صحيفة المثقف

عقدة النقص.. الشعور بالدونية

"من الكمال ان تدرك نقصك ومن النقص ان تظن نفسك كاملا"

يعرف علم النفس عقدة النقص بانها شعور الفرد بوجود عيب فيه يشعره بالضيق والتوتر ونقص في شخصيته مقارنة بالاخرين، وهو مرض نفسي شائع بل ويعتبر من الامراض الاكثر شيوعا في وقتنا الحاضر.

وككل مرض نفسي لابد من البحث عن جذوره وهي الطفولة الاولى، هذه المرحلة الخطيرة التي تعتبر مرحلة البناء والهدم في حياة الانسان، وفيها تتبلور شخصيته وتتكون وتزدهر، ان السنين الخمسة الاولى في حياة الطفل تعتبر الحجر الاساس الذي تبنى عليه حياته وتاخذ مسارها خيرا اوشرا، والتي تعتمد بالدرجة الاساس على نموه وتربيته الاسرية ثم المحيطية، في هذه المرحلة العمرية تكون حواسه على اوجها لاستقبال المعلومات وتدوينها واكتساب المهارات والسلوكيات والقيم والمبادئ التي تتعزز بنفسه وترسخ بذاكرته، وتعتبر الخزين او الرصيد الذي يمده بالديمومة فيما بعد..

ولقد فرق عالم النفس "الفريد ادلر" بين الشعور بالدونية الاولي والثانوي وسنتناوله بشئ من التفصيل:

-الشعور بالنقص او الدونية الاولي هو الشعور المتجذر في نفس الطفل للضعف وقلة الحيلة والاتكالية، ويتطور لاحقا عن طريق المقارنة مع الاخوة والاقران، وينشا هذا النقص بين الاخوة عادة نتيجة المفاضلة بين الاخوة لسبب اولاخر، اما بسبب تفضيل اخ على اخ لانه الكبير او الصغير او انه يعاني مرضا او لانه الاذكى او الاقرب لسبب او لاخر او حتى الاجمل!

فيتولد احساسا بالنقص لدى الطفل الذي بات يشعربانه الادنى  خصوصا اذاكانت شخصية الطفل تتسم بالحساسية المفرطة تجاه المواقف والاشخاص فهذه السمة تختلف من طفل لاخر وان كانوا اخوة! وهذا النقص بالتعامل والاحتياجات فرضت عليه نوعا معينا من الشعور بالدونية اعقبته وساوسا بدات تنخر بعقله وهو السؤال الذي يلح عليه لماذا!!

لماذا يحصل اخاه على كل شئ تحت اي بند ويحرم هو، بل لماذا يفضل عليه اخاه اصلا! لماذا يشتري صديقه كل مايريد وهو لايستطيع ذلك!لماذا يذهب جاره الى مدينة الالعاب في العيد فيما يبقى هو بالبيت! لماذا عليه ان يصمت ولايجادل حتى وان صودرت حقوقه فيما يستمتع اخاه بذلك! وتعتبر هذه الفقرة الاكثر تعقيدا بالنسبة للطفل فقمع حريته ومصادرة رايه واجباره على الصمت وتجاهله اوالشعور بالخجل منه لاي سبب يجعل العقدة مزدهرة في نفسه!!

فهي اذن عقد طفولية بامتياز تنشا نتيجة سوء معاملة الاهل او اهمالهم للطفل او قسوتهم عليه تساعدهم بذلك تقبل الشخصية نفسها واستجابتها للعقد، وغالبا ماتستجيب لذلك" الشخصية الوسواسية" التي تهوّل الاموروتضخمها وتهتم كثيرا بالتفاصيل الصغيرة، فمايؤثر في هذا الطفل قد لايؤثر باخيه وان تشابهت المعاملة! ونتيجة لهذه الظروف و الضغوط الكثيرة التي تكالبت

تنشا العقدة التي تكبر يوما بعد اخروتتغذى وتزداد هوتها حتى تتحول الى مركب نقص!

-الشعور بالدونية الثانوي وهذه تخص البالغ لعدم قدرته على الوصول الى هدفه، وهو عجز عقله الباطن عن القيام "بتعويضه "عن ذلك النقص لانه شخص سلبي فذلك النقص سيشعره حتما بالدونية كنتيجة لهذا النقص، والذي غالبا مايكون الفشل حليفه نتيجة لضعف الثقة بالنفس او انعدامها التي تولد شعورا مفرطا بالحساسية تجاه الاشخاص والمواقف التي يواجهونها فيتعاملون مع هكذا اشخاص ومواقف بمنتهى العدائية وهي ردة فعل لفعل كبت في نفس المريض وبقي يتحين الفرصة للنيل او للثار لنفسه!

والشعور بالنقص هو احساس الشخص بانه ادنى مستوى من الاخرين من حيث الصفات الاجتماعية كان يكون الشخص معروفا او مشهورا او محبوبا او الصفات الجسدية كان يكون طويلا اوجميلا او وسيما او الصفات الفكرية كان يكون عالما او مخترعا اوشخصية عامة فنانا رساما، كاتبا وهكذا..

او الجانب الاقتصادي الذي يورث الطبقية التي تورث فجوة بالتعامل بين الغني والفقير او استشعار احدهما لذلك وحساسيته المفرطة من ذلك الامر الذي يعجز بسببه ان يتعامل بمرونة

ومن هناالشعور بالنقص ينبع من مقارنة الشخص بالاخرين والتركيز على نقطة معينة والمحاولة للنيل منهم .

فالشخص الذي يشعر بالنقص تجاه امر ما يجد صعوبة للتكيف مع الاخرين، بل ان نجاحاتهم وتميزهم مهما كان يشعره بعجزه ويفاقم الامر عليه، فتراه يتصيد المواقف والهنات ويحاول ايقاع الاخرين بل انه يتغذى على خسارة وماسي الاخرين لان ذلك يشفي غليله ويشعره بالنشوة!

ويمكننا ان نرجع اسباب النقص عند الانسان الى:

-التنشئة الاسرية والتي تنشا نتيجة التربية الخاطئة التي تعتمد العنف والقسوة واشعار الطفل دائما بانه صغير او مهمل وتوبيخه بسبب ودون سبب نومصادرة حريته ورايه او مقارنته الدائمة باقرانه والتي يعتبرها مستفزة بل ومقرفة الى حد كبير.

-العيوب الخلقية وهذه تتعلق بالمظهر العام للطفل والتي تتعلق بشكله الخارجي من حيث اللون، الطول، او ان يكون بدينا جدا يثير سخرية الاخرين او نحيفا جدا يتعرض لنفس السخرية، ناعما او خشنا، اشعث الشعر او فيه عيب خلقي كان يكون اعرجا او فيه عاهة من اي نوع كمرض معين او حروق او امراض جلدية او عيوب تتعلق بالنطق كالتاتاة او مشاكل تتعلق بالنظر، فهذه الامور كلها تترك اثرا بالغا في نفس الطفل تجعله يشعر بالنقص.

-التمييز الاجتماعي وهذا يتعلق بالطبقية الاجتماعية من حيث الحسب والنسب والهوية وغنى الفرد او فقره، او تمييزه على اساس عرقه اوجنسه وديانته ومعتقده.

هذه الامور وغيرها يترجمها العقل الباطن لديه كاسباب" نديّة" تجعل من المقابل هدفا للنيل منه حسب الموقف الذي هو فيه، فيصب الشخص المريض اهتمامه لاظهار المقابل بالمظهر الغير لائق ويسعى الى تشويش صورته امام الاخرين باي وسيلة.

ومن نتائج الشعور بالنقص مايلي:

-الانطواء والانعزال بسبب الخجل من الاخرين والشعور المطبق بالدونية، الذي يمنعه من المواجهة او التصرف بثبات.

-التعثر بالاداء وهذا يشمل الاداء الاجتماعي والعملي في الحياة اليومية حيث يسيطر الشعور بالفشل على عقل الشخص الذي تمكن منه النقص فشّله عن اداء وظيفته بشكل صحيح.

-جلب الانتباه قد يعبر الشخص الذي يعاني من نقص ما عن انفعالاته بجلب انتباه الاخرين عن طريق القيام بافعال الهدف منها جلب الانتباه كان يتكلم عن نفسه كثيرا، عن بطولاته الخارقة التي ربما تكون غير موجودة اصلا ومن نسج خياله، او يقوم بقيادة السيارة بسرعة جنونية او ان يسرف ويبذر بالمال بلا حساب ليشعر الاخرين بانه يمتلك المال وهكذا.

-اصطياد الاخطاء للاخرين فقد يحرص المصاب بعقدة النقص على اظهار عيوب الاخرين والمجاهرة بها اواشعار الاخرين بمواطن النقص عندهم ليس من باب التصحيح بل لكي يشعر بالارتياح او كما يقال لسد النقص!

-التردد في اختيار القرارات لان شبح سوء الاختيار او الخوف من اختيارات خاطئة تعود عليه بالفشل الذريع تجعله مترددا متوجسا لايقوى على اتخاذ اي قرار مصيري او غير مصيري يعود بالسوء عليه.

واذا تاملنا في حياتنا اليومية من خلال علاقتنا الاجتماعية او الناس الذين صادفناهم بالحياة سنجد ان هناك هوايات غريبة تقوم على اقتناء اشياء، هذه الاشياء هي ذاتها تكون قد حرم منها هذا الشخص بطفولته او بوقت من الاوقات والان بدا يسدد فاتورة نقصه باقتناءها وبكثرة تصل حد المبالغة والاسراف، فمثلا تجد شخصا لم يستطع امتلاك ساعة بوقت ما وهو الان يمتلك عشرات الساعات بكل الماركات العالمية وباغلى الاسعار يقتنيها فقط لاجل التجميع، والاغرب انه لايستخدمها لكنها تشعره بالشبع! او ذاك الذي عجز عن استخدام الهاتف بوقت من الاوقات لسبب او لاخر وها هو الان يقتني عشرات الهواتف ويضعها في فاترينة لغرض العرض فقط! لانها تشبع عنده فكرة النقص التي مازالت مسيطرة عليه! وكذلك الحال ينطبق على شراء العقارات او السيارات او الملابس او حتى الالعاب، وهذه حقيقة فهناك بالغين من كلا الجنسين يقتنون العابا حرموا من اقتناءها في طفولتهم!!

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل هناك عقد نقص صحية!

 نعم لكل شئ في الحياة وجهان، وهذه العقدة تنشا مثلا عند انسان لم يستطع اكمال تعليمه فتراه يجتهد ويحاول باي طريقة ان يدرس حتى وان كان كبيرا بالعمرمن اجل اشباع تلك الرغبة، او انه يسد عقدة نقصه بتعليم ابنه تعليما عاليا يجعله يفخر به، او من اكمل تعليما متواضعا فالممرض مثلا قد اجتهد لان يصبح ابنه طبيبا معروفا وهكذا، او انه كان فقيرا معدما لكنه جد واجتهد ووصل الى مستوى من الحياة فيقال فلان"عصامي"، هذا الانسان الذي كان يعمل عاملا باي مهنة وتشرب اصول المهنة بصبر واناة واجتهد ليؤسس عمله الخاص فنجح بذلك، فيما افسد الدلال ابن رب العمل! او المراة التي حرمت من الانجاب لسبب اولاخر فتعمل كمديرة لمؤسسة رعاية الايتام لتشبع حاجاتها الى الامومة، فهذه عقد صحية ومحمودة الهدف منها نبيل وهو اشباع النقص بطريقة صحية.

لكن بعض الناس حرم في طفولته من اي شئ وترك في نفسه اثرا، فآثر الا يعيد الكرة على ابنه وتجاوزها دون ان يشعر ابنه بشئ فعوض حرمانه بان يغدق عليه، بل انه بالغ بتدليل ابنه ليسد نقصه فانقلبت عليه الاية وزاد الطين بلة وادى ذلك الى انحراف الولد!! وهذه الحالات كثيرة بل ان من اسباب الانحراف، هي المبالغة بتدليل الابن، ذلك الدلال المبالغ فيه الذي كان ريعه خسارة الابن!

ان عقدة النقص او الدونية اومركب النقص اذا ماتمكن من الشخص فانه كفيل بان يحطم حياته وحياة من ارتبط به ثم الاسرة التي كونها والكلام هنا عن مجموعة افراد وليس فردا واحدا بل ان الامر يتعدى ذلك الى محيط العمل والناس الذين يتعامل معهم من زملاء واصدقاء، والامر مرهون بارادة الانسان وقدرته على الاستشفاء من هذه الامراض اما بحضور محاضرات التنمية البشرية التي تعتبر الانسان اعلى قيمة من خلال ممارسة التامل الذي يعيد للانسان صفاءه الذهني وتوازنه النفسي والسلوكي، عن طريق تغيير برمجة عقله الباطن بتزويده بمعلومات وكلمات اكثر ايجابية وتكرارها حسب قانون التكرار الذي ستكون نتيجته التغيير التدريجي الذي ينعكس على مضض ويظهر على سلوك الانسان، من اجل حياة هادئة مريحة خالية من العقد، لان الحياة سليمة تاتي من نقاء النفس من الشوائب وراحة البال والشعور بالرضا وطمانينة القلب التي تنعكس على حسن التعامل مع النفس ومع الاخرين. او باللجوء الى الطبيب النفسي وهي حالة صحية الغاية منها حياة صحية سليمة، في حين يعتبر البعض ان الطبيب النفسي هو المرحلة الاخيرة التي تسبق الجنون في حين ان الطبيب النفسي هو اول خطوة يلجا اليها الانسان كي يتفادى جميع الامراض والعقد التي تعكر صفو حياته وحياة من ارتبط به، هذه الخطوة كفيلة بان تجعل الانسان يعيد حساباته من جديد لكي يستطيع الاستشفاء لتفادي الاخطاء والعراقيل التي من شانها ان تنغص الحياة لان"العقل السليم في الجسم السليم"، والاهم من كل ذلك رجوع الانسان الى ربه وممارسة الطقوس التعبدية لما فيها من روحانيات عالية تجعل الانسان يشعر بالراحة النفسية وهو يقرا كتاب الله ومافيه من مبادئ تدعو الى الفضيلة واحترام الاخرو تحث الانسان على ان يهتدي بهدي القران وسراطه القويم لتطمئن نفسه ويحيا حياة امنة"ولاتتمنوا مافضل الله به بعضكم على بعض" النساء32

وبسنة رسوله وجعلهما القدوة التي يقتدي بها التي تذكر الانسان بادميته، وانه سيكافا بالفوز والفلاح لان الله ورسوله دعانا الى حب الاخرين واحترامهم" لايؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه" وتلك قاعدة ايمانية سامية دعانا اليها رسولنا الكريم فيها تزكية للنفس البشرية من الاحقاد والضغائن باعتبار ان الانسان خلق باحسن تقويم.

 

مريم لطفي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم