صحيفة المثقف

رحلة الحياة.. طريقٌ لمْ يـتّخِــذْهُ آخرون (2)

بهجت عباسالنصف الثاني من مقدّمة كتاب لم يُنشر بعدُ

الحظّ بيئيّـاً ومجتمعيّـاً

لا أحد يعرف لماذا يولد طفل من عائلة فقيرة ومن أبوين جاهلين في بلد متخلف فيحيا ليقاسي في الحياة، وبعضهم ينطبق عليه المثل الصيني أو الفارسي (ولدوا فتعذبوا فماتوا)، بينما يُولد طفل آخر من أبوين مرفّـهـيْن في بلد متطور فيحيا حياةَ طفولةٍ سعيدةً  وتسنح له الفرص فيعيش بهناء، وآخـر

أتـتْـه الخلافـةُ مُنـقـادةً**إليه تجــرّرُ أذيــالَهـــا

فلمْ تكُ تصلحُ إلّا لــهُ**ولمْ يكُ يصلحُ إلّا لَهـا

ولـوْ رامَها أحدٌ غيرُهُ**لزُلزلتِ الأرضُ زِلزالَها   (أبو العتاهية)

بل وحتى ثمّة اختلاف بين طفلين في دارين متجاورين من منشأ واحد، أحدهما من أبٍ حنون على أطفاله يسعى جاهداً ليسعدهم فيضحّي من أجلهم، والآخر من أب بخيل قاسٍ أنانيّ يعتبر أيَّ طفل يولد له، وخصوصاً إذا كان أنثى، عبئاً عليه. إنه لغز عصيّ على العقل . وهكذا كان حظّ مدرس اللغة الإنكليزية (علاء) في مدرستنا، متوسطة الكاظمية في الخمسينات من القرن العشرين، حيث كان يدرّس الملك فيصل الثاني أيضاً. كان يأتينا بقميص وبنطلون لا يتغيّران مع فقر واضح على سيماه، ولما سألناه بمزاح عما نراه من حاله، ابتسم بمرارة وقال؛ نحن نعلم أن الأب يورث أولادَه مالاً أو ملكاً ولكن أبي أورثنا ديوناً وعلينا تسديدها! أمّا الفتى (صالح) فقد أرسله أبوه إلى أميركا، وهو في السابعة عشرة عاماً من عمره المديد، ليدرسَ فيكونَ مهندساً بارعاً ثريّاً وكلاهما من جيل واحد في بلد واحد! لا تفسير! إنه الحظّ العجيب أو القدر الذي لا مردّ له . ولكن هل يستطيع الإنسان أن (يعكس) القدر لصالحه؟ ربّما، إذا أراد وصمّم وكافح وثابر ولم يتخاذلْ عند النوائب ويستسلم للقدر العتيد وعرف ما وجب عمله. ولذا أمثلة لا حصرَ لها.

 على أنَّ ثمّة من يعتقد أنّ الصّدفة coincidence أو ما تسمّى بالألمانية   der Zufall، التي قد تكون نتاج العقل الباطن أو اللاشعور، لها ارتباط بالحظّ وقد تلعب دوراً في حياة الإنسان، وكمثل بسيط على ذلك ما حدث لي في الستّينات من القرن العشرين، ذلك أنني كنت عاطلاً عن العمل بعد استقالتي من وزارة الصناعة في نوفمبر 1964 (لأسباب سيأتي ذكرها) فكنت أبحث عن عمل في الصيدليات الأهليّة. حدث ذات يوم أنْ كنت أسير في شارع السعدون في بغداد فمررت بصيدلية (القزويني) فلمحني صديقي الصيدلي حسين القزويني فحيّيته فدعاني للدخول إلى صيدليته وقال لي: كنتُ أبحث عنك، حيث كان السيد قاسم الشمّاع، الرجل الثاني بعد الدكتور خير الدين حسيب، رئيس المؤسسة الاقتصادية العامة التي تضمّ المؤسّسة العامّة للأدوية، هنا في الصيدلية يوم أمس وكان صديقه، فسأله إن كان يعرف بعض الصيادلة الأكْـفـاء لتوظيفهم في المؤسّسة العامة للأدوية التي كانت تابعة للمؤسّسة الاقتصاديّة، لأنّ الناس ضجّوا من قلّة وجود الأدوية ويلومون التأميم (حدث حينذاك تأميم المذاخر والأدوية وإناطتها بالمؤسّسة المذكورة، فلم تستطع القيام بواجبها في توفير الأدوية في الأسواق.) يقول السيّد حسين القزويني ذكرتُ اسمَك للسيّد قاسم الشمّاع وقلتُ له أنّك قادر على توفير الأدوية، فطلب منه (من السيد القزويني) أن يتّصل بي لأقابله في دائرته (البنك المركزي) ولكنني لا أعرف رقم تلفونك لأتّصل بك (لم يكنْ لديّ تلفون حينذاك) ولكنّه (القدر) ساقك إليّ وهنا ساتّصل بالسيد قاسم الشمّاع فاتّصل به فطلب منه هذا الأخير أنْ يُكلّمني فأخبرني أن آتي إليه غدا في دائرته (البنك المركزي) فكانت المقابلة في اليوم التالي، رحّب بي وأعطاني بطاقته (كارت) بتوصية إلى المؤسّسة العامة للأدوية التي رفضت طلباً لي للتعيين من قبلُ. وهكذا كان تعييني فيها ووظيفتي التي دامت أربعة عشر شهراً، وبعدها تعرّفتُ على الشركة الألمانية أ. ميرك للأدوية فصرت مدير مكتبها العلمي في بغداد،  فكانت نقطة التحوّل كما يسمّيها الشاعر ريلكه. ولولا تعييني في المؤسّسة العامّة للأدوية (كيماديا) التي كان ممثّلـو شركات الأدوية العالمية يزورونها لغرض تصدير (بيع) أدويتهم وتعرّفي عليهم ومقابلتهم، لربّما كان (حظّي) في العثور عليهم ضئيلاً أو معدوماً. لماذا كان مجيء من الكاظميّة إلى شارع السعدون ذلك اليوم ومروري بصيدلية القزويني الذي أدّى إلى حصولي على الوظيفة؟ أهو (الصّدفة) أو (الحظّ) الذي قادني إليه العقل الباطن؟ هذه الحال وغيرها الكثير (تؤيّد) قول الدكتور إبراهيم ناجي (لا تقل شئنا فإنّ الحظّ شاء) ولكنْ هذا (الحظّ) قد يكون ضد ّ مصلحة الفرد، فقد يقوده إلى طريق ضالّ أو أقلّ نفعاً من طريق آخر لو سلك هذا الأخيرَ، فما العلة أو العلل؟

وأخيراً أحبُّ أن أذكر شيئاً آخر قد يكون تفسيراً للحظّ، حسناً كان أم سيّئاً، تبعاً لـ(مخزون) العقل الباطن، ذلك أنني عندما كنتُ في الصف الرابع الإعدادي، كما سيأتي ذكره لاحقاً، خطّطتُ لدراسة الصيدلة لأكون صيدلانيّاً مستقلّاً لا أعتمد على الوظيفة للعيش. وكان زملائي يعرفون ذلك، فمثلاً، عندما اندلعت شرارة المظاهرات في عام 1952 والتي بدأت من كلية الصيدلة والكيمياء الملكية (كما كانت تُسمّى حينذاك) وأنا في الصف الخامس (الأخير) من الدراسة الثانوية، كان بعض الزملاء يقولون لي، لماذا لا تتظاهر تضامناً مع طلاب (كليّتكَ؟!) ولكنّي بعد التخرّج من الثانوية وتقديمي طلباً للحصول على بعثة وزارة النفط لدراسة الكيمياء الصِّناعية في إنكلترا، فشل  مسعاي، وعندما قُبِلتُ في كلية الطبّ للدراسة على نفقة ووارة الدفاع للتخرّج برتبة رئيس (نقيب) طبيب، فشلت، لأنّ طبيب الأذن والأنف والحنجرة (د. محمد الشوّاف) لم يقبل أن يفحصني لتأخّري عن  الفحص (سيأتي ذكره) وبعد ذلك إلغاء بعثة وزارة الإعمار إلى أميركا، مما جعلني مضطراً للدراسة في كليّة الصيدلة التي قبِلتُ فيها. هل لعب الحظّ دوره (الجيّد) في هذا؟ ربَّما، فقد كانت شهادة الصَّيدلة (قارب النجاة) في معترك الحياة التي خضت غمار بحرها، فبواسطتها استطعت الحصول على إجازة ممارسة الصّيدلة في كندا التي (سهّلت) أمور حياتي كثيراً ولولاها لكانت الحياة قاسية! ومن قال إنني سأنجو بعد تخرّجي من الطبّ (العسكري) لو تمّ، بعد انقلاب 1963 الأسود! فهل كان ما خُزن في العقل الباطن في الدراسة الثانوية من التركيز على دراسة (الصيدلة) أدّى إلى (تعثّر) دراسة ما سبق ذكره و(سهّل) التوجّه إلى دراسة الصيدلة وكان حظّاً حسناً؟ وهل كان (المخزون) في الدماغ، وهو التركيز على الصّيدلة، وفقَ نظريّة د. لبتون، موجباً وليس سالباً كالدراسات الأُخرى، حيث أنتج الحاسوب الضخم (العقل الباطن) الأول ورفض الثاني لأنّ كلّ ما تخزن فيه، تحصل عليه، رضيتَ أم لم ترضَ. وهل نسمّيه (الحظّ؟) بنوعيه، نتيجة اختيارك طريقاً معيّناً، تسعد فيه أو تشقى، أو يأتيك تلقائيّاً دون أنْ تفكّر فيه أو تسعى إليه؟ المسألة غامضة، وهناك الكثير من الحوادث التي مرّت عليّ في مسيرتي الطويلة الكأداء أحياناً في هذه الدّنيا الجميلة والقبيحة في الوقت ذاته، وكلّ حدثٍ ينطِقُ بذاته ولا أعرف حقّاً، هل اختياري ذلك الطريق وليس  آخر بديلاً، كان في منفعتي أم في ضرري، أو بالأحرى حظّاً حسناً أم عاثراً، ولربّما كان تفويت فرصة، ويا لكثرةِ ما فاتني من فرص، ندمتُ على تفويتها، كانت خسراناً مبيناً إنْ اغتنمتُها! لا أدري، ولكنّني أدري أنّ اتّخاذَ القرار الصّحيح يلعب الدور الأكيد في النجاح، وهذا ما يتّخذه العقل المبدع المفكّر (الظّاهر!) أمّا نتيجة اتّخاذ قرار (اعتباطيّ)، إيجاباً أو سلباً، فهي شأن العقل (الباطن!) وهنا في هذه السيرة ذكرتُ الحوادث الرئيسة الني مرّت عليّ أو مررت بها ممزوجة بواقع المجتمعات التي عشت وأعيش فيها واتّخاذ الطرق المتعدّدة المتشعّبة في مجالاتها، فما انسدّ طريق في وجهي إلّا وحاولتُ فتحه والسير فيه، وإن لم تعذّر، فطريق آخر، ولو كان شائكاً، ولنْ أقعدَ مذموماً مدحوراً، وقد قال الشاعر العربيّ منْ قبلُ

إذا لمْ تكنْ إلّا الأسنّةُ مركباً**فما حيلةُ المضطرِّ إلّا ركوبُـها

(كميت الأسدي)

وهذا طبعاً لم يكنْ ولن يكون، فهو من باب المجاز (metaphor) ليس إلّا. فالارادة لتغيير الواقع المتعثّر في الحياة هي الحياة الحقّة للعيش بكرامة، والتخاذل أو الاستسلام هو النهاية المؤلمة لها، ولاتَ حينَ مّناصٍ.

 

د. بهجت عباس

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم