد السودانى قد شارف على الانهيار ان لم يكن قد بلغه كليا وانه بفعل تلك المشارفة او ذلك الانهيار التام أصبحت الحياة فيه جحيم لا يدانيه الا جحيم الموت فالمواطن السودانى أصبح يعانى ويكابد فى سبيل الحصول على لقمة العيش التى تسد رمقه ورمق أطفاله . والكل يعلم انه لا ضوء ابدا يلوح فى الأفق بشأن تلك الأزمة الخانقة بل ان ما يلوح فى الأفق هى نذر تفاقم وازدياد لتلك الأزمة فخبراء الاقتصاد يقولون ان لا مجال لحل الأزمة الا بزيادة الإنتاج للحصول على النقد الاجنبى الكافي لاستيراد السلع الضرورية والواقع يقول انه لا إنتاج الا بالحصول على استثمارات كبيرة داخل السودان لإدارة عجلة الإنتاج المتوقفة منذ امد بعيد والقانون يقول انه لا استثمارات الا بإدماج السودان مرة اخرى فى المنظومة الاقتصادية الدولية وفتح المجال امام بيوتات الاقتصاد والمؤسسات المالية الدولية وامريكا تقول انه لا مجال لكل ذلك الا بالتطبيع مع إسرائيل حيث هى العقدة الأخيرة فى سلسلة المصاعب والعقد التى تواحه السودان لحلحلة تلك الازمة

الموت السر يرى للاقتصاد السودانى فى هذه الاونة كان نتاج لأخطاء وخطايا قامت النخب السودانية باقترافها عن عمد او عن جهل عام وراء عام منذ اللحظة الاولى لاستقلال السودان وحتى يومنا الذى نحياه الان، ولم تنجو اية حقبة من حقب الحكم فى من تلك الأخطاء وتلك الخطايا على كثرة من حكم السودان ديمقراطية كانت ام عسكرية رغم تفاوت نسب المسؤولية عن تلك الأخطاء وكانت النتيجة الحتمية لتلك الخطايا هى وجود السودان اليوم فى مأزق اقتصادي سيتتبعه مأزق سياسي لينتهي به الأمر أخيرا الى الأخذ بأحد خيارين أحلاهما امر من طعم الزقوم.

لا نعود الى الوراء إلا لأخذ العبر فتاريخ السودان الحديث بنبئنا بان النخب السودانية التى حكمت السودان تلاهت مرة وتلاعبت مرات باقتصاد السودان ولم يكن ذلك الا من اجل مصالحها الضيقة ومتعتها الانية ولعل بداية المأساة كانت على يد يد الرئيس عبود رغم انه كان أحسن السيئين لتطهره وأمانته السياسية من جهة ولكون السودان ما يزال قويا بإنتاجه من جهة اخرى فقد كان نظام الرئيس عبود معنيا بالدرجة الاولى بالقدرة على حكم البلد اكثر من اهتمامه باجراء تغييرات اقتصادية واجتماعية جذرية ومن المفارقة ان السودانيين قد شهدوا انتعاشا اقتصاديا وماليا فى ظل الحكم العسكري المتنامي فقد كان اداؤهم الاقتصادي فى ذلك الوقت من القوة والنزاهة والتطهرية ما جعلهم يعيدون الحياة الى قطاع القطن ويتمكنون من بيع مخزونه الهائل ملئ بها خزينة الدولة وأعاد الرفاهية لفترة وجيزة غير ان خطة الدولة العشرية التى أطلقت فى اكتوبر 1962م قد ثبت ان تنفيذها ابعد من القدرات المحدودة لأصحابها كما اجتمعت عوامل أخرى سلبية منها الفساد والجشع وهدر الأموال فى خدمة الجيش ادت الى تراجع مصداقية الحكومة وإطلاق شائعات بانهيار اقتصادي وشيك . بوصول السودان الى الديمقراطية الثانية بعد تسليم الرئيس عبود السلطة بدأ الاقتصاد السودانى فى المعاناة شأنه شأن كل قطاعات الدولة وكان سبب تلك المعاناة هو اهمال الدولة فى تعزيز مقومات الاقتصاد السودانى وهو ما مكن الاعيان المحليين والتجار وساسة الخرطوم من وضع ايديهم على الاراضى الزراعية التى كانت الحاضنة الأساسية للاقتصاد السوداني مما افرز طبقة جديدة من الملاك الغائبين الموسرين الذين يقطنون المدن الكبرى، كما ان التحول التدريجي للمجتمع الريفي فى السودان نحو الاقتصاد النقدى السوقى انشأ نخبا تجارية فى المدن والبلدات والتى لعبت الدور الاساسى فى التجارة السودانية وفى مقدمتهم (الجلابة) وهم جماعة تجار تاريخية وبعد الاستقلال استقر اولئك الجلابة بشكل استراتيجي فى البلدات الرئيسية والعاصمة حيث مكنتهم صلاتهم التجارية من استغلال العلاقات العرقية مع وزارتى المالية والتجارة التى جاء معظم موظفيها من الدناقلة والجعليين للحصول على التصاريح المربحة إضافة لأنشطة الدولة الاقتصادية غير المجدية والتى كانت تعتمد على الضرائب غير المباشرة والتى خاضعة بدورها لتقلبات السوق العالمي مما خلق فجوة كبيرة بين الايرادات والمنصرفات والذى تمت معالجته بالاستدانة من مؤسسات الإقراض الدولية فارتفع الدين السوداني فى غضون اربعة سنوات من 3,9 مليون جنيه سودانى فى عام 1965 الى 46 مليون جنيه فى عام 1969 بحسب روبرت كولينز فى كتابه تاريخ السودان الحديث

بعد وقت قصير من الازدهار بعد استلام جعفر محمد نميرى مقاليد السلطة فى السودان والذى كان بفعل اتجاه الدول العربية ذات الأموال الهائلة للاستثمار الزراعي فى السودان، دخل الاقتصاد السودانى الى مرحلة جديدة من التردي السريع بعد ان تنمر النميرى وأصبح لا يرى الا نفسه مستصحبا إيمانه المفاجئ بالكرامة من والياء الله الصالحين والذين أوعزوا اليه ان العناية الإلهية هى وحدها من أنقذت روحه من الموت وهى وحدها من يحرس حكمه الى ابد الابدين فنشأت فى ذلك المستنقع حفنة من الدجالين والانتهازيين داخل القصر وعملت دون كلل على توجيه الاقتصاد السودانى الى حيث تكمن مصالحهم فتغلغل فى عصب الحياة الاقتصادية اناسا مثل اللسعودى عدنان خاشقجى واللبنانى سالم عيسى وعملوا جميعهم تحت إدارة بهاء الدين محمد ادريس حتى وصل الامر ان أصبح خاشقجى يتفاوض باسم السودان للحصول على ستة قروض كل منها بعدة ملايين من الدولارات تحت عنوان خطط التنمية للخطة الخمسية للعام 1970 وكانت تلك القروض بفوائد فوق طاقة السودان ولكنها كانت ذات مكاسب هائلة لخاشقجى ومن معه فى القصر

بحلول عام 1974م قام البنك الدولى برفض اىة مساعدة لما سمى حينها بالفوضى المالية السائدة فى السودان مشيرا بشكل خاص الى معدل الفائدة الفلكى الذى فرضته العمليات المصرفية التى ينظمها عدنان خاشقجى وتزامن ذلك بشكل مأساوي مع الجفاف العظيم والذى انتج مجاعة حقيقية اطضر معها جعفر نميرى باعلان المجاعة فى السودان لاستقطاب المساعدات الدولية لتخفيف اثر الفقر .

بمجىء الديمقراطية الثالثة الى السودان فى عام 1985م كانت الأزمة الاقتصادية قد أخذت فى التفاقم والازدياد وذلك نسبة لاحجام مؤسسات الإقراض الدولية من منح السودان مزيدا من القروض بعد ان بلغت ديون السودان فى مطلع 1987م حوالى 10,6 مليار دولار وبالرغم من الوعود العديدة بضبط البيروقراطية إلا ان الصادق المهدى لم يفعل شيئا فى هذا الاتجاه وبحلول سبتمبر من عام 1988م لم يكن امام الحكومة الا تنفيذ شروط صندوق النقد الدولى بتخفيض قيمة الجنيه السودانى ورفع الدعم عن السلع الاساسية مما حدا بالطلاب من الخروج فى مظاهرات هادرة مطالبين الحكومة بإلغاء اتفاقية صندوق النقد وظلت الأوضاع فى تأرجح منذ ذلك الوقت بين مهانة من قبل الحومة وتصعيد من الجماهير حتى سقط جعفر نميرى فى انتفاضة شعبية عارمة كان سببها الاساسى تردى الاحوال المعيشية.

فى 31\5 1999 افتتح الرئيس عمر البشير الذى تولى الحكم فى السودان بانقلاب عسكرى عام 1989م رسميا رصيف ناقلات النفط الجديدة فى مرسى بشاير جنوب بورتسودان وهو الخط الذى تمكن به السودان من تسجيل اول فائض فى ميزانه التجارى مع توقع نمو اقتصادى بنسبة 6% سنويا منها بدأت رحلة الاقتصاد السودانى نحو التعافى الامر الذى مكن السودان ذو السبعة وعشرون مليون نسمة من محاولة تطبيق برنامج متفق عليه لسداد ديون صندوق النقد الدولى ومع فرض رقابة مشددة على اسعار السلع وحظر واسع لاستيراد قائمة طويلة من السلع غير الضرورية وارتفاع اسعار القطن والصمغ العربى عالميا الى جانب سقوط الأمطار وسياسات الحكومة الاقتصادية، كل ذلك سمح للسودان بالتخلص من مرضه الاقتصادي الذى تم توارثه عبر الحقب المختلفة من تاريخه المرير

توفرت فرصة تاريخية لنظام البشير للنهوض بالاقتصاد السوداني وإعادة هيكلته بصورة علمية حينما انهمرت على خزينة الدولة عائدات البترول الهائلة فيما بين 2000 الى 2010م والتى بلغت فى واحدة من تقديراتها بمبلغ 70 مليار دولار، ففى الوقت الذى كان متوقعا فيه ان تقوم الحكومة باستغلال هذا المبلغ الكبير فى إنشاء بنيات تحتية لإقامة مشروعات استثمارية كبرى فى مجلات الزراعة والرعى والتعدين عمدت حكومة البشير بصرف تلك الاموال بصورة فيها كثير من البزخ ان لم يكن من السفه، فأغدقت الاموال على الاجهزية الامنية - بحسب موقع العربية نت الالكتروني - وعلى منظماتها الجماهيرية والفئوية كما كان للفساد المالي والادارى وإتباع سياسة التمكين وعدم اهتمام المسئولين فى حكومة الإنقاذ إتباع الاجراءت المالية والمحاسبية السليمة كل ذلك كان قد صب الزيت على نار الحريق الكبير لاقتصاد السودان وهو ما أدى فى نهاية الأمر إلى فشل كل المحاولات التى قام بها نظام البشير لإنقاذ الاقتصاد السودانى .

لا ننسى الطوق المحكم الذى صنعه المجتمع الدولي حول رقبة الاقتصاد السوداني بامثاله لرغبات الولايات المتحدة لعزل السودان اقتصاديا عبر وضعه فى قائمة الدول الراعية للإرهاب وهو الطوق الذي ادى الى كل محاولات السودان للتواصل الاقتصادي مع دول العالم حيث يرى مراقبون ان بداية إنعاش ذلك الاقتصاد هى رفع السودان عن تلك القائمة الاذن للمؤسسات الاقتصادية الدولية بالتعامل معه لتقديم الهبات والمساعدات والقروض، والإذن للدول والشركات الأجنبية بالاستثمار فى السودان.

هذه هى رحلة الاقتصاد السوداني عبر تاريخه الممتد من الاستقلال وحتى اليوم وهى رحلة مملوءة بالأسى لان من كان بأيديهم زمام المبادرة للنهوض بالاقتصاد السودانى كانوا هم من تسبب فى هذا الانهيار العظيم، ومملوءة بالألم ان شعب كافح وناضل من اجل الحرية من الاستعمار كان لابناءه وحدهم الفضل فى نكبتهم الممتدة عبر كل تلك الحقب، ومملوءة بالدموع لان انعدام الوازع الاخلاقى والديني لدى كثير من النخب السياسية التى توارثت حكم السودان كان هو من اذل هامات الرجال امام الفقر والجوع والمسغبة كان ذلك فى ايام الجفاف والتصحر فى ثمانينات القرن الماضي او إبان ازمة السيولة والخبز الوقود والتى ما زالت ممتدة الى اجل لا يعلم الا الله موعده

أيقنت كثير من القوى الموجودة اليوم على الساحة السياسية ان انفراج أزمة الاقتصاد تمر عبر بوابة أمريكا وذلك برفعها اسم السودان من قائمة الدول التى ترعى الإرهاب وهو قول ادلى به بعض خبراء الاقتصاد إضافة إلى إيقاف نزيف الحروب فى جبال النوبة والنيل الأزرق ومنطقة دارفور وان كان إيقاف تلك الحروب قد بات قاب قوسين او ادنى فان رفع السودان عن قائمة الدول التى ترعى الإرهاب يبدو امرا بعيد المنال فى ظل البراغماتية التى يتعامل بها الرئيس الامريكى دون مراعاة لاى اتفاق او عهد او حتى اخلاق التفاوض واللاتزام التى يجب ان تتحلى بها الدول، فدولة السودان اوفت بكل الالتزامات والشروط التى فرضتها عليها الإدارة الامريكية فى سبيل رفع اسم السودان من تلك القائمة وكان اخرها دفع تعويضات باهظة القيمة لضحايا المدمرة كول وضحايا تفجير صفارتى الولايات المتحدة فى نيروبى ودار السلام ولكن الرئيس كعهدنا به اراد ان يستغل حاجة السودان الملحة للاندماج فى المجتمع الدولى ففرض عليه شرطا اخر وهو تطبيع العلاقات مع اسرائيل لتعينه على الفوز بانتخابات الرئاسة فى بلاده، فكانت هى العقبة الكؤود التى وقف على أعتابها السودان وانقسم على وقعها السياسيون بين معارض ومؤيد فى مشهد لا يعلم احد كيف تكون نهايته

الحكومة السودانية تبدو مأزومة فى هذا الظرف الاقتصادي الدقيق فهى – من ناحية - لا تملك مقومات انعاش الاقتصاد المتردي ومن ناحية اخرى لا تتحمل وزر اتخاذ قرار التطبيع مع اسرائيل فقد كتب لها انها هى من تتحمل كل الأوزار التى تم ارتكابها فى حق الاقتصاد السوداني وانها عليها وحدها سيقع وزر التطبيع مع اسرائيل او انهيار الاقتصاد فى السودان وهما امران – كما قلنا من قبل – أحلاهما امر من طعم الزقوم.

 

ناجى احمد الصديق الهادى - المحامى - السودان

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم