صحيفة المثقف

في علم النفس الديني.. أسئلة الطفل الأولى

ريكان ابراهيمإن صرخة الطفل الأولى ساعة ولادته هي صيحة الإعتراض الأولى على الوجود، والسؤال الأول عن (لماذائية) الخروج من بيئة الرحم إلى بيئة الحياة.

معنى هذا أن أول عمل يقوم به الكائن البشري - مختلفاً في ذلك عن الكائنات المولودة الأخرى - هو الإعتراض، والإعتراض يحمل سؤال الإختلاف، وسؤال الإختلاف يحمل ظاهرة إنعدام التوافق. إن كل شقاء الإنسان اللاحق وأمراضه النفسية والعقلية وحتى الكثير من الأمراض الجسدية يٌعد ناتجاً من إنعدام القدرة على التوافق أو التوافق على نحوٍ خاطىء.

معنى هذا أيضاً  أن الإنسان كائن يقوم على الرفض أكثر من قيامه على القبول. وتعرف الأمهات أكثر من غيرهنَ ما يكابدنه من مشقة في إقناع الطفل الجائع حتى يرضع مع انه في حاجة إلى ذلك. ويكبر الطفل قليلاً ليزداد تمرده على رفض الأشياء التي حوله. فهو لا يلعب مع الدمية التي تٌقدم إليه بل يكسرها ليعرف ما فيها غير مقتنع بجمالها الخارجي. ويسبق دماغ الطفل في نضوجه النوعي حجمه أو وزنه، ولكن ذكاءه - وهو عمل إدراكي مبكر - يسبق لغته - وهي أداة أو وسيلة للتعبير عن هذا العمل الإدراكي. وكٌلما تقدم الذكاء أو العمل الإدراكي على اللغة مال الطفل إلى (معملية) الأداء وقصَر في (نظرية) الأداء، حتى إذا تأخر الطفل عن النطق بكلمات مفهومة عَبرَ عن ذلك بالمزيد من الفهم وقوة الملاحظة.

ولهذا نجد أن عطل اللغة يرافقه غالباً حدة في الذكاء صعوداً إلى مرحلة (الأخرس) الذي كثيراً ما يتمتَع بذكاء عالٍ (بإستثناء حالة واحدة وهي وجود الصمم).

* * *

إنَ الطفل لا يتعلم النطق لأنَ النطق قدرة مولودة يشترك فيها الدماغ (منطقة بروكا  Broca’s area في الفص الجبهوي) والحبال الصوتية في الحنجرة. هذا هو النطق. أما ما يتعلمه الطفل في مجال اللغة فهو الكلمات في لغة الوالدين والأسرة بكل إنشطاراتها في السؤال والجواب وعلاقة الأشياء بأسمائها. وحين تنضج منطقة فيرنكا ( Wernicke’s area ) في الفص الصدغي المسؤول عن فهم الكلمات، تصبح اللغة مفهومة ويٌصبح النطق المولود قادراً على ترديد المكتسب واستعادته. ويمٌر الطفل في مرحلة مبكرة بفهم الكلمات فهماً رمزياً يساعده على الدلالة ونعني بذلك اللغة السميائية Semantic language.

* * *

إن الطفل يبدأ باسئلة كبرى على عكس ما كان يٌقال سابقاً عن سذاجة أسئلة الطفل. ويركز الطفل مبكراً في السؤال عن مغيِبات مثل الخالق الذي خلقه وعن الخالق الذي خلق مَن خلقه، وعن الجنس، وعن المصير بعد أن يموت الإنسان.

وعلى مدى ذكاء المجيب، أٌمَا كان أو أباً، يبني الطفل فهمه للظاهرة ولكنه لا يبني بالضرورة قناعته، وفَهمُ مجردٌ من القناعة يقود إلى الشك. وبالمنطق السيميائي للغَة ينظر الطفل إلى الأشياء المجهولة حوله على أنها كرة أكثر من كونها شكلاً هندسياً آخر، ولذلك تبدأ مهاجمته للأشياء على أنها كرات مغلقة، ويقع في ذلك ثدي الأم الذي يٌمثل عنده سراً يرضع منه حليبه ويعضه بأسنانه في محاولة لتحطيمه وإكتشاف محتواه.

ومن هذا المنطق السيميائي تبدأ رحلة الكشف عن (المجاهيل) بما فيها الإله والولادة والموت.

* * *

إن فوضى الأفكار التي لدينا، نحن الكبار، حول الظاهرات الكبرى التي ذكرناها (ومنها الله تعالى) ناتجة من الفوضى الأولى في حياتنا ونحن أطفال، يوم كنا نتلقى أجوبةً أضعف من أسئلتنا ومعلوماتٍ أقل من قناعتنا.

ان (جان بياجيه) يشير الى ظاهرة الحس على أنها بداية الإدراك ( Sensory-motor-st) . ماذا يقول بياجيه عن بداية الأسئلة الإدراكية عند الطفل قبل تنامي معالم الحس بما فيها معلَم الإدراك السمعي والبصري؟

يشير الحديث إلى أن الطفل يٌولد على الفكرة وإنما أبواه هما اللذان يٌنصرانه أو يٌهودانه، وهذا على مستوى الدين ولكنه ينطبق على الإيمان بالله أيضاً.

والفطرة عند الإنسان لجوجة، متسائلة، قلقة، غير مستسلمة، كما أنها جموحة لا تقنع بشيء في سهولة. والذي يحدُ من تمرد الفطرة بتقادم عمر الإنسان هو مجموعة عوامل منها:

1- العقلنة: أي دخول حسابات العقل في الإجابة عن سؤال الكينونة والمصير.

2- اليأس من فائدة التمرد: ان التمرد  في حياة الإنسان لا يضع حلا لاسئلته، وكلما تقدمت السنوات يبدأ هذا الكائن بالإيمان بعبثية التمرد لأن الأخير يجعلة في حلقة مفرغة تحيله إلى (لا جدوى الأسئلة).

3- التأثر بالمجتمع: حيث يخضع الفرد المٌتمرد للناموس الإجتماعي والعٌرف العام شاء أم أبى لكي يٌحقق الإنسجام حيث لا يٌحقق التمرد (سايكولوجية التوافق).

4- الخيبة الذاتية: يملك الإنسان بالفطرة ظاهرة النظر إلى ذاته نظرةً مركزيةً مملوءة بالنرجسية حيث يعد تلك الذات مركزاً للعالم الذي يدورحوله حتى إذا تعب من هذه المداولة بدأ بمشاعر الخيبة من قدراته على حل السؤال بجواب مغلق لأن أجوبته عن أسئلةٍ فتحت وتفتح أمامه أسئلةَ أخرى لا تنتهي.

5- قصور المحسوس أمام اللامحسوس: يٌحاول السلوك الفطري في الإنسان أن يفهم كل شي عن اللامحسوس فِهماً مباشراً بوسائط الحس وهذا الشيء صعبٌ تحقيقه. حيث لا يعني غياب اللامحسوس عن الإدراك الحسي أنه غير موجود، فقد يكون غائباً لأنه موجود في مكان آخر أو في صورة أخرى.

* * *

إن الطفل يخاف ولكنه لا يستحي من شيء، فهو كائن غير منضبط لأنه لم يخضعٌ بعد للعيب الإجتماعي ولا لسطوة القانون ونتائج تطبيقهِ. وبسبب هذا الخوف وهذا الفقدان للحياء من شيء ما تبرز قدرته على إثارة الأسئلة التي تبحث عن إجابة تمحو خوفه. وهذا الكائن الفطري يٌلقى إيمانه بطريقة التخويف من الإلحاد فينشأ مؤمناً بالتلقين وليس القناعة.

لكنه لو لم يُلقن بل تٌرِك حٌراً طليقاً لوصل إلى ربه عن طريق عقله لأنه لا يوجد إنسانً بعقل ما لم يكن مؤمناً أو باحثاً عن إيمان. إن علينا أن نٌفهم هذا الكائن الفطري أن هناك فرقاً بين (الإلحاد) و(الإنكار)، فالإلحاد يعني الإيمان بأن لا يوجد إله بينما الإنكار يعني معرفة الإله مع التنكر لحقيقتها، ويظلُ الملحد باحثاً عن ربِه بينما يظل المٌنكر إنساناً عارفاً بالحقيقة لكنه يتنكر لها، وهذا أخطر من الأول.

* * *

إن الدين الأول هو دين الفطرة التي جَبل الله الإنسان عليها. وسٌمي الدين (أي دين) بهذه التسمية لأنه معارفٌ لا تحتاج الى الكثير من العناء في الإطمئنان إلى وجود الله.

ففي الصف المدرسي الأول، وقبله في البيت، يستطيع أيُ منا أن يقول للطفل: ما دام لك خالق فإذن لابد لهذا الكون من خالف فيكون الله.

هذا مثال بسيط على كيفية الوصول إلى مشارف الفطرة وبأبسط الأمثلة، وإذا أردنا أن نضع منطلقاً للفرد الطفل في بداية عمره في تحديد موقفه: هل هو كائن مفطورُ على الإلحاد أو مٌهيأ للإيمان أو مٌولع بالإنكار، فإنَ أفضل تسمية منا لهذا المنطلق هي: مرحلة (اللاأدري).

ففي هذه المرحلة يكون الطفل مٌهيأ لكل شيء طبقاً لثقافة من سيوصل المعلومة إليه. ولهذا نشير كما أشرنا إلى أن طريقة التعريف بالله هي الأساس في صياغة إيمان الطفل وإبعاده عن الإلحاد أو المكابرة وفيها الإنكار.

إن أسئلة الطفل الأولى عن الله تقع في (المنطقة المحايدة) فهو ليس مؤمناً وليس مٌلحداً لكنه ينتمي إلى (اللاأدرية). وكثيراً ما تٌقمع أسئلة الطفل بأجوبة لا اقناع فيها بسبب جهل المجيب أو ضعف ثقافته أو ضبابية إنتمائه إلى الله.

وكثيراً ما يقودنا الغرور بالإنسان المحدود فنسمي حركات الإلحاد بالله تسمياتٍ فيها من البريق اللفظي أكثر مما فيها من المعلومات ونسمي أصحابها روادَاً في ( الوجودية) و(العبثية) و(ما بعد الحداثة) و(العدمية).

نسميهم هكذا وننسى أنهم ما زالوا أطفالاً كبروا  أجساماً حسب فظلوا يرددون أسئلة طفولتهم الأولى، يختلفون عنها ببريق التخريج اللغوي والتزويق الإصطلاحي وهذا في حقيقته لا يعدو كونه انتصاراً لصالح المبنى على المعنى والشكل على الٌمحتوى.

* * *

1. جئتٌ لا أعلم من أين ولكنني أتيتٌ

ولقد أبصرتٌ قدامي طريقاً فمشيتُ.

حينما قالها شاعرها، سٌميَ فيلسوفاً شعرياً يبحث عن سبب المجيء وعبثية الإتجاه مستقبلاً، وننسى كما ينسى شاعرها أنها كلماتُ سبق أن قالها الطفل بكلمات أٌخرى تفتق  إلى العروض الشعري الذي لا يعرفه الطفل.

2. إلهي الذي في السماء

أٌناديك من هذه الأرضِ

يا قاهر الأقوياء.

يتصور هذا الشاعر أن ربَهٌ في السماء حسَب. هل يختلف هذا الشاعر (الطفل الكبير) عن الطفل الذي يسأل أٌمه: أين الله؟

فتجيبه - وهي منشغلة بإعداد وجبة الغداء - فوق، في السماء.

الإختلاف هو في شيء واحد. أن الطفل الكبير يجيد كتابة السؤال في قصيدة.

هل ولدنا أطفالاً صغاراً لنموت أطفالاً كباراً؟

* * *

لماذا يسأل الطفل عن الله؟

سؤالُ جديرُ بأن يٌثار. ألا يكفي هذا الطفل إنشغاله بالأكل لكي لا يجوع، وبالدفء لكي لا يبرد وبالبرودة لكي لا يضايقه الحر وبالنقود لكي لا يحرم من اللعب، روادعَ له عن إثارة سؤال كوني يتعلق بالولادة والخلق والموت والمآل؟

إنه يسأل عن الله بفضول كبير:

1- ما معنى الله؟.

2- ما شكله؟.

3- أين مكانه؟.

4- كيف خلقَنا؟.

5- من خلقهٌ؟ .

6- لماذا هو خالد؟.

إن الطفل يسأل مثل هذه الأسئلة لأنه محكومُ بالعالم الحسي الذي حوله وبمحدودية هذا الحس في العالم. إنه الكائن الذي يحاول إدراك اللامحسوس بالمحسوس. إنه لم يُدرِك بعد معنى (مفهوم المٌطلق والجزئي).

إن هذا الكائن الفطري يتعلم ما هية الله عن طريق وسائل أخرى وبأيدي أبويه - اللذين لا يٌقدمان بالضرورة إقناعاً له. خٌذ مثلاً:

1- أنه يتابع الطقوس في دين أبويه فيصعب عليه إكتشاف العلاقة بين ممارسات طقوسية مرئية وخالقٍ لا يمكن رؤيته.

2- أنه يسمعٌ من أبويه استخدامات لفظية تصف الله بلغتهما التي تختلف في معانيها عن لغته. (يدٌ الله فوق يد الظالم) و(يحرسكالله الذي عينه لا تنام) و(كرسيه على الماء) و(أقربٌ اليك من حبل الوريد) و( أنى تٌولوا وجوهكم فثَم وجه الله). هذه الأقوال وفيها الآيات، يستخدمها الناطقون بها بلغة المجاز  التي لا يعرفها الطفل لأنه ما زال في طَور عقلي يٌفسر ولا يُؤول.

3- كثيراً ما يخاطب الناس ربهم بلغةِ دٌعاء فَجة تٌوحي إلى من يجهل رحمة الله ولطفه بأنها لغة تذمر وضجر من مظلومية يتنزه عنها الله الذي لا يظلم أحداً (ليس ربك بظلام للعبيد). وترديد مثل هذه اللغة أمام الطفل تٌشوه في عقله الكثير من صورة الله المشرقة العادلة فيبدأ بإثارة أسئلة أمام والديه في دواخل نفسِه.

4- يٌعلم الأبوان الطفل الكثير عن الله بطريقة التخويف منه وليس الحٌب له، لأنهما خائفان أصلاً والخائف لا يستطيع أن يٌعلم خائِفاً آخر درساً في الطمأنينة. هنا يبدأ الطفل بإثارة الأسئلة في داخله حول هذا الجبَار المخيف وليس هذا الرحيم الرحمن اللطيف.

5- يٌقدِم الأبوان صورةً عن الله للطفل فيها الكثير من الفهم الأرضي المحدود لهذا المٌطلَق ومن أمثلتها: أن الإنسان إذا كان تقياً فإن الله يٌغدق عليه شآبيب الغنى والصحة. وهذه المقايضة مهزوزة تجعل الطفل يٌفسر رضا الله بأنه نوع من تبادل العطايا بين خالق ومخلوق كما تجعل الطفل يبتعد عن مفهوم (الله المٌطلَق) الذي لا يٌمكن ان تٌجزأ قدرته وكٌليتِه.

6- كثيراً ما يٌفهم الأبوان الطفل أن أسئلته التي ذكرناها هي نوع من أنواع التشكيك الذي يجب  أن لا يٌثار. والممنوع في كل ظاهرة يٌعدُ عاملاً مٌحرضاً على السؤال عنه.

* * *

إن إمتداد طريقة التفكير فيحياة الإنسان في الطفولة إلى العٌمر الناضج (وهذا مايحدث كثيراً) يقود إلى استمرار طريقةٍ مغلفة لا تٌوفر الإنفتاح المطلوب.

فالذكاء الذي لدينا يرتكز على التعلم (learning). والتعلم يقوم على ثلاثة أنواع من الوسائل:

1- التعلم بالتطبيع على الشيء (Conditioning learning).

2- التعلم بالمٌحاكاة والملاحظة (Observation learning).

3- التعلم بالمٌقارنة (Comparison learning).

ومن هذه الثلاثة ينشأ الحاصل النهائي للذكاء وهو الذكاء الإستنباطي (Abstractive intelligence). وكلما تأخر ظهور الإستنباط تأخر الدماغ في تحقيق حالة الفكر الحٌر الذي يقود إلى الإبداع. ويٌعَدُ الأفراد الذين يتأخر عندهم ظهور الإسنتباط أطفالاً استمر لديهم التعلم بواحدة من الوسائل الثلاث فظلوا أسرى ارتباطهم بفهم يقوم على محاكاة المألوف والتطبع عليه فيتأخر عندهم الإستنباط. ويٌعدُ الأخير (الإسنتباط) أرقى أنواع الذكاء الذي يتميز به الإنسان في الوصول إلى إدراك اللامحسوس بالمحسوس واستقراء الأسباب بمناقشة النتائج، ومن ذلك معرفة الله الخالق بمعرفة آثاره في الخَلق والتكوين على أساس قاعدة بسيطة غاية في البساطة، مثلٌها يقوم على أن الكرسي صنعه نجار والبيت بناه بنًاء ولولا النجار والبنًاء لما رأينا الكرسي ولا رأينا البيت.

معنى هذا أن العقل الذي لا يقدر على استنباط لن يقدر على معرفة وجود الله. والإستنباط ميزةُ للعقل البشري لا تملكها أدمغة الكائنات الأخرى مع أنها تملك بسائط أخرى للتفكير حيث تأكل عندما تجوع وتشرب الماء عندما تعطش.

ولما كان الإستنباط ميزة فهو لا يظهر فجأة إنما يتدرج، وبذلك فهو يبدأ في الطفل ليزداد وضوحاً في النضج، وكلما عجلنا في تعليم الطفل الإستنباط عجلنا في جعله ناضجاً مٌبكراً. وخيرٌ طريقة نٌعلمها للطفل في كيفية النظر إلى وجود الله والإيمان به هو أن لا يطلب ممن يواجهه أن يٌثبت له وجود هذا الإله العظيم بل يطلب من الآخر ان يٌثبت عدم وجود الله، وهذا موضوع يٌحرج الملحد أو المنكر لأن معرفة الظاهرة (أية ظاهرة) تقوم على مرتكزين:

1- إثبات الظاهرة بالأدلة.

2- إثبات عدم وجودها بالأدلة.

وحينما يعجز منكر الله عن نفيه سيكون بذلك عاجزاً عن إنكاره فينقاد إلى إثباته وبذلك تبطل الثقافة المضادة التي تنفي وجود الله.

* * *

إن أطفال المجتمعات البدائية كالمجتمعات الوثنية أو التي تٌقدس الحيوانات والنباتات وترفعٌها إلى مقام الآلهة يعانون كثيراً من هذا الفكر الوسيط ونعني به الفكر الذي يجعل الإيمان بالإله في حاجة إلى وسيط كصنم أو الأفعى أو البقرة أو شخصية الكاهن أو الضريح، مثلُهم مثل أطفال المجتمعات التي تؤمن بالظاهرات الطبيعية  كالمطر والرعد والنجوم على أنها آلهةُ تعبد أو تجب عبادتها.

وفي مثل هؤلاء الأطفال تنشأ ظاهرة التعلم بالمشاهدة أو المراقبة للكبار عن أبناء مجتمعاتهم وبذلك يزرع فكر هذه المجتمعات في الأطفال تفكيراً ساذجاً مدعوماً بالخرافة والتأويل (الميثولوجي). وفي مقابل هؤلاء الأطفال تبرز معاناة أطفال المجتمعات الموحدة لإله واحد حينما يتعلم الطفل منهم دينه بالتلقين من دون إبداء المرونة لهذا الطفل في أن يسأل ما يريد لأنً كبت أسئلته بالتخويف سيجعله يؤخر إعتراضه اللاشعوري إلى يوم يثور فيه على قناعته الزائفة الخجولة.

إن أبرز الأسئلة عند الطفل ثلاثة هي:

1- ما معنى الله؟.

2- أين الله؟.

3- كيف الله؟.

وما لم يٌفَهم الطفل معنى (المٌطلق) في مقابل محدودية (المجزوء) فإنه لن يدرك الإجابة عن هذه الأسئلة. وخير طريقة لإفهام الطفل حقيقة الله هي توجيه ذهنه إلى آثار الله  في خَلقه، ونبدأ في ذلك بتوجيهه إلى فحص نفسه وفهم أسرارها لأنها أقرب الأشياء إليه.

لقد كان الكثيرون من المعلمين الدينيين يميلون إلى تحذير الناشئة من أسئلة الشك وتخويفهم بالعقاب إذا مارسوا عملية الشك في خطابهم.

إن التخويف من الله هو صورة من صور التخويف من بعض المفردات في ذهن الطفل كالخوف من الوالد القاسي أو المعلم المتشدد أو القانون أو المحاكم وهنا تٌصبح صورة الله مخيفة لدى الطفل ويبدأ بممارسة حياته خائفاً من الرقيب.

إن اليقين المصطنع ينتظر يوماً يتحول فيه إلى شك بينما يقود الشك في كثير من الحالات إلى اليقين الذي لن يتزعزع. إنَ (مع العسر يسراً) أقوى وأفضل من (إن مع اليسر عسراً) ولذلك استخدم القرآن الكريم القول الأول ونأى عن إيراد القول الثاني. والشك عٌسر ولكنه يقود إلى اليسر الذي يحققه الإيمان.

* * *

إن أسئلة الطفل تختلف عن أسئلة الكبار في موضوع شكها حيث تنطلق من التلقائية فيما تنطلق أسئلة الشك عند الكبار من (القصدية) التي تتوزع على ثلاثة أنواع: نوع يبحث عن مٌزيل لها باليقين، ونوع من الإصرار على نكران المشكوك فيه ونوعٍ محايد يبحث عن الإستقرار  على الإيمان أو الإستقرار على الإلحاد (النوع الثالث لا يحمل سوء النية بل يحمل المٌحايدة). إن فتح الباب باكراً  أمام أسئلة الطفل مهما كانت جرأتها  أو نوعها أو لغة بنائها يقود إلى الآتي:

1- زوال القلق عند الطفل ونعني به قلق السؤال والخوف من الرقيب.

2- تنشئة حرية التفكير في وجود الكينونة وقصدية المصير.

3- إزالة مفهوم (المٌقدس المٌحرم) وإثبات مفهوم (المٌقدس غير المٌحرم الذي يمكن السؤال عنه بالممكن من الكلمات في إنتظار الممكن من الجواب).

4- نشوء الفهم عند الطفل لآلية الفصل بين الظاهر الذي يمكن الإجابة عنه والغيب الذي لا يمكن الإجابة عنه لأنه شيٌء فوق الحس أو أداء أعضاء الحس وسيد إدراكها، الدماغ.

5- إزالة الحذر من القوى التي تَتَمثل نوعاً من سلطة الخوف مع الطفل كسطوة الأب أو الشرطي أو السجن أو العقوبة أو القانون الصارم.

6- بظهور المعالم التي ذكرناها (من 1 - 5 ) يتخلصٌ الطفل من النشوء المبكر للأمراض النفسية التي تتعلق بالموت المخيف واندحار الكائن كما يتخلص من (قلق الإغتراب) في المكان الذي يٌفترض أن يكون مكاناً للطمأنينة.

7- نشوء سلامة الشخصية لدى الطفل وإنعدام ظاهرة (البارانويا) التي تقوم أساساً على الشك المريض الخفي الذي من نتائجه ظاهرة الإنكار الواهمة (Persecutory delusion).

إن ظاهرة قَمع الطفل عن الله، على جلالة قَدره وعظمته، لها مثائل أدنى في المهمة لكنها شبيهة في النتائج  ونعني بها  أسئلة الطفل المٌحرمة عن الجنس والسياسة وقٌدسية الحاكم. إن تعليمنا الطفل صعوبة الثقافة الجنسية مثلاً هو الذي جعلنا نتأخر عن إفهام الطفل ظاهرة أصلية لا يلبث أن يمارسها لاحقاً في حياته. ومثال ذلك ما يسري على السياسة وقدس الحكومات مهما كان ظلمها وصعوبة مناقشتها من الأفراد والمحكومين.

فالإنفتاح على أسئلة الطفل في دلالة (الله) العظيم بحرمة تٌهون انفتاحه على ظاهرات أرضية وتجعل من الطفل فرداً  حٌراً  يبحث عن الحقيقة.

* * *

إن الطفل، أي طفل، فيلسيوف مبكر. فيلسوف يسألأ ولا يجيب حتى إذا لم يجد جواباً في من سبقه عٌمراً عمَد إلى وضع أجوبة من عنده. ولهذا ظنَ بعض الكبار  أن الفلسفة تراثٌ طفولي إمتدَ به العمر وبذلك فرق هذا (البعض) بين الدين والفلسفة بإعتبار الأخيرة مثيرةً لأسئلةٍ لا جواب لها. 

إن للدين فلسفة تٌعلم الإنسان ضرورة الإيمان بالله ونعتقدٌ أن فلسفة الإلحاد شيٌ عابث ينطلق بها أصحابها من منطلق العجز عن الإجابة. إن أسئلة الطفل الثلاث التي ذكرناها (معنى الله؟، أين الله؟، كيف الله؟) هي أسئلة فلسفية  مٌبكرة مما يؤكد وجود فلسفة للدين الذي تَدرج بالإنسان من مرحلة تعدد الآلهة وطوطمية الإنتماء وتابوية المصير إلى مراحل الدين السماوي الذي توفرت فيه عناصر الإله الواحد ومٌبلغ الرسالة (الملاك)، والمحتوى (الكتاب المٌنزل) والرسول المبعوث، وهذه الثلاثة (الكتاب والوحي والنبي) ليست مثيلاً للوسيطية التي فيها الصنمية، بل أنها تبسيط واقعي لطريقة تبليغ الناس بالرب الواحد خالق كل شيء.

وهنا تجب علينا إجابة الطفل الذي قد يكون ذكيَاً فيسألنا عن الفَرق بين الصنم الذي يتوسله الناس وصولاً إلى الله ومفردات الدين السماوي الذي يتسلسل على النحو الآتي (إله        ملاك          كتاب          رسول بشري). هذا الفرق يتوضَح أما الكفل، إذا استطعنا توضيحه كالآتي:

1- الصنيم يصنعه الناس بأيديهم حجراً  أو حيواناً  أو نباتاً  أو طائراً  خرافياً بإتجاه الله. بينما يبدأ الدين السماوي من الله وبأمره عبر الملاك المٌوحى  وضمن محتوى الكتاب وعلى لسان النبي، نزولاً من الله بإتجاه البشر.

2- مفردات الدين السماوي مفردات نقاش تملك حركة اللغة وحياة الخطاب وقوة الحجة بينما لا تملك مفردات الوثن إلا الجمود وفقدان الحجة.

إذا استطعنا أن نضع أمام الطفل مثل هذا الإيضاح نكون أستطعنا تحطيم مفهوم الوسيطية عنده والجأناه بمحبةٍ ولطف إلى فهم الفَرق بين الصنم الجامد والدين المتحرك حتى في فهم الثوابت وعلى رأسها  الله الواحد الأحد.

 

د. ريكان إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم