صحيفة المثقف

أن تعيش لتحكي (1)

كاظم الموسويليس يسيرا على من احب الحرف. انشغالا أو تفاعلا، الا ان يكتب ويعبر عن مشاعره واحاسيسه، ابداعا أو تسجيلا للحظات تكمن فيها القدرات الذاتية للإنسان المبدع، وليس صعبا أن يعيش المرء ليكتب. او لا يكتب المرء دون أن يستطيع، الا اذا فقد الرغبة في تلمس الحروف وترتيبها، كعامل الطباعة ايام زمان،  أو الدافع اليها. أو كما قال  الشاعر الألماني ريلكه: اذا كنت تستطيع أن تعيش دون أن تكتب، فلا تكتب. ولكن هناك من يستطيع أن يجمع الامرين في ذات واحدة فيكتب، حينئذ، ليس ما يبدعه او ينتجه فقط، من أنواع الفن والادب، وانما مذكراته التي تلخص للقارئ حياة صاحبها بكل ما حوته من البدايات، حتى ما يمكنه أن يتوقف عن الكتابة.. وما شملته من تعرجات تحتمل كل شيء، نجاحات وخيبات، انتصارات وهزائم، علاقات وخصومات، أو ما تعنيه محتويات صندوق الدنيا بكل ألوانه. وبما يلزمه من مصداقية أو بوح انسان مدرك لرحلته الزمنية. هذا ما لخصه في خمسمائة صفحة من القطع المتوسط، في ترجمتها العربية، الروائي العالمي الكولومبي، الحائز على جائزه نوبل لعام 1982 جابرييل جارثيا ماركيز، وعنوانه، أن تعيش لتحكي، مذكرات.

وجبراييل جارثيا ماركيز (6 آذار/ مارس 1927 - 17 نيسان/ ابريل 2014)  في ترجمة د. طلعت شاهين  يكتب الاسم هكذا، وفي ترجمة صالح علماني، يكتب الاسم; غبرائيل غارسيا ماركيز، وفي الوكيبيديا يختم الاسم المفرد منها بحرف الثاء، (بالإسبانية: Gabriel García Márquez ) (وهذه قضية ينبغي أن تعالج في مؤسسات الترجمة العربية والمنظمات الإقليمية التي يعنيها الأمر، وتتفق علىها باعتبار المقابل والتلفظ الأصلي أو المعروف، وتوحيده عربيا بين مشرق ومغرب واجتهاد واختصاص). وكذا حصل مع العنوان، في ترجمة ما تناوله المترجم شاهين، أن تعيش لتحكي، بينما عند المترجم علماني: عشت لأروي. (وهذا سؤال آخر؟!) وكتب ماركيز في صفحة بعد الغلاف الاول، الحياة ليست ما عاشها الواحد منا، بل ما يتذكرها، وكيف يتذكرها، ليحكيها. وقصة الكتاب رواية أخرى للروائي، ولم يتوقع المترجم د. شاهين في تقديمه أن يقدم ماركيز على كتابتها، لأنه، كما رأى، كتب اغلب فصولها في رواياته التي كانت عاكسة حياته اليومية بتفاصيلها التي عاشها وشاهدها، ولكنه بعد كتابتها لم يخبر عنها لسنوات حتى إعلانه عن اتمامه الجزء الاول منها، ردا على الاشاعات التي انتشرت عن مرضه وإصابته بمرض السرطان. "وربما كان نشر الفصل الاول من مذكراته بشكل منفرد في جريدة الباييس عام 1998  كان نوعا من الرد على من اشاعوا خطورة مرضه، واقتراب لحظات موته، تناول في هذا الفصل ذكريات رحلته الاولى الى قريته "بارانكيا" لبيع بيت الجد القديم، ودور امه في تخفيف وقع اتخاذه من مهنة الكتابة حرفة لكسب عيشه على ألاب الذي كان يحلم له بمستقبل اكثر بريقا من تلك المهنة التي لا تجلب سوى الشقاء على من يحترفها" (ص(9  واتم ما نشر من المذكرات عام 2002 . وكان منذ طفولته مولعا بالفنون، بالرسم على الجدران، ومن ثم  على الورق، وتعلم الموسيقى والعزف والانشاد مع الفرق الفنية، ورغم مواجهته لصعوبات في تعلمه القراءة، الا أنه قرأ اول كتاب أهداه جده له، وكان عبارة عن قاموس كبير، عرف منه أهمية الكلمة والكتابة، وبعدها قرأ اول كتاب عثر عليه في بيت الاهل، واعجب بمحتواه وحكاياته التي كان يسردها لنساء البيت وضيوفه، حتى قال عنه خطيب عمته سارا عندما رآه يطالعه: يا الله لدينا طفل سيصبح كاتبا (ص(78  وعرف بعد ذلك أن هذا الكتاب هو جزء من  كتاب "ألف ليلة وليلة"، وظل وفيا لاختياره، لا يريد الا أن يكون كاتبا، مهما تغيرت المصاعب أو تعددت التحديات. وحاول جمع كل مواهبه وقدراته في التوجه نحو هدفه أو غايته الاسمى، الكتابة.  أن يكون كاتبا.

رد على أمه وهي تحاول إقناعه بالعدول عن تفكيره وارضاء والده الذي يريد له غير ما يخطط له، وهي تسأله "بطريقتها الماكرة: ماذا اقول لابيك؟، اجبتها من كل قلبي: قولي له احبه جدا، وانني بفضله سأصبح كاتبا. ثم واصلت بقوة لا تدع مجالا للشك: لن اكون سوى كاتبا". (ص81 ) وبإصرار وابداع وموهبة نقل كل ما شاهده أو عاشه أو سمعه الى الورق، كتابة، سردا، رواية. "منهجي في الكتابة حينها كان مختلفا عنه بعد ذلك ككاتب محترف، كنت اكتب حسب الترتيب المفهرس، لا زلت امارس هذه الطريقة لكني لم اكن اترك المقطع حتى انتهي منه تماما، - كما افعل الان- لكني كنت اكتب كل ما احمله بداخلي دون ترتيب. اعتقد ان ذلك نظام من الكتابة كانت تفرضه نوعية الورق المستطيلة المقطوعة من بكرات المطبعة.."(ص 82) وحين بدأ كتابة روايته فقد الإحساس بالزمن، كما كتب، واندفع بشدة في الكتابة، معبرا لصديقه: اني اكتب رواية عمري. وحين كتابته الرواية كان يفكر أو لا يزال عديم الخبرة"حتى اعرف ان الرواية لا تبدأ كما يريد الكاتب، بل كما تريد الرواية نفسها أن تكون، الى درجة أنه بعد مرور ستة أشهر بعد ذلك، وعندما اعتقدت انني قاربت على الانتهاء، أعدت كتابة الصفحات العشر الأولى بشكل مختلف حتى أستطيع  أن أقنع القارئ ولا زلت حتى هذه  اللحظة أعتقد أنها لم تكن كما يجب... " (ص 84).

 سرد مذكراته كروائي بتفاصيل ثرية، استخدمها في نصوص رواياته واضاف لها روحه الشخصية، بأسماء عائلته، وأصدقائه، نشاطاته الصحافية ولقاءات المجموعات الثقافية، الفنية والادبية، وعلاقات أبيه العملية، ودور امه في ترتيب شؤون العائلة، الاولاد والبنات، والاقرباء، وزيارات او تنقلات العائلة بحثا عن عيش افضل بين المدن وما يحيط بها من مفاجآت ومغامرات، له أو لابيه، مع النساء، والاعمال، مرورا بالمدارس التي درس وفعاليته الأدبية فيها، مع الربط الروائي بما يحصل في البلاد من تغيرات سياسية وفي العالم من تحولات دولية.

واصل همه الأول، الكتابة، في الصحافة والرواية، وكان مناخه المثالي، "منذ أيام الدراسة في مدرسة سان خوسيه كان ادماني للقراءة، كنت أقرأ كل ما يقع بين يدي، فكنت اقضي أوقات فراغي كاملة في القراءة وكل وقت الدروس تقريبا. بسنواتي الست عشرة، وبخط جيد ام لا،  كان يمكنني أن أقرأ واعيد القراءة في نفس الوقت وبلا مساعدة أو نظام، وكان كل هذا يتم تقريبا سرا أثناء الدروس المدرسية. (ص 190) واشار في ذلك إلى قراءته كل ما حوته مكتبة المدرسة من كتب ومخطوطات ومجلدات مهداة من بقايا مكتبات  إليها. كانت القراءة معينا له، لخياله الادبي، للسرد الواقعي والغوص في عالم بلاده وقارته وعجائبها التاريخية والثقافية التي نقلها بابداع ميزه كاتبا روائيا يستحق ما حصل عليه.

 

كاظم الموسوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم