صحيفة المثقف

اسبينوزا: الجوهرفي وحدة الوجود

علي محمد اليوسفمقالة حول الجوهر الفلسفي مهداة للاستاذ الفاضل العلامة علي القاسمي ارجو ان تنال اعجابه مع اسمى اعتباري.


الجوهر ضرورة لا تدرك

مثلما لا يمكننا إعتبار ما بعد اللغة هي ليست غير لغة أخرى تحمل مجانسة تواصلية منبثقة عن اللغة الأم، وكما لا يمكننا ايضا إعتبار مابعد الفلسفة هي ليست الا فلسفة أخرى إنبثقت عن الفلسفة الأم بالمجانسة اللغوية ايضا... لذا نجد غريبا من اسبينوزا أدخاله الجوهر في نفق ميتافيزيقا مذهب وحدة الوجود معتبرا الجوهر سابقا الوجود وليس ناتجا عنه، والجوهر لا يدرك ولا يحتاج تصور من أي نوع له. لا نجانب الصواب أبدا أن نصف تعبير اسبينوزا حول الجوهر هي مشابهات تعبيرات هيدجر حول العدم، بمعنى الحديث عن مواصفات شيء لا تدركه حسيا ولا تعرفه عقليا انه موجود. ولكن بدلالته الميتافيزيقية عند اسبينوزا ندرك الوجود كما سيتوضح معنا أكثر لاحقا.

جواهر الاشياء صفات الهية

يصف اسبينوزا الجوهر بهذه العبارة " الجوهر في الاشياء هو ما يوجد في ذاته، ويتصور بذاته، أي هو ما لا يحتاج تكوين تصور له، الى تصور شيء آخر، ولا يمكن للجوهر أن يكون الا واحدا"1، كما يعتبر اسبينوزا " الجوهر موجود بالضرورة، أي أن الوجود ينتمي الى طبيعة الجوهر، ومعنى الانتماء الى طبيعة الجوهر أنه ليس شيئا اكتسبه الجوهر من الخارج أي أن الجوهر ليس مخلوقا "2. "ويعتبر اسبينوزا الجوهر لا متناهيا كما أنه ازلي، بمعنى هو الوجود ذاته، ويجعل من الوجود مرادفا للحقيقة الازلية التي لا يمكن تصورها من خلال الزمان" 3

تعقيب

- كيف يكون الجوهر ماثلا في الاشياء ونفتقد كل تصور عنه وله؟ كيف يكون الجوهرمرادفا للوجود وهو غير قابل لإدراكه؟ ما هو المعيار التصوري الذي يجعلنا ندرك الجوهر حدسا بمواصفات ميتافيزيقية لا يمكن أدراكها عقليا، كما لا يمكن الاستدلال المعرفي بها على غيرها؟ اسبينوزا ادخل الجوهر نفق ميتافيزيقا وحدة الوجود ولم يخرجه منها، لأنه كما أدخل لاشيء يمكن إدراكه في مجانسة معه ميتافيزيقيا فهو أصبح لا يستطيع إستنباط أي شيء من لاشيء ميتافيزيقي ايضا. فهو أي سبينوزا لم يكتف بتعامله مع تجريد فلسفي وحسب بل تعامل مع تجريد ميتافيزيقي أشمل خارج مدركات العقل للوجود. كانط تجاوز هذا الاشكال العدمي الميتافيزيقي وقفله أمام الفلاسفة بمختصر عبارته، الجوهر هو الشيء بذاته خارج أدراك العقل له وكفى وكل مجهود يصرف من أجل ذلك هو عقيم غير مجد.

- الجوهر الكوني بمعنى أزلية الوجود لا ينطبق عليه القول أن ماهية الجوهر هو لا متناه ازلي، باستثناء إذا كان المقصود بأزلية الجوهر تتضمن ازلية الله كجوهر كامل لا يدرك. الذي هو جوهر تام شامل ليس مخلوقا ولا يحده الزمان والمكان الادراكي. بالرغم اننا نحدس بكل شيء ندركه في الطبيعة ومن حولنا لمسة جوهر إلهية معجزة فيه.

-  الجوهر هو الذي لا نحتاج تكوين تصوره وهو عديم الحضور في تعينه الانطولوجي أو تعينه الادراكي المجرد. والله جوهر كامل لا يمكن إدراكنا عقليا له سوى في بعض من تلك التوزّعات الصفاتية الوجودية غير الجوهرية داخل موجودات الوجود التي ندركها بالصفات فقط للاستدلال عليه. ولا ندرك بالاشياء جواهرها الموجودة فيها بالضرورة الإلهية التي جعلت من عقل الانسان محكوما بمحدودية عدم أستطاعة إدراكه الجوهر بالاشياء ولا الجوهر في الكليّة الكونية. الوجود يفهم بدلالة الجوهرالكامل (الله) كما يحدس الجوهر صفاتيا في توزع تلك الصفات على موجودات الطبيعة بدلالة وجودها.

- الحقيقة الازلية التي يصفها اسبينوزا للجوهر هو ما لا يمكن تصوره من خلال الزمان، عليه يترتب حسب أجتهادنا أن الحقيقة الازلية لكل شيء يطاله الامتداد اللامتناهي غير المحدود، أنما هو المرادف لحقيقة معنى الزمان، وما لا يكتسب صفة الإحتواء الزمني الإدراكي له، لا وجود له خارج ازلية الزمن بأعتباره جوهر لا يمكن معرفته. الجوهر الكوني الازلي اللامتناهي أشمل من كونية وزمانية الزمن ذاته.

- يعتبر اسبينوزا" الجوهر موجود بالضرورة، أي أن الوجود ينتمي الى طبيعة الجوهر، ومعنى الانتماء الى طبيعة الجوهر أنه ليس شيئا أكتسبه الجوهر من الخارج أي أن الجوهر ليس مخلوقا"4. طبعا الجواهر بمفهوم اسبينوزا الميتافيزيقي هي صفات الهية لا ندركها مخلوقة بل ندركها موجودة موزعة بالاشياء في عالمنا الذي ندركه بصفات موجوداته وليس بصفات ماهياته الجوهرية المحتجبة عن الإدراك.

لا يمكننا التسليم بفرضية الوجود ليس شيئا في تبعيته  طبيعة الجوهر الا من وجهة نظر ميتافيزيقية اشرنا لها في أعتماد مذهب وحدة الوجود، والوجود ليس شيئا أكتسبه الجوهر من الخارج وهو ليس مخلوقا، وهذا يضعنا أمام أختيارين أما أن يكون الجوهر حقيقة بدلالة الوجود الضروري له أن يكون، وأما أن يكون الوجود يستمد حقيقته بدلالة الجوهر وهو المفهوم الذي يعتمده اسبينوزا. لكن كيف لنا الجزم اليقيني أن الجوهر موجود بالضرورة، ونجهل كيف وجد، ولا من ماذا يتكون، ولا كيف ندركه بدلالة حضور انطولوجي لشيء أو حتى موضوعا مجردا على صعيد الفكر الخيالي. هنا يكون الجواب (الله).

لكن لو نحن حاكمنا كل هذه التساؤلات المار ذكرها بحقيقة أن الجوهر هو وحدة واحدة في تمام الكمال الالهي (الله) الذي يستوعب كل الوجود الانطولوجي لأصبح لدينا التسليم بحقيقة أن الوجود يعرف بدلالة الجوهر أكثر من مقبولة بل وضرورية ايضا، ولا يعرف الجوهر بدلالة الوجود.كون الجوهر لا تنطبق عليه المجانسة الصفاتية ولا المجانسة الماهوية مع موجودات الوجود الذي ندركه.

وهذا الاخير عندما نحاول معرفة الجوهر بدلالة الوجود خطأ دأبت عليه الفلسفة طويلا قبل مجيء اسبينوزا بمذهب وحدة الوجود ليس على الصعيد الصوفي الميتافيزيقي التديني وأنما على صعيد فلسفة المعرفة والفكر. وبذلك قلب المعادلة بأن الوجود المخلوق يعرف بدلالة الجوهر الاسبق منه.ولا يدرك الشيء بصفاته الا بدلالة جوهره المحتجب عن الادراك كونه ما فوق الادراك العقلي المحدود بكل شيء ويعلو الطبيعة بكل شيء..

لو نحن سمحنا لانفسنا مضطرين أن نخرج من عوالم التفسير المنطقي المادي في المعرفة ونتماهى مع مفهوم اسبينوزا الجوهر بمنظارميتافيزيقا وحدة الوجود، فأننا لا محالة واصلين الى الحقيقة التي ارادها اسبينوزا أن مبتدا كل شيء في الله ومنتهى كل شيء به من دون حاجتنا الادراكية العقلية الحدسية لتلك البديهة الميتافيزيقية.. واذا نحن سلمنا بمنطق وحدة الوجود الميتافيزيقي الصوفي، يكون توضّح الامر معنا في فهم الجوهر تماما، عندما نؤمن مع اسبينوزا أن كل شيء موجود في الله كمدرك بصفته، ولا يمكننا ادراك الله كجوهر الا بصفات اشيائه الوجودية المدركة فقط ولا بصفات جواهره غير المدركة بعقولنا ايضا..

اسبينوزا يؤمن أن الجوهر صفة من صفات الله لا يمكن أدراكها موزعة موجودة في كل شيء، وتستمد ازليتها خارج الاحتواء الزماني المكاني لها، لكن بنفس الوقت هي جزء من الطبيعة المخلوقة التي يكون لا معنى للجوهر فيها الا بدلالة الذي أوجد موجودات الطبيعة الذي هو الجوهر الاشمل اللانهائي اللامحدود. جواهر الاشياء في الوقت الذي نحدس موجوديتها بالاشياء لا تكون كافية لمعرفة الجوهر التام الكامل المحيط بكل شيء الذي هو (الله).

الجوهر في موجودات الطبيعة بالمعنى الاسبينوزي هو أحدى صفات الذات الالهية التي يتعذر علينا أدراكها فكيف بادراك خالقها. والجوهر الذي لا يدرك هو الذي يمكننا ربط ادراكاتنا التي هي في حقيقتها جواهر الهية موزعة في الوجود بما لا حصر لها، وموجودة (قبليا) بقدرة الهية لا نستطيع معرفتها ولا كيفية أن تكون الجواهر جزء ملازم موجود بالضرورة في كل شيء ندركه بمعزل عن عدم ادراكنا الجوهر فيه لأن الجوهر ماهية الهية دالة في الموجودات كافة لا يمكننا ادراكها. الجوهر الالهي يعلو مجانستنا العقلية الادراكية له.

جواهر الاشياء حسب الفهم الاسبينوزي في وحدة الوجود تمتلك ازلية غير مكتسبة من خارجها، والجوهر هو وجود غير مدرك خارج قالبي الزمان والمكان الادراكيين اللذين يحكمان الطبيعة والانسان كما شرح ذلك كانط. في محاولته الابتعاد عن ميتافيزيقا اسبينوزا في وحدة الوجود الذي كرّس عدم امكانية ادراك الجوهر الالهي بالعقل المحدود الذي يدرك كل شيء متاح ادراكه له بمعرفة صفاته فقط لا اكثر. أما الجوهر فهو علة الوجود في خلقه، ولا توجد علة في سبب وجوده.

لذا الجوهر واحد حسب مذهب وحدة الوجود عند اسبينوزا لا يمكننا تجزئته كونه جوهرا مجزءا موزعا في الطبيعة والكوني كصفات، ويمكننا معرفة كل موجود بدلالة جوهره غير المخلوق كما تخلق الموجودات المادية، كون الجوهر لاماديا بل هو صفة من صفات الكمال الالهي الذي لا يدركه العقل بغير دلالة موجوداته.

الله الجوهر المثال

يتجلى مفهوم الجوهر المثال الكامل في الله حين يصفه اسبينوزا بالتالي:

- الجوهر هو حقيقة الكون ولا يعني هذا برأيه أن الجوهر هو مادة الشيء أو عنصر من مكوناته، لكنه الحقيقة التي وراء كل شيء. الجوهر لا يكون الا واحدا، والاصح لا وجود لجوهر الا واحدا ولا يخرج عنه شيء.5

- الجوهر ازلي لامتناهي، والازلية هي الوجود ذاته المرادف للحقيقة، والازلية يتعذر علينا تصورها من خلال فكرة المدة، أو الاستمرار أو الزمان. والجوهر موجود بالضرورة،أي أن الوجود ينتمي الى طبيعة الجوهر، والوجود ليس شيئا اكتسبه الجوهر من الخارج، أي أن الجوهر ليس مخلوقا.6

- على حد تعبير اسبينوزا الله بوصفه جوهرا لامتناهيا ذا صفات الهية، والصفة هي الشيء المكوّن لماهيته. والعقل ينتقل من الطبيعة الطابعة الى الطبيعة المطبوعة، أي من الله في ذاته، الى الخلق مع عدم التمييز بين الله والخلق. وحين يوضح اسبينوزا توحيده بين الله والطبيعة قائلا: لم اعمد الى تصغيرشأن الله بانزاله الى مرتبة الطبيعة، بل عمدت رفع الطبيعة الى مستوى الله.7

- الحقيقة عالم واحد هو الطبيعة والله في وقت واحد، وليس في هذا العالم مكانا لما فوق الطبيعة. والواقع أن الله والطبيعة متطابقان، اذا تصورنا أن كلا منهما منفردا هو الكائن الكامل الذي أوجد نفسه بنفسه.8

 

علي محمد اليوسف /الموصل

..................................

الهوامش:

1- د امل مبروك، الفلسفة الحديثة ص98، 2،3،4،5،6، ص98

7. ص 99، 8 ص 99

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم