صحيفة المثقف

مناحةٌ على أميرٍ طعين

كريم الاسديفي سهلٍ مديد، وفي ليلة قمراء، وقرب نهرين قديمين، عثرتُ عليكَ بعد غيابةِ بحثٍ طويلٍ كدتُ انسى خلاله ملامحك القديمة التي طبعتَها على ذاكرة صباي بقسوة ورفق..

ياالهي  ما الذي حل بك!!

هاجعا وجدتُك، يدكَ اليسرى تحت رأسك فيما يمينك ممسكة بالجرح القريب من قلبك، الجرح الذي تركته ابلغ طعنة من الطعنات التي اثخنت جسدك..

كنتَ غائبا عن الوعي او تكاد، وسمعتُك تدندن بكلمات قديمة رددها خلان قدماء فيما عيناك تحومان بين الكواكب والقمر..

قمرٌ ساطعٌ وكواكبُ لامعةٌ لمواساتك في وحدتك الموحشة!!

عريك، وجسدك المغطى بالضوء، وشحوب وجهك، والصفرة البادية على محياك، والوميض المنبعث من عينيك، وهذا التعبير الغريب الذي امتزج فيه الغضب بالعتاب بايماءات اخرى يصعب علي وصفها، كل هذا افزعني وانا انحني على جثمانك..

النصالُ المتكسرة قرب مضجعك، وبقعُ الدمِ المتيبس حول جسدك، والكلماتُ الحارة الحائمة حول شفتيك، والدمعتان الطويلتان المنحدرتان على نحرك، وكيانُك الفذ وهو ملقى على التراب المبتل بطهر دمك:

كل هذا اذهلني وشتتَ رؤاي!! 

اذكر بطنك الخاوي،  وشفتيك اليابستين، وكيف وأنت امير الكرام شحَّ عليك الاقربون بلقمةِ زادٍ وشربةِ ماء!!

وبينما ايقن الاخرون انك تحتضر وتمضي الى موتك،  كنت دون ان تدري تخلد وتحيا وتنصب نفسك أميراً على الجلال..

ولكم عز عليك وانت المربي والسامر والزكي ان تمدَّ يديك طلبا لمعونة من ابناءٍ عاقين واصدقاءٍ جاحدين وصحبٍ أنذال..

الشمائلُ العظيمة التي لم اعرفها عند غيرك، والهيبةُ الكبيرة التي لايتمتع بها احد سواك، والقلب المحب الطاهر الذي لم ينبض الا بين ضلوعك، والحنان العظيم المتدفق من عينيك نهرين سخيين : مزاياك وحدك التي سترحل معك ان رحلت، لذا هجرك الاوغاد، وغمرتْك بالضوء النجوم، وشعَّ عليك القمر، ولذا حفظتُ لك عهدك..

صديقي وسميري انت، والوتين النابت في قلبي، والاشعة المغروسة على هامتي .. وحيث اوغلُ في البعد عنك أجدني قريبا منك مصغيا الى صوتك القديم ياتيني مطرزاً بالطعنات والشموس..

الاديم الرائع انت الممتد فوق سهوب معطاءة كريمة، والضوء القادم من بعيد البعيد، والهواء حامل البوح، والماء واهب الحياة انت..

ولأن الحياة صنيعك تعلقتَ فيها تعلق الشاعر في قصيدته، والمثّال في تمثاله، والرسّام في لوحته ..

كي اكون وفيا لك لا اريد منحا منك فلقد منحتني مايكفي..

في وحشتك وغربتك ومرضك ومقاساتك وانفضاض الاحباب من حولك وتحديق الوحوش بك واغتسالك بالضوء، انحني اكراما لك..

(2)

بينما انت ذاهب في غيبوبتك تقلِّبُ نظرَك في السماء فتهتز الكواكبُ لسقمك..

بينما انت معانٍ وزامٌ على شفتيك  ارى هدأةً تعبر وجهك بين حين وحين فينعكس النور من جبينك وتعبر ملامحَك الذكريات: صبايا يعبرن الى الحقول، وصبية يترجلون عن الجياد، ورجال ينزلون الى القوارب، ونسوة يسجرن التنور وقت الغروب، وجمهرة من الطيور تعبر نحو خط الافق البعيد ولم تزل سابحة في دائرتك المديدة...

غابات من النخيل بلا حدود تقابلها غابات من البردي بلا حدود ...  بحرٌ شاسع مديد وصحراء مد البصر هي ذي حدودك، ولأنها فلتتْ من الزمان الى المكان لذا استحالَ تحديدُها واحتوتْها الأبدية...

بينما انت ذاهب في غيبوبتك  تقلّب طرفك في السماء فتهتز الكواكب لسقمك، بينما انت معانٍ وزامٌ على شفتيك ارى الأوغاد يكيدون لك ولي نكايةً بك وبمحبيك، واراك تعود الى الحياة..

انتظرك حتى بعد الممات، مماتي..

***

نص أدبي

 كريم الأسدي - برلين

.....................

* ملاحظة:

كتبتُ هذا النص  في برلين ونشرته في جريدة القدس العربي اللندنية تحت عنوان (حوارية مع امير طعين)، ثم اعادت مجلة نزوى العمانية نشره ضمن باب القصص تحت عنوان:

(مناحة على امير طعين)

وذلك في العدد رقم 12 والصادر في أكتوبر 1997 في عمان، مع اعلامي للزملاء في ادارة المجلة بأمر نشر النص مسبقا في جريدة القدس العربي..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم