صحيفة المثقف

إشكالية العلاقة بين الدين والفلسفة في تراثنا الفكري

محمود محمد عليالإسلام دين، والدين وحي، والوحي يقين وإيمان، والفلسفة نشاط فكري، أداة تحليلية، مصدرها الإنسان، ومركزها العقل، ووظيفتها الأولي تدور حول عدم التسليم، فهل ثمة علاقة بين الدين الإلهي والشك البشري؟، هل ثمة علاقة بين النص الذي يحمل الحقيقة والأداة التي تختبر الحقيقة وتحللها؟، وهل هي علاقة فهم الدين بالفلسفة أم إصلاح الفلسفة بالدين؟، هل تتدين الفلسفة أم يتفلسف الدين؟، هل هي محاولة لإيجاد علاقة بين ضدين كما يقول بذلك أهل النقل أو بعضهم؟، أم أن العلاقة قائمة بالضرورة بين الكتاب والحكمة أو القرآن والفلسفة كما يقول أهل العقل أو بعضهم؟، ما هي العلاقة بين الإسلام والفلسفة؟، النص والواقع؟، التجربة التاريخية للمسلمين في هذا الميدان ماذا تقول؟، كيف نفهمها؟ وكيف نضبطها؟ هل هي علاقة تنافس وتنافر وعداء؟، أم تفاهم وتسامح وتكامل؟

وللإجابة علي تلك الأسئلة نقول تشير التجربة التاريخية إلي أسبقية الفلسفة علي الأديان السماوية القامة؛ لا سيما المسيحية والإسلام، كما تشير إلي أن نشأة الفلسفة منذ بداياتها الأولي جاءت مقترنة بالدين وملامسة له ومفكرة فيه وبه، ولذلك قيل الفلسفة بنت الدين، وأم العلم .

ظهرت الفلسفة في بداياتها لدي قدماء الشرقيين، كما يشير هيرودوت ومارتن برنال في كتابه أثينا السوداء، كما انتقلت إلي اليونان؛ حيث ذاعت وازدهرت، وتحولت إلي واحد من أهم العلوم النظرية القديمة، وجاء الإسلام ليجعل من التدبر العقلي واجباً دينياً، ويحرر العقل الإنساني من سلطة الكهنة والأسلاف والأوصياء، ويطلق ملكاته للبحث والتفكر والإبداع، وذلك بتحريض مباشر من نصوص الوحي الإلهي، يقول المفكر الإسلامي محمد عبد الله دراز في كتابة الدين :" أليس موضوع الفلسفة هو نفسه موضوع الدين؟ أو ليست المشكلة التي تعالجها الفلسفة هي بعينها المشكلة التي انتدبت الأديان لعلاجها، فمطلب الفلسفة هو معرفة أصل الوجود وغايته، ومعرفة سبيل السعادة الإنسانية في العاجل والآجل، هذان هما موضوع الفلسفة بقسميها العلمي والعملي، وهما كذلك  موضوع الدين بمعناه الشامل للأصول والفروع .

ويعارض البعض رؤية دراز وغيره من المتحمسين للعلاقة التكاملية بين الفلسفة والدين  ويرون تناقضاً بينهما في مصادر المعرفة؛ فالفلسفة تعتمد علي العقل، والدين يعتمد علي الوحي، والعقل بشري نسبي، يعتبره البعض يصوب ويشوبه الخطأ، والوحي إلهي مطلق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويرد أبو حامد الغزالي بالمفارقة ويقول في كتابه " معارج القدس" :" العقل كالأساس، والشرع كالبناء، ولن يُغني أساساً ما لم يكن من بناء، ولا يثبت بناء ما لم يكن أساس، فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان، بل متحدان، والمعني نفسه يؤكد الغزالي غير مرة حيث يقول في كتابه الشهير " إحياء علوم الدين " :" وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية، وأن الجمع بينهما غير ممكن، ظناً صادر عن عمي في عين البصيرة .

وقد شهد العالم الإسلامي ظهور عدد كبير من الفلاسفة كأبو يعقوب الكندي، وأبو نصر الفارابي، والشيخ الرئيس ابن سينا، وابن رشد، وغيرهم كثيرون، وقد تنوعت إسهاماتهم الفلسفية بين نقد الاتجاهات الفلسفية اليونانية علي نحو ما فعل الغزالي في تهافت الفلاسفة، والتمييز منها بين المقبول منها والمرفوض وفق رؤية المفكر المسلم هو ما فعله ابن رشد في كتابه " فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"، كما حاول فلاسفة الإسلام الذب عن الفلسفة، ونفي التعارض بينها وبين الإسلام، والتوفيق بين الفلسفة والشريعة، وبيان التشابه بينهما، وحاجة كل منهما للآخر وهو ما أكد عليه كل فلاسفة الإسلام.

ورغم ذلك التفاهم بين الفلسفة والدين بشكل عام وبين الفلسفة والإسلام بشكل خاص، إلا أن تاريخ العلاقة بينهما قد شهد صراعات فكرية وعقدية وسياسية، وصلت إلي حد تكفير الفلاسفة واتهامهم بالإلحاد والزندقة بل وتنفيذ أحكام بالإعدام في حقهم، عقابا لهم علي أفكارهم، يقول الدكتور توفيق الطويل في كتابه " قصة الصراع بين الفلسفة والدين " :" أنه لا يحدث نزاعا بين الدين والفلسفة إلا إذا اجتمع أمران؛ الأول أن تكون لدي رجال اللاهوت سلطة تمكنهم من اضطهاد العقل وأهله، فإن أعوزتهم السلطة قنعوا بالغيبة وانتقموا بالنميمة، والثاني أن يكون هناك عقل يجرئ علي اقتحام منطقة الحرام التي حرمها رجال اللاهوت، وارتياد أفاقها، والانتهاء منها إلي اكتشاف مجهول أو إنكار مألوف".

وهناك وهم كبير لدى كثير من الناس بأن الفلسفة تتعارض مع الدين، وهو قول يقوم على غير ذي أساس، لأن الفلسفة هي نشاط عقلي يسعى لإدراك الكون الذي نعيش فيه، وتحليل العلاقة بيننا وبين هذا الكون، والدين بدوره يقوم بتفسير هذا الكون، كما يحدد كيفية تعاطينا مع الحقائق الموجودة فيه، سواء كانت مادية أم روحية·

لذلك أعتقد أن هناك علاقة وثيقة بين الفلسفة والدين قد تميز الدين الإسلامي بقيامه على منظومة تشريعية متماسكة ركينة، على نحو غير مألوف في الأديان الفارطة . كما امّاز هذا الدين بتوليفة عقدية متكاملة واضحة المعالم، برغم بنيتها الميتافيزيقية الخالصة .

ونحن نعلم أن العقل المجرد يضيق بالميتافيزيقا ولايرضى مصالحة تربطه بها،ورغما عن ذلك وجدنا أن ميتافيزيقا الإسلام لقيت نفوذا غير مسبوق لدى العقل الفلسفي الإسلامي؛ فلم يلفظها، بل عقد معها قراناً توفيقياً أقره وشهد عليه جمهور فلاسفة العرب والمسلمين.

وفي واقعنا المعاصر تعود المعركة بين العلوم الشرعية والعلوم العقلية، وتتخذ أشكالا ومسميات أخري مثل: الإسلام والعلمانية، والإسلام العصرانية، والإسلام والمادية، الإسلام  والحداثة، وغيرها من المعارك .

ويحاول العقلاء من الطرفين إيجاد صيغة عصرية لبيان ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال وفض الاشتباك وتجاوز العثرة الحضارية، إلا أن محاولاتهم إلي الآن ما زالت تلقي المصير نفسه والذي لقيه ابن رشد ورفاقه وغدا لناظره بعيد.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

.............

1- خالد إبراهيم المحجوبي: جدلية الفلسفة والدين... مقال..

2-الإسلام والفلسفة .. قراءة ثانية .. يوتيوب..

3-احمد السعداوي: الدين والفلسفة ووهم التعارض.. ... مقال..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم