صحيفة المثقف

علي صالح جيكور: السمكري

علي صالح جيكورفي سبعينيات القرن الماضي، كان لنا قريب من جهة أمي وأبي، لديه محل سمكرة سيارات، في ساحة الطيران، بالباب الشرقي.

وأظن بأنه أول من إمتهن هذه الحرفة المربحة والنادرة في عشيرتنا، آنذاك.

وكان فارع الطول، عريض الأكتاف،ممتليء بدون كرش، كفه قوية مثل كماشة الحديد وكان نزقاً، سريع الغضب بشكل مخيف، يتعارك مع الذباب إذا حوّمَ حول أنفه.

لم يكن الرجل مؤمناً، ليبتليه الله بما يبتلي المؤمنين، فقد كان بلاؤه من نوع آخر، ومصدر هذا البلاء، هم الأقارب ومنهم أهلي!

إذ ما أن يدق جرس آخر يوم من العام الدراسي، حتى يتجمع فصيل كامل من صبيان وفتية العشيرة ، على باب محل (سمكرة الساعدي.) أملاً بتعلم الحرفة التي جعلت من (خلف) غنياً بعد فقر، ومن اجل أن لانتسكع في الشوارع وتحت الشموس كما تقول أمي.

لم يكن بوسع هذا الرجل سوى أن يتقبل الأمر صاغراً وعلى مضض ويتجرع الثلاثة أشهر وعشرة أيام (مدة العطلة الصيفية)، كمن يتجرع السم، فالويل له إن رفض أحدنا، إذ سيصبح علكةً، يمضغها الاقارب وحكاية يلوك بها القاصي والداني، في الأعراس والمآتم وأفراح الختان.

كان لخلف وهذا أسم قريبنا السمكري، ثلاثة مساعدين وهم أيضاً من أقاربنا، يكبرونا بالعمر وسبقونا الى هذه المهنة بسنوات، بعد أن خلفوا مقاعد الدراسة ورائهم دون اسف، وبعد أن تشربوا الصنعة وأتقنوها، يديرون المحل بحضوره أو غيابه ويقومون بتصليح السيارات المقلوبة والمضروبة والمدعوكة.

أما الباقون وكان عددنا يتراوح بين الستة والثمانية ، فقد توزعت علينا وظائف مُستحدثة وبلا معنى وغالباً ما يقوم إثنان أو ثلاثة منا بعمل واحد في ذات الوقت، إذ أن المكان والصنعة محدودين وليس هناك الكثير لتقسيمه علينا، فقد كنا عالة وبلاءً حقيقياً على الرجل.

كنا نتراكض ونتصادم ونتعثر ببعضنا، ما أن ينادي خلف على جلب قدح ماء أو إستكان شاي له او لضيوفه، كنا نتسابق لنيل رضاه والإفلات من صفع رقابنا أونقر رؤوسنا، بسلاميات أصابعه المخيفة!

ولكوني أصغر القطيع سناً، فقد أوكلت الي وظيفة ملأ مبردة الهواء بالماء، اثناء قيلولة خلف النهارية الممتدة مابين الواحدة والرابعة عصراً، في (أوفيس) المحل، وبعد أن يحتسي كأسين أو ثلاثة من الويسكي أو العرق، فكنت أهرع كل ربع ساعة الى ملأ ابريق المرحاض البلاستيكي بالماء، ورش جهات المبردة الثلاث المحشوة بالحلفاء، والجلوس تحتها في إنتظار النوبة الجديدة.

وفي ظهيرة يوم شديد الحر، عاد خلف غاضباً وعيناه تقدحان بالشرر، بعد أن مازحه أسطوات المحلات المجاورة، ليتسلوا بهيجانه، قالوا له: إرفع يافطة (سمكرة الساعدي) وضع محلها (روضة الساعدي)

دخل هائجاً مثل ثور، ركل كل شيء أمامه، ضرب سقف إحدى السيارات بقبضته، دخل الأوفيس، تناول زجاجة ويسكي من الثلاجة وراح يكرع منها بغضب ويدخن، ثم إستلقى على الأريكة ونام.

رششت كالعادة جهات المبردة الثلاث ورطبت الحلفاء، ثم رحت أتطلع اليه بخوف من خلل الزجاج، سمعته يشخر، عدت الى دلق الماء لمرات عديدة ، كان الهروب الى أحلامي باللعب مع أترابي متنفسي الوحيد الذي يدعوني الى تحمل ساعات اللعنة هذه، أحسست بتنمل أطرافي من الإرهاق والتعب، جلست تحت قوائم المبردة، سرت في أوصالي نسائم الحلفاء المبللة الندية، وهدهدني صوت شريطها ورتابة إيقاع محركها، اسندت رأسي الى الحائط وأستسلمت لإغفائة لذيذة.

حلمت كأني في حديقة منبسطة العشب، تحفها الأشجار من كل جانب، وكنت مع زملاء صفي نرتدي ثياب فريق كرة لا أعرف إسمه، كنت أسدد الضربات من بعيد، فتصطدم جميعها بالقائم، وآخرها حلقت بعيداً، ركضنا وراء الكرة طويلاً، ثم دخلنا غابة تحترق، شممت رائحة شواء كريهة..

إستيقظت مرعوباً على كفٍ من النار، ساطت وجهي يصحبها صراخ مجنون ( ياأبن الك..ة إحتركت المبردة،) لم يلحق على صفعي وركلي ثانية، بعد أن أطلقت ساقي للريح وبعد أن تعثر بأحد النائمين من القطيع المتناثر على أرضية المحل.

***

علي صالح جيكور

قصة قصيرة      

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم