صحيفة المثقف

داخل المكان.. (الزمان والمكان معاً)..

قراءة في كتاب: د. جمال العتابي .

يحاول د. جمال العتابي في كتابه الجامع غير المانع لموضوعات مختلفة (داخل المكان) يحاول رصد الزمان عبر قراءة مستفيضة للمكان، وهو يدخل على موضوعاته بنوع من الحميمية والمعرفة بها عن دراية وحالة من التماس، وداخل المكان، عنوان يحمل بين طياته غايته الدلالية الواضحة اذ يهدف الى وضع اليد على تفاصيل غير متوقعة في المكان المزمع قراءته، لقد قسم الكتاب الى اكثر من ثلاثين مقالاً تراوحت اغلبها بين قراءة مخلصة لتاريخ الامكنة، التي عاش فيها وادرك اسرارها وخفاياها كمقالاته الثماني عن (مدينة الحرية عمارة انسانية) وهي من شغله السردي المهم والمؤثر في نفوس قرائه حيث قدم لنا صور رائعة وبانوراميا تثير الاعجاب، خصوصاً لدى الذين عاشوا في هذه البقعة الحميمة لدى الكثير ممن عاش في مدينة الحرية وعاصر وشهد جل الاحداث التي مرت بها المدينة او تفاعل مع بعضها، وقد سعى لارضاء خاطر تعرض الى انتهاك، هذا الخاطر النبيل الذي عرف به جمال العتابي ومن كتب عنهم، ومن تعرض الى المزيد من التهميش والاقصاء او الاعتقال، وهو ليس شاهدا فقط بل احد الذين وقع عليهم الاضطهاد والأذى بسبب الفكر الذي تبناه منذ كان طالبا في المرحلة الاعدادية كذلك من خلال اب مناضل عنيد وقوي الشكيمة، وعلى ذكر المناضل اقصد به الراحل حسن العتابي، المعلم والانسان الصلب كلنا نعرفه عن قرب، نحن الذين كنا نرتاد مقهى الساقية ومقهى ابو خالد، فقد كان الرجل ملتزما بمبادئه، يدرك خطواته القادمة، متوقعا ما الذي سيواجهه من صعوبات بل ومطاردات عسيرة تلوح في الافق دائماً، وكان بيته محط انظارنا جميعا، ولقد مزج المؤلف (د. جمال) بين سيرة والده المناضل، مع ما مر به اليسار العراقي من تجارب مريرة، لمناضلين قدموا تضحيات جسام كمظفر النواب وعلي عبد الحميد مدير مدرسة الفجر، وعبر متابعة مضنية ومدركة، قدمتها صفحات الكتاب بصورة مشرقة وواضحة ..

داخل المكان، محاولة جادة لأعادة كتابة التاريخ الوطني، من خلال عنصرين مهمين اولهما المناضل السياسي، الذي قدم التضحيات تلو التضحيات، وثانيهما المهمش و المنسي وهو تاريخ يعني لدى المؤلف خصوصية الالتزام بهموم الناس، وان كان الاب هو البوصلة للطريق الطويل والصعب: (... مشيا على الاقدام او ظهر فرس، لابد لحسن العتابي ان يصل الشطرة، ويمضي يوم الجمعة للاتصال برفاقه، يعود محملاً بالاسرار والكتب ومجلات الاديب والرسالة والهلال التي توفرها مكتبة الغراف) ص37 . ان سيرة المعلم المناضل (حسن العتابي) وحدها يمكن ان تضع الكثير من النقاط على الحروف، فيما يخص الحياة السياسية في الخمسينات والستينات والسبعينات، من القرن العشرين، وما عاشه من اختار النضال طريقا للوصول الى اهداف نبيلة وسامية ، وهذه السيرة التي اراد المؤلف ان يكون الفاعل والشاهد عليها، يعلم كم عدد الذين يشهدون ويشاركونه الشهادة، على نقاء هذه السيرة ونظافة صاحبها رغم الاعتقالات والتعذيب والمطاردات عبر كل العهود والحكومات الوطنية اوالقومية النزعة .

امر طبيعي ان يقسم د . جمال العتابي كتابه (داخل المكان) الى اقسام اشبه بالفصول معتمدا على اهمية الموضوع وقربه من المتلقي اولاً ومعرفته الشخصية له، ولعل مدينة الحرية لأهميتها الحياتية والاجتماعية في تشكيلها لشخصية المؤلف (في شبابه) نجدها قد فازت بعد التركيز على موضوعة النضال الوطني، يأتي دور المدينة لتحتل مكانة مبرزة في الكتاب: (مدينة الحرية كانت انيقة بساكنيها، وفي بيوتها نسل طيب ينتمي لكل الاعراق والقوميات من عرب وكرد وطوائف، فسيفساء مختلفة عن بقية احياء بغداد الاخرى ... هي مسكن لمبدعين من المثقفين والفنانين والاكاديميين في اختصاصات وميادين متعددة) ص51 / 52. لذا نجدها كموضوعة قد فازت بحصة الاسد في فصول الكتاب وصفحاته وفقراته اذ خصص لها اكثر من ثمانية حقول تعريف بها وبتاريخها وناسها وفنانيها ومثقفيها، مقاهيها ومغنيها وبرياضييها الذين بزغوا في ملاعبها الشعبية ثم تسلقوا سلم المجد في الرياضة العراقية، لم يبخل الكتاب على مبدعي (المدينة) كما يطلق عليها اهلها وساكنيها، ولعل من طلع مغنيا منها نال من الكتاب الاوفر حظا من الصفحات، وتشير الى اسماء بارزة في الغناء الستيني: ــــ فاضل عواد صاحب الاغنية الاشهر (لا خبر) وسعدون جابر واغنيته المعروفة والتي قدمته للجمهور (افيش بروج الحنية) ثم ينعطف الى كاظم الساهر واغنيته الاولى (الحية والحبل) وبهذا يمكن ان يكون داخل المكان سجل حافل بالكثير مما لا نتوقعه من مؤلف واحد، في الوقت الذي نجد الكتاب يمكن ان تتوزع موضوعاته على مختلف الاختصاصات او مشارب مختلفة، كيف لمؤلف واحد ان يحتويها بالبراعة التي اعتمدها د . جمال العتابي وخصوصا اننا لم نلحظ اللغة قد تبدلت او هبطت او تغيرت نبرتها الهادئة، وبشاعرية يصف فيه القاص غانم الدباغ بعد مجيئه الى بغداد تاركا مدينته الموصل: (ولأنك لا تريد ان تضيع المفتاح الصغير للدخول الى العصر، تركت الضجيج والدوي والاجوبة غير المقنعة، ففتحت لك بغداد بيتها وقلبها ورحت نحو الافاق المشرقة، تنتج وتعطي ابداعا وانسانية، ليزهو من بعدك مريدوك بما منحت من عطاء ...) ص 126...

ان اي محاولة للكتابة عن هذا النوع من الكتب، التي تشتغل على حشد من الموضوعات المتباينة، في اتجاهاتها حتى لو بدت لنا للوهلة الاولى انها موضوعاً واحداً من خلال العنوان (سنكتشف ان الكتاب هو سيرة ذاتية للمؤلف) الا اننا سندرك ضرورة تعرفنا عليها، وسنرى كم هي قريبة منا ومن همومنا اليومية الساخنة كحديثه عن مجموعة الاصدقاء الذين اختاروا المنفى قسرا : ابرزهم الشاعر المغترب جليل حيدر ورسام الكاركتير بسام فرج والناقد السينمي رضا الاعرجي . وحال هؤلاء كحال الاخرين الذين استمروا يعيشون في الوطن كأنهم لا يعيشون فيه ولا ينتمون اليه انهم غرباء عن المكان الوحيد الذي يملكون ..

 

جمعة عبد الله

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم