صحيفة المثقف

هو وأرضه الموعودة.. ما كشفه أوباما وما أخفاه فى كتابه!

عبد السلام فاروقتوقيت ذكى اختار فيه الرئيس الأسبق باراك أوباما إصدار كتابه: (أرضٌ موعودة- A Promised Land) يُضمِّنه أحداثاً ورؤى عايشها خلال فترة رئاسته لأمريكا التى امتدت لثمانية سنوات كاملة بين 2009 و 2017. فالعالَم ظل على مدَى شهر كامل يتابع أخبار الانتخابات الأمريكية المنقسمة على ذاتها بين سياسة اندفاعية يمثلها ترامب رأس حربة الحزب الجمهورى اليمينى، وبين سياسة دفاعية يمثلها جو بايدن بانتمائه اليسارى وحزبه الديمقراطى الليبرالى ونهجه العقلانى المسالم. لقد صدر الكتاب فى أوج ذلك الشغف العالمى بأمريكا وأخبارها وأسرارها التى لا تنتهى.

والكتاب ليس هو الكتاب الأول لأوباما؛ بل سبقته ثلاثة أو أربعة كتب أخرى : الأول هو: "أحلام من أبى- قصة عِرق وإرث" عام 1995، وكتاب "جرأة الأمل- رؤى حول استعادة الحلم الأمريكى/ 2008"، بالإضافة لكتاب تضمن خطاباته . وجميعها كتبها قبل أن يصبح رئيساً. وهذا ما يميز كتاب "أرض موعودة" باعتباره كتاب أوباما الوحيد بعد الرئاسة. بطبيعة الحال لم تكن تلك الكتب جميعاً ذات طابع جماهيري، فهى ليست سوى سيرة ذاتية لسياسي شهير، وقٌرّاء تلك النوعية من الإصدارات الجافة حول العالم مهما بلغ عددهم فهم بالآلاف . بينما حقق الكتاب الأخير لأوباما مبيعات بالملايين داخل وخارج أمريكا وكأنه كتاب جماهيري يخاطب عموم الناس. وكل هذا لم يحدث إلا بفضل الزخم الإعلامى الذى أحاط بالانتخابات الأمريكية 2020. وهو لم يختلف عن سائر كتب أوباما السابقة الخالية من أية أسرار أو إثارة  لكنه حاز شهرة لم ينلها أى كتاب آخر لأوباما، وربما تصدر سباق الأسرع تداولاً عالمياً!

والحق أن أوباما واحد من رؤساء أمريكا الأذكياء المميزين، فهو لم يكن غبياً ضحلاً كجورج بوش الابن، ولا هو شخصية كاريزمية هائلة كإبراهام لينكولن، ولا شخصية صدامية كترامب. لقد كان مؤثراً ذا بصمة واضحة فى مجريات الأحداث بهدوء وعقل. فهل كان ذلك بسبب تواتر الأحداث العالمية المحورية خلال الفترة التى قضاها، أم بسبب طريقة معالجته لتلك الأحداث؟

من هو أوباما؟

برغم تركه لمنصبه كرئيس لأكبر دولة لم يزل أوباما يحظى باحترام كبير لدى خصومه وأنصاره معاً؛ حتى أن ترامب النرجسى المعتد بذاته كان يعير أذنيه لحكمة أوباما ونصيحته. وربما كان ذلك النهج هو المتبع لدى تلك الفرقة السياسية التى ينتمى إليها بايدن وهيلارى كلينتون وغيرهم من الليبراليين الذين يجيدون احتواء خصومهم بهدوء وبلا صخب .

إنه أوباما الحائز على جائزة نوبل للسلام فى أول عام يتولى فيه منصبه  كرئيس. وهى سابقة لم ينلها رئيس من قبله لا فى أمريكا ولا فى أية دولة أخرى. تضاف إلى سابقة أخرى كونه أول رئيس من أصول إفريقية يصل لحكم أمريكا. وكان من قبلها سياسياً ناجحاً كعضو مجلس شيوخ لثلاث فترات متعاقبة . حقق شهرة واسعة بفضل ذكائه فى استغلال أساليب الدعاية الإعلامية منذ 2004 ؛ حيث انتشرت خطاباته التليفزيونية المحلية فى إلينوى، وساعدته وسائل التواصل الاجتماعية وإجادته لها للتواصل بشكل جيد مع الشعب الأمريكى خلال حملته الانتخابية فى 2008 حتى تمكن من اعتلاء صهوة الحُكم. وهو ذات العام الذى تعرض فيه لمحاولة اغتيال تم إجهاضها فى مهدها؛ إذ تم القبض على شخصين من النازيين الجدد ذوى الميول المتطرفة خططا لاغتيال أوباما بسبب لونه، كان مخطَّطاً عنصرياً من غربيين بيض.

وربما كانت قضية العنصرية جوهرية ومحورية فى حياة أوباما الإنسان، لا أوباما الرئيس. وقد أفرد لها قسماً كبيراً من كتابه الجديد؛ إنه ينتصر لها بشكل شخصى نابع من تجربته المتفردة.

 لقد جمع أوباما بين عدد من المتناقضات : فهو برغم حصوله على دكتوراه فى القانون من جامعة هارفارد فقد درس الفنون وحصل على شهادة جامعية فيها. وعندما أراد تعلم لغة جديدة اختار اللغة الإندونيسية التى قضى بها طفولته. وهو مسيحى بروتستانتى يحرص على زيارة كنيسته جيرميا رايت ويناصر قضايا اليهود رغم كونه يحمل اسماً ذا أصل مسلم. ومظهره يوحى بصغر سنه رغم أنه شارف على الستين ويدير أموره بحكمة كهل تعدّى المائة، وربما كان هذا ما ربطه بالرئيس الحالى العجوز  بايدن: أنهما يفكران بنفس الروح والأسلوب، فلماذا قرر أوباما أن يصدر كتابه الآن ؟ وما هى الرسالة المتضمنة فى هذا الكتاب؟

سر الأرض الموعودة

كان واضحاً أن كتاب أوباما من ورائه اللوبى الصهيونى، والدليل العنوان..

صحيح أن أوباما أحب أن يفلت من تهمة التحيز لإسرائيل بالإشارة إلى التورية المقصودة من وراء عنوان كتابه "promised land" على اعتبار أنه يقصد أمريكا كأرض الحلم لدى شعوب العالم ورؤيته لاستعادة هذا المفهوم. إلا أن بصمة تأثير اليهود موجودة حتى فى تعليقاته بالكتاب إذ يقول عن نتنياهو الذى نعرف أنه يبغضه ويحتقره فى مكنون نفسه، بدليل ذلة اللسان التى وصف فيها أوباما نتنياهو بأنه يكذب كما يتنفس، لكنه عاد وأكد قائلاً: "أن الخلافات السياسية مع رئيس وزراء إسرائيلي لها تكلفة سياسية داخلية" أى أن اللوبى اليهودى الأمريكى باستطاعته التأُثير على أوباما وتصريحاته التى تجنب فيها الصراحة لصالح اليهود.

كتاب أوباما صدر على جزءين فى نحو 768 صفحة، وقد جنى منه مكاسب فاقت راتبه من رئاسة أمريكا خلال السنوات الثمانية جميعها! باع منذ أول يوم نحو 890 ألف نسخة فى كندا وأمريكا فقط بعائدات وصلت إلى 20 مليون دولار! وتمت ترجمة الكتاب لأكثر من 20 لغة، ومن المتوقع أن تصل مبيعاته السنوية لنحو 30 مليون نسخة بعائدات قد تصل لنصف مليار دولار!

فهل كان باستطاعة أوباما إصدار كتاب بهذا الحجم من الدعاية العالمية الهائلة لولا مساعدة اللوبى الصهيونى المتحكم فى الإعلام الأمريكى والعالمى؟.

ليس هذا فحسب. فأوباما لم يكن باستطاعته أن يصرح بكل شئ يرغب فى قوله. فالمسكوت عنه فى هذا الكتاب الضخم يفوق بمراحل ما تم الكشف عنه. أوباما ليس حراً فى أن يكشف عن حقائق يعتبرها البنتاجون والسي أى إيه أسراراً أمريكية.

لهذا فإن أكثر من اطلع على الكتاب بصورة أولية لم يشعر بالشبع، فالكتاب ينقصه الكثير ليصبح مفيداً لنا كقراء عرب. خاصةً وأن أغلب الكتاب ركز على القضايا الداخلية الأمريكية كالعنصرية والانقسام والاقتصاد.

قال .. ولم يقل!

كتاب أوباما مقسم لثمانية فصول تحوى سبعة قضايا بعضها قديم ينتمى لكتاباته السابقة كموضوع الأمل والحلم الأمريكى والعنصرية . والبعض الآخر تعمَّد فيه الاتجاه لتبرير ذاته وتقديم نفسه كبطل أمريكي استطاع انتشال بلده من أزمة اقتصادية عصفت بالبلاد فى أعقاب انهيار البورصة العالمية عام 2008، بإقراره لقانون "أوباماكير" للتأمين الصحى للأطفال، بالإضافة لقانون التحفيز الاقتصادى الذى وصل حجم تمويله إلى 790 مليار دولار منذ السنة الأولى لتوليه الحكم. ثم أنه انتقل للحديث عن العنصرية التى تشغله بشكل شخصى، وهى القضية التى اتخذها كمدخل للحديث عن حالة الانقسام التى ألمت بالمجتمع الأمريكي . تطرق أيضاً لنظرية المؤامرة كتفسير لما يحدث على الصعيد الداخلى والعالمى وأنها غير مجدية حيث تغيب الحقائق فى خضم الأباطيل والأكاذيب. وكعادة أمريكا فى نظرتها الكلية، اتجه أوباما قرب أواخر الكتاب للحديث عن العالَم ككل وأنه يشعر بالتفاؤل الحذر تجاه المستقبل، وأنه يعول على الشباب باعتبارهم أكثر انفتاحاً وتقبلاً للتغيير.

فى ذيل الكتاب فقط اتجه للحديث عن الشرق الأوسط تحت عنوان كبير عن الوهابية! وهو ما يكشف عن حالة تكتنفه كغيره من رؤساء أمريكا الذين تعاقبوا عليها، هى حالة الازدراء التى ينظر بها وإلى ظهره الصهاينة نحو العرب وقضاياهم. وقد تجلى هذا الأمر عند حديث أوباما الصريح عن زعماء العرب كالرئيس مبارك والملك عبد الله والذى كان حديثاً لا يخلو من تلميحات سلبية. بينما تختلف طريقة أوباما عندما يأتى على سيرة نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل حيث تتسم لهجته حينها بالاحترام المشوب بالخوف والحذر.

الكتاب بشكل عام ذو لغة دبلوماسية بليغة كعادة أوباما الذى يعتبرونه أبلغ الرؤساء منذ لينكولن. لكنه يتجنب الصراحة والحقيقة المثيرة الكاشفة ويكتفى بحقائق رسمية سطحية لا تشفى الصدور ولا ترضى الفضول.

 

عبد السلام فاروق

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم