صحيفة المثقف

جمال العتابي: رحيل المبدع وأمنياته الضائعة!

جمال العتابيإذا كانت حيوات مئات المبدعين الراحلين لم تأخذ سبيلها للتسجيل الصوري الحي، أو حتى الصوتي الشائع، فأن المؤسسات الثقافية والفنية قد سجّلت على نفسها شهادة تقصير بحق الأحياء منهم على الأقل، إذ لم تستدرك حتى الآن خطأها الجسيم في هدر كل ذاك التاريخ الذاهب إلى مقابر النسيان.

إن مبدعاً مدعواً للحياة من جديد في مدى الصورة المرئية والمسموعة، سيعانق دون شك أفقين في آن واحد، أفق الآخر، وأفقه هو بالذات، فيما يصبح ساكناً لحيز حياتي جديد، متخطياً الأبعاد، محرراً من القياس الذي تحتويه كل المسافات، ذلك لأنه ينتقل إلينا، ويديم حياته بيننا، ويأتي ليلتقي بنا دون أن يحجبه عامل الزمن أو يغيبه النسيان، وهكذا يعيش تاريخنا الثقافي والفني المشترك، كما لو كان نبضة حيّة في وحدة الوجود.

وإذا كنا ندرك الآن بأن منطق الحياة في هذا العصر، أصبح يتخطانا ليس بالزمن وحده، وإنما بكل التراكم الكمي لمبتدعات العلم والتكنولوجيا، فأن مراسم العزاء لم تعد قادرة على إحياء ذِكر من تقام لأجلهم بحكم العادة، كما انها لاترفع عنا طائلة الذنوب بحق من عاشوا بيننا دونما قدر من عناية ورعاية وتعاطف، ولو كان على  المبدع الراحل أن يجرح إحساسنا بلسان صمته الأبدي، لأسمعنا مرّ العتاب على حياة قضاها بيننا، فلم يجز فيها مستراحاً من صراع، أو مزاحمة في رزق، أو حسد على كسب، أو وظيفة، أو متاع، وهي صورة تقلب النفاق الإجتماعي إلى ما يشبه المساءلة عما يمكن أن يجابه به من رد أخلاقي تكفله القوانين وليس الأعراف.

مثل هذه الظاهرة لابد أن تدرس بعناية تامة، وبروح مدركة لأهمية الثقافة في المجتمع، ليصار في النهاية الى تشخيص أسبابها، وم ثم إزالة الأسباب بتشريعات تنظم العلاقات وترعى الحقوق، وتكفل الحد المناسب لحياة كريمة تحرر المبدع من مذلّة السؤال والفاقة والعوز، بعيداً عن مزاجيات من لا زالوا يعيشون تحت خيمة القبيلة، تحلّل وتحرّم وفق مصالحها، تزيّف الوعي الإنساني، وتنسف الأثر الحضاري، بذهنيتها المتخلفة الجاهلة.

من غيض ذلك الفيض، صور الاصدقاء المبدعين عاطري الذكر، شفيق، وبسام، وصلاح، وآشتي، وغيرهم كثرٌ، هؤلاء كانوا ينتشرون كأرج الورد، إبداعاً، وعملاً، وأصلاً ومعرفة، وقلوباً مفعمة بالحب يتسع لكل الناس، كانوا يكتبون ويرسمون، دون أن يضعوا حدوداً فاصلة بين الناس، لكنهم رحلوا بصمت، بعد أن تقطعت قلوبهم حسرات على أمنيات عزيزة لم تتحقق. في ٱن يصبح الإبداع موقع تشريف، لا سوق مهانة، وإذا كان الكلمة الطيبة ٱن تعطي شيئاً مهماً في هذا المجال فأنها ستفقد صدقها  ومعناها إذا  كانت دون رصيد أخلاقي ومادي.

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم