صحيفة المثقف

محمود محمد علي: سيف الدين الآمدي.. مُنظر الثقافة المنطقية في الفكر الأشعري (2)

محمود محمد علينعود وننهي حديثنا عن سيف الدين الآمدي واسهاماته في نشر الثقافة المنطقية في الفكر الأشعري، وهنا في هذ المقال نود أن نتساءل حول مدي ما كان للآمدي من جهود في مزج المنطق بالفقه علي مستوي الاستنباطات الفقهية ومعالجة القضايا والأقيسة ؟

والإجابة عن ذلك تنقلنا إلي الجانب الاستنباطي في فقه الآمدي؛ حيث يعد الآمدي من أكبر متأخري الأشاعرة الذين ساروا في الطريق الذي رسمه الغزالي لعرض مختصر للمنطق اليوناني يكون بمثابة الآداة أو المنهج الذي سيسر الأصولي عليه في عرضه للمشكلات الفقهية.

وإذا كنا قد عرضنا للجانب التصوري في فقه الآمدي، وكيف نجح في الربط بين التعريفات المنطقية والمصطلحات الفقهية، فسوف نعرض هنا لجانب آخر يتكامل مع ذلك الجانب، ونقصد به استخدام الآمدي للأساليب المنطقية في الاستنباط الفقهي. وهو ما سوف يثبت لنا أن جهود هذا المفكر الأشعري لم تقف علي حد الربط بين المقولات الصورية المنطقية، والمقولات والتعريفات الفقهية، بل تجاوز هذا الحد إلي حيث التأكيد علي توظيف الاستدلالات المنطقية لخدمة الاستنباط لفقهي في مجال الأحكام التي ترتبط بوقائع حيه تقتضي إعمال الفقه فيها، من حيث هو علم يرتبط أساساً بالواقع العملي لحياة الناس وعلاقاتهم في ظل شريعة الإسلام الغراء.

وسوف نعرض هنا لأمثلة ذات دلالات واضحة علي استخدام الآمدي للأقيسة المنطقية الحملية والشرطية في الاستنباط الفقهي، ثم نبين كيف أن الفكر المنطقي ومعطياته بوجه عام، قد ألقت بآثارها وانعكاساتها علي منهجه الفقهي أيضاً.من هذه الأمثلة ما ذكره

في كتبه " الإحكام في أصول الأحكام ". وإليك مثالان يختصان بالأقيسة الحملية:

كل عباده تفتقر إلي النية

كل وضوء عباده

إذن: كل وضوء يفتقر إلي النية

وهذا المثل هو عبارة عن تطبيق للضرب الأول من الشكل الأول في القياس الأرسطي.

المثل الثاني:

لا شئ مما يصح بيعه يكون فيه صفات المبيع مجهولا

كل بيع غائب تكون صفات البيع فيه مجهولة

إذن: لا شئ من بيع الغائب صحيح.

أما عن أمثلة الأقيسة الشرطية التي طبقها الآمدي علي الاستدلالات الفقهية، فنسوق منها مثالين.

المثل الأول:

إذا كان هذا المصلي محدثا  فصلاته باطلة

لكنه محدث

إذن.. فصلاته باطلة.

المثل الثاني:

إذا كان هذا المصلي محدثا  فصلاته باطلة

ولكن صلاته ليست باطلة

إذن.. فهو ليس بمحدث

تلك هي بعض الأمثلة الدالة علي استخدام الأقيسة المنطقية بأنواعها سواء كانت حملية أم شرطية، في استخراج الأحكام الفقهية عند الآمدي، ولقد انعكست بوضوح علي منهجه الفقهي.

ويبدو لنا ذلك بوضوح من خصائص مميزة لهذا المنهج نستخلصها في كتابه " الإحكام في أصول الأحكام ".

وأولي هذه الخصائص علي الإطلاق " الطابع العقلي والمنطقي " الذي يسود في بحثه للمسائل، فهو يورد المسألة الفقهية مفصله، وفي أسلوب واضح لا تعقيد فيه، ثم يورد دليها من الكتاب والسنة، أو الإجماع أو القياس. ويضرب مثالاً لذلك ؛ حيث يقول الآمدي في جواز إثبات الحدود والكفارات بالقياس، خلافا لأصحاب أبو حنيفة. ودليل ذلك النص والإجماع والمعقول. أما النص فتقرير النبي صلي الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل في قوله " اجتهد رأيي " مطلقاً من غير تفضيل، وهو دليل الجواز إليه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع. وأما الإجماع، فهو أن الصحابة لما أشتوروا في حد شارب الحمر قال علي بن ابن طالب كرم الله وجهه: أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي وإذا هذي افتري فحده حد المفتري قاسه علي حد المفتري، ولم ينقل عن أحد من الصحابة في ذلك تكبرا فكان اجماعا، وأما المعقول، فهو أنه مغلب علي الظن فحاز إثبات الحد والكفارة به لقوله عليه السلام:" نحن نحكم بالظاهر والله يتولي السرائر "، قياساً علي خبر الوحد.

وإذا كانت المسألة الفقهية محل اتفاق محل اتفاق إجماع أو ما يقرب من الإجماع بين الفقهاء، وكان الآمدي ينص علي ذلك فيقول:" ذهب أكثر أصحابنا " أو " اتفقوا" أو " اتفق العقلاء " أو " اتفق الفقهاء" و " الأصوليون قاطبة".

أما إذا كان هناك خلاف بين الفقهاء، فإنه يورده، ثم يورد سببه، ودليل كل مذهب فيما ذهب إليه بادئاً في ذلك بالمذاهب المشهورة، ولايترك أوجه الخلاف، حتي بين الفقهاء المجتهدين في المذاهب، كما أنه يتعرض للمذاهب الأخري، بما في ذلك المذاهب المنقرضة، ولعله يرمي من وراء ذلك إلي توسيع مجال النظر المنطقي في الفقه الأشعري،ونذكر هذا النص علي سبيل المثال، حيث يقول الآمدي:" اختلفوا في دخول الأسماء المجازية في كلام الله تعالي، فنفاه أهل الظاهر والرافضة، وأثبته الباقون في كذا... إلي آخره " ، ويقول أيضاً:" اختلفوا في اشتمال القرآن في كلمة غير عربية، فأثبته ابن عباس وعكرمه ونفاه الباقون... إلي آخره".

ثم يأتي بعد دوره، فهو بعد أن يذكر مختلف الآراء ويحللها ويردها إلي مرجعياتها، يدلي برأيه الخاص، فلا يقبل من تلك المذاهب التي يعرضها قولاً، إلا بدليل من ذلك مسألة عصمة الأنبياء قبل البعثة وبعدها، فيقول:" أما قبل النبوة، فقد ذهب القاضي أبو بكر (الباقلاني)، وأكثر أصحابنا ( يعي كبار الأشاعرة)، وكثير من المعتزلة إلي أنه لا يمتنع عليهم المعصية كبيرة كانت أو صغيرة، بل ولا يمتنع عقلاً إرسال من أسلم وأمن بعد كفر. وذهبت الرافضة إلي امتناع ذلك كله قبل النبوة، لأن ذلك مما يوجب هضمهم في النفوس واحتقارهم، والنفرة من أتباعهم، وهو خلاف مقتض الحكمة من بعثة الرسل، ووافقهم علي ذلك أكثر المعتزلة، إلا في الصغائر. والحق ما ذكره القاضي، لأنه لا سمع قبل البعثة يدل علي عصمتهم عن ذلك، والعقل دلالته مبنية علي التحسين والتقبيح العقلي ووجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالي، وذلك كله مما أبطلناه في كتبنا الكلامية ".

وهذا الاتجاه يعبر عما كان يتحلي به الآمدي من نزعة علمية منطقية في منهجه الفقهي. وتبلغ هذه النزعة بالآمدي حداً لا يرد معه أقوال المذاهب فحسب، بل يرد اجتهادات الصحابة رضوان الله عليهم أيضاً، إن لم يقم عليها دليل، ومن ذلك قول الآمدي:" مسألة إذا قال الصحابي، قال رسول الله عليه وسلم كذا، واختلفوا فيه، فذهب الأكثرون إلي أنه سمعه من النبي عليه السلام، فيكون حجة من غير خلاف. ويقول الآمدي أيضاً:" إذا قال الصحابي سمعت رسول الله عليه وسلم يأمرنا بكذا، أو ينهي عن كذا، فهو حجة وهو الأظهر. وذلك لأن الظاهر من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة أن يكون عارفاً بمواقع الخلاف والوفاق، وعند ذلك، فالظاهر من حاله أنه لا ينقل إلا ما يتحقق أنه أمر أو نهي من غير خلاف نفيا للتدليس والتلبيس عنه بنقل ما يوجب علي سامعه اعتقاد الأمر والنهي فما لا يعتقدوه أمرا ولا نهياً.

وأما الخاصة الثانية لمنهجه الفقهي المتأثر بالمنطق، فتمثل في رد الفرع إلي الأصول، فإننا نلاحظ أنه لا تمر أية مسألة، إلا ويردها إلي أصلها من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو غير ذلك من الأدلة الفرعية، سواء كانت من المسائل المتفق عليها أو المختلف فيها، ويبدو ذلك واضحاً لدي الآمدي في مناقشته لهذه المشكلة الفقهية، حيث يقول: إذا حدثت لعامي حادثة وأراد الاستفتاء عن حكمها، فإما أن يكون في البلد مقت واحد أو أكثر: فإن كان الأول، وجب عليه الرجوع إليه، والأخذ بقوله، وإن كان الثاني، فقد اختلف الأصوليون: فمنهم من قال لا يتخير بينهم، حتي يأخذ بقول من شاء منهم، بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأورع والأدين والأعلم، وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الفقهاء والأصوليين، مصيرا منهم إلي أن قول المفتين في حق العامي ينزل منزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد، وكما يجب علي المجتهد الترجيح بين المفتين، إما بأن يتحفظ من كل باب من الفقه مسائل، ويتعرف أجوبتها ويسأل عنها، ضمن إجابة أو كان أكثر إصابة، اتبعه، أو بأن يظهر له ذلك بالشهرة والتسامع، ولأن طريق معرفة هذه الأحكام، إنما هو الظن في تقليد الأعلم والأدين أقوي، فكان المصير إليه أولي. وذهب القاضي أبو وجماعة من الأصوليين والفقهاء إلي التخيير والسؤال لمن شاء من العلماء، وسواء تساووا أو تفاضلوا وهو المختار عندنا.

هذا هو رأي الآمدي في المسألة، وهو يستدل عليه بأن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين، فإن الخلفاء الأربعة كانوا يستنكرون الخلاف تماماً. ومن أمثلة ذلك ما يقوله الآمدي في جواز استصحاب حكم الإجماع في محل الخلاف:" اختلفوا في جواز استصحاب حكم الإجماع في محل الخلاف، فنفاه جماعة من الأصوليين، كالغزالي وغيره، وأثبته آخرون وهو المختار عندنا وصورته ما لو قال الشافعي مثلا في مسألة الخارج النجس من غير السلبيين. إذا تظهر، ثم خرج منه خارج من غير السبيلين، فهو بعد الخروج متطهر ولو صلي فصلاته صحيحة، لأن الإجماع منعقد علي هذين الحكمين قبل الخارج، والأصل في كل متحقق دوامه لما تحقق في المسألة التي قبلها، إلا أن يوجد المعارض النافي، والأصل عدمه، فمن ادعاه يحتاج إلي الدليل. فإن قيل: القول بثبوت الطهارة وصحة الصلاة في محل النزاع إما أن يكون لا دليل أولا لدليل لا جائز أن يكون لا لدليل، فإنه خلاف الإجماع، وإن كان لدليل، فإما نص أو قياس أو إجماع، فإن كان بنص أو قياس، فلا بد من إظهاره، ولو ظهر لم يكن إثبات الحكم في محل الخلاف بناء علي الاستصحاب، بل بناء علي ما ظهر من النص أو القياس. وإن كان بالإجماع، فلا إجماع في محل الخلاف، وإن كان الإجماع قبل خروج الخارج ثابتا. قلنا: متي يفتقر الحكم في بقائه إلي دليل إذا قيل ينزل منزله الجواهر أو الأعراض ؟. الأول ممنوع بل هو باق بعد ثبوته بالإجماع لا بدليل، والثاني مسلم، ولكن لم قلتم أنه نازل منزلة الأعراض ؟ سلمنا أنه نازل منزلة الأعراض، وأنه لا بد من دليل، ولكن لا نسلم انحصار الدليل المتبقي فيما ذكره من النص والإجماع والقياس، إلا أن يبينوا أن الاستصحاب ليس بدليل، وهو موضوع أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم، ولهذا قال عليه السلام " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجز، وقال عليه السلام " أقضاكم علي، واقرضكم زيد،وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ ابن جبل "، وكان فيهم العوام ومن فرضه الأتباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لا غير. ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولا أنكر أحد منهم اتباع المفضول والاستفتاء له، مع وجود الأفضل، ولو كان ذلك غير جائز، لما جاز من الصحابة التطابق علي عدم إنكاره والمنع منه ويتزايد ذلك، بقوله عليه السلام " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" ولولا إجماع الصحابة علي ذلك لكان القول بمذهب الخصوم أولي ".

ومن خلال هذا المثال يتضح لنا أن الآمدي يريد أن تكون تلك المسائل بمثابة القواعد التي يمكن القياس عليها، والاستعانة بها في الاجتهاد والاستنباط لأنها مستمدة من أصول ثابتة، فتكون في قوتها بمثابة تلك الأصول.

وأما الخاصية الثالثة من خصائص منهجه الفقهي فتتمثل في أخذه بمبدأ الترجيح والاجتهاد، فهو بعد أن يستعرض المذاهب في المسألة، ويبين أسباب الخلاف، ويربط الفرع بدليل عند كل مذهب من المذاهب الفقهية، يعتمد علي ترجيح المذهب الذي قوي دليله، فإن وجد الأدلة كلها في درجة واحدة من القوة، اكتفي بعرضها، وإن وجدها في درجة واحدة من الضعف أعرض عنها، وقال في المسألة باجتهاده.

ونلاحظ أن منطلق الآمدي في اجتهاده وترجيحه يقوم علي الجمع بين العقل والنقل. ونسوق مثالا لذلك نثبت به صحة ما نقول. ففيما يختص بمسألة تكليف المرأة الحائض بالصوم. نجده يقول:" اختلف الفقهاء في تكليف الحائض بالصوم، فنفاه أصحابنا، وأثبته آخرون. والحق في ذلك أن أريد بكونها مكلفه به بتقدير زوال الحيض المانع، فهو حق، وإن أريد بها أنها مكلفة بالإتيان بالصوم حال الحيض، فهو ممتنع. وذلك لأن فعلها للصوم في حالة الحيض حرام، ومنهي عنه، فيمتنع عنه أن يكون واجباً ومأمورا به، لما بينهما من التضاد الممتنع، إلا علي القول بجواز التكليف بما لا يطاق، فإن قيل: فلو لو لم يكن الصوم واجبا عليها قضاؤه. قلنا القضاء عندنا إنما يجب بأمر مجرد، فلا يستدعي أمرا سابقا، وإنما قضاء لما فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه في الصوم، ولم يجب لمانع الحيض.

هذا هو موقف الآمدي من قضية العلاقة بين المنطق والفقه بأبعاده المختلفة والذي بدأ فيه الآمدي متأثرا بالمنطق في الجانب التصوري والجانب الاستنباطي معا. وقد استفاد من ذلك بسابقيه وبخاصة الغزالي والفخر الرازي.

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم