صحيفة المثقف

عذرا.. لن نمنحكم صمتنا

محمد الورداشيفي صبيحة السادس والعشرين من يناير الجاري، بساحة النصر، مدينة الدار البيضاء، توقفتُ جامدا في مكاني مشدوها من الترسانة الأمنية التي انتشرت في الساحة، حيث لم تمض إلا لحْظاتٌ حتى تفاجأت بأن المدينة (الدار البيضاء) كلها مطوقة بالجهاز الأمني المغربي بشتى أنواعه.. لقد اعتقدت أن ثمة خطرا كبيرا يحيق بأمن البلاد، فإذا بي أتفاجأ أكثرَ حين رأيتُ ذوي الوزْرات البيضاء يدخلون الساحة(1)، إنهم الأساتذةُ الذين فرض عليهم التعاقدُ؛ هؤلاء الذين خاضوا، وما يزالون، معاركَ منذ أربع سنوات بغية إسقاط مخطط التعاقد، ومن ثم، الإدماج في سلك الوظيفة العمومية. هؤلاء الأساتذة يرفعون شعاراتٍ عنوانها العدالةُ الاجتماعيةُ، والحريةُ، والمساواةُ. بيد أن الدولة المغربية تقابلُ هذه الأصوات بمقاربةٍ قمعيةٍ استباحت دماءهم وداست كرامتهم في سبيل الحفاظ على مصالح نخبتها. وأنا أجيل بصري في هذا الجيش المدجج، تواردت إلى خاطري ذكرى أليمة محفورة في ذاكرة وجسد ووجدان المغاربة.. تذكرت انتفاضة الأطفال والشباب الذين كانوا تلاميذَ وطلبةً، في مارس 1965، انتفاضة "كانت احتجاجا على قرارات مجحفة في حقهم"(2)، فقدمت استشهادات، وسالت دماءٌ كثيرةٌ كانت "المؤشر على فشل سياسة "إغناء الفقير بدون إفقار الغني" (3). فالظروف الاجتماعية المهترئة التي نسجت خيوط إضرابات مارس 1965 وأذكت فتيلَها، هي ذاتُها التي أذكتْ فتيلَ الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، الذين سالت دماؤهم وما تزال.

على أن المقارنة بين ما حدث في 1965، وما يحدث اليوم دليلٌ واضحٌ على أن الدولة المغربية لم تدخل في اهتماماتها التعليم والثقافة، وأي تمرد على هذا الإهمال المقصود تقابله بالمقاربة القمعية. وبهذا، فإنها تسعى بطرق مختلفة من حيث الشكلُ، لكنها متفقةٌ من حيثُ الغايةُ؛ أي سعيها إلى تكميم الأفواه، وإخماد نيران الرفض المؤججة في نفوس  "البدونيين" (بدون سكن، بدون عمل، بدون هوية...) الذين هم ضحايا اللبرالية الجديدة التي تحمي نفسها من خلال إنتاجها المجتمعات المراقبة، على حد تعبير دولوز"(4).

وهكذا، نرى أن المقاربتين القمعقراطية والتلفيقراطية اللتين تنهجهما الدولة المغربية في مواجهة احتجاجات الأساتذة آيةٌ على أنها وصلت إلى النفق المسدود، الذي لم يبق بعده إلا الإدماج من جهة، وجهلها وتعنتها أمام الحركة الجدلية الاجتماعية التي تحرك المجتمعاتِ البشريةَ، وتعطي للحياة معنى الاستمرارية في حركة التاريخ. ومن ثم، نقول إن"السياسة المغربية، كغيرها من سياسات العالم العربي، سياسة فاقدة للبوصلة، ومحتقرة للإنسان"(5). فاقدةٌ للبوصلة؛ لأن إرادتها ليست بيدها أولا، ولكونها لم تفقه بعد أساليبَ حضاريةً ناجعةً (الحوار، مواجهة المشكل وليس الهروب إلى الأمام والتسويف...) للتعامل مع مشاكل وأزمات المجتمع المغربي الاجتماعية، وبخاصة أزمة قطاع التربية والتعليم..ثانيا، وحسبانها إسكات الأصوات لا يتم إلا بالقمع في واضحة النهار، واستباحة دم الأستاذ والدوس على كرامته ثالثا. ومحتقرةٌ للإنسان؛ لأنها منذ استقلالها "الجزئي والشكلي" انكبت على التحديث المادي، وغضتِ الطرف عن العنصر البشري، فكانتِ النتيجةُ نخبةً تركض لاهثةً وراء التحديث المادي، وشعبا لا يزال يعاني الأميةَ والتفقيرَ، ويتعرض للعنف من قبل دولةٍ ضربتْ ما سنّتهُ في دستورها (منع العنف و...) عرض الحائط.

وبناء على سلف ذكره، نقول للذين لا يحسنون إلا القمعَ والرفسَ، إنكم تتواجهون مع أساتذة لهم منسوب وعي كبير بظروفهم في هذا الوطن الجريح، وبمرامي وأبعاد سياساتكم التي تحمي مصالح الأقلية النخبوية على حساب السواد الأعظم من الشعب الفقير، ونؤكد لكم أن "كل محاولة (منكم) للتكميم أو فرض الرقابة (ما هي إلا) محاولة إتقاء أشعة الشمس بالغربال"(6)؛ فلن نسلمكم صمتنا أبد الآبدين، ولن تسرقوا منا أصواتنا الرافضة للمخططات التخريبية للمدرسة العمومية؛ لأن هذه الأخيرة ليست مجالا للتسييس والأدلجة، ولا سلعةً تتاجرون بها على حساب بؤس الشعب المغربي.

كما أننا نقول للأساتذة الذين يتخلّفون عن معاركنا، ويتشدقون بكونهم ذوي مبادئ و... دون أن يشاركونا ما نحن فيه علما أننا جميعا قابعون في المشكل نفسه، نقول لكم، وبكل هدوء، أثبتوا لنا وجودكم "بالممارسة التي تبقى هي وحدها الكاشفة لحقيقة المواقف والأفكار والانتماءات"(7). ومن ثم، فإن الثقافة وحدها لا تفيد بدون ممارسة، والأستاذ المثقف الحقّ هو من يعبر عن ثقافته ومنسوب وعيه نظريا وعمليا، قولا وفعلا، رفضا واحتجاجا، ولا يمنح صمتَهُ على حساب كرامته.

 

محمد الورداشي

............................

 الإحالاتُ والمراجعُ:

1- تجدر الإشارةُ إلى أن الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد قد خاضوا مسيرة (القطب الثاني) بمدينة أكادير في اليوم نفسه 26 يناير 2021، وتعرضوا بدورهم للقمع والضرب والرفس أسوةً بإخوانهم في الدار البيضاء (القطب الأول).

2- محمد برادة، "سياقات ثقافية"، منشورات وزارة الثقافة، ط1..2003، ص49،

3- نفسه ص50،

4- نفسه ص129،

5- نفسه ص137،

6- نفسه ص14 (بتصرف)

7- نفسه ص96.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم