صحيفة المثقف

علي محمد اليوسف: جدل الجدل والمجانسة النوعية

علي محمد اليوسفتمهيد: في هذه المقالة أتناول مناقشة ألقانون الاول من قوانين الديالكتيك الجدلي الماركسي الذي يحكم المادة والتاريخ حسب أدبيات النظرية المادية التاريخية الكلاسيكية. الذي هو قانون وحدة وصراع الاضداد وتعالقه بوحدة المجانسة النوعية الماهية والصفات لموضوعة الجدل، تاركا القانونين الآخرين تحول التراكم الكمي الى تراكم نوعي، والقانون الثالث الذي هو قانون نفي النفي.

السؤال هل يحصل الديالكتيك بين متضادين لا تحتويهما المجانسة النوعية الواحدة بمعنى مجانسة وحدة الصفات والماهية داخل الظاهرة الواحدة لقطبي التناقض؟ وإذا نحن أسقطنا التساؤل على العلاقة الجدلية التي تربط المادة بالفكر فهل الجدل يبقى قائما حاصلا من ناحية إختلاف المجانسة النوعية بين المادة والفكر بالصفات والماهية في إنتاج الظاهرة المستحدثة الجديدة أو ما يسمى المرّكب الثالث؟

حسب قانون الديالكتيك وحدة وتناقض الاضداد إنما تتم عملية الجدل حصرا في مجانسة نوعية تحكم التكوينية الترابطية داخل وحدة المادة أو الظاهرة الواحدة التي تحتوي قطبي التناقض. وبهذا يترتب أن لا يكون  الجدل حاصلا بين الفكر من جهة والمادة من جهة أخرى فلكل منهما صفات وماهية تختلف الواحدة عن الاخرى ولا توجد مجانسة نوعية توحدهما في وحدة تضاد جدلي تناقضي يحتويهما معا. الجدل دائما يحدث داخل المادة او داخل الظاهرة بما لا يستطيع أن يدركه العقل الانساني أو يؤثر فيه، كما أن الجدل قانون طبيعي حسب الافتراض الفلسفي يحدث في الاشياء والموضوعات باستقلالية تامة عن رغائب الانسان وبمعزل عنه.

المعني بوحدة تناقض الاضداد يحتوي المقصود ضمنا وحدة المجانسة النوعية بين قطبي التناقض داخل المادة الواحدة أو الموضوع الواحد. ولا تشمل هنا وحدة الاضداد تضاد الفكر مع المادة في تناقض جدلي لا يحصل ولا يتحقق ولا ينتج عنه ظاهرة جديدة مستحدثة أو ما يسمّى المركب الثالث وذلك لعدم ترابط قطبي التناقض المادة والفكر بصفات المجانسة النوعية الواحدة التي تحكم الجدل داخليا. علاقة الفكر بالمادة علاقة إدراكية خارجية معرفية منفصلة عن التموضع في المادة وليست جدلية تشارك الوحدة التجانسية في تضاد جدلي من نوع مجانسة واحدة.

الجدل وتغييب البرهنة في التطبيق

نتساءل هل أصبح الجدل الديالكتيكي الماركسي بقوانينه الثلاث التي تحكم المادة والتاريخ موروثا قديما كلاسيكيا طواه النسيان وعفا عليه الزمن؟ هل يوجد دليل قاطع على صحة وجود مثل هذه القوانين الجدلية في الطبيعة تحكم تطور المادة والتاريخ بإستقلالية تامة عن الانسان ورغائبه جرى ويجري تطبيقها الميداني أو على الاقل جرى إكتشاف فاعليتها العاملة الشغّالة بمعزل عن معرفة وإدراك الانسان لها؟ الجواب بنعم مشكوك به. هل جرى الاستشهاد التطبيقي الناجح أو الفاشل على صعيد التجربة الشيوعية الماركسية في الاتحاد السوفييتي القديم المنحل على وفق المنهج المادي الجدلي؟ وهل بالمقابل المعياري المقارن إعتمدت الفلسفة المثالية البراجماتية (الذرائعية) منطلقاتها الفلسفية التي تقوم على ركيزة لايبقى معنى للفكر النظري ما لم يكتسب تجربة التطبيق الناجح في تحقيق المنفعة؟

وهل النظريات الفلسفية التي تحوّل بعضها الى دليل عمل ايديولوجي سياسي واقعي أنتج ما كان متوقعا تحقيقه في التطبيق الميداني الذي يستهدي بالفروض النظرية الايديولوجية كمنهج مثال ذلك الاتجاه القومي الاثني كهوية مستقلة عربيا والاتجاه الذي أعقبه في ايديولوجيات اسلامية متطرفة رفعت راية الاسلام على إختلاف تنوعاتها؟؟ الجواب القاطع الناتج عن تجربة برهانية التطبيق لا يوجد نظرية فلسفية ولا ايديولوجيا سياسية إستطاعت إحتواء الواقع الاجتماعي والتعبير عنه على وفق محاولة تطابق النظرية مع الواقع في تحقيق التقدم التطوري تكامليا ومعالجتها مشكلات الواقع بنجاح إسترشادي نظري...حتى ليبرالية ايديولوجيا الرأسمالية لم تنجح في هذا التطابق المزعوم بين النظرية والتطبيق.

كما بقيت إرادة التغييرعند الانسان تمتلك الفاعلية الاولى في تصحيح الخاطيء والتضليلي المعرفي في التطبيق المسخ للافكار ولها الباع الاكبر الذي مني بالفشل الذريع على صعيد الوعي القصدي الهادف من وراء تلك الافكارإجراء تغيرات وتطورات الواقع بمعزل عن الارادة.. ولم يكن الفشل في قصور الارادة الاحاطة بتغيير المسار المنحرف فقط بل في قصور الاستيعاب النظري الاستراتيجي معالجة أخطاء تنظيرات التطبيق .

مثال ذلك أن ستالين كتب في التنظير المادي الجدلي على صعيدي المادة والتاريخ لكنه مارس في سياسته الواقعية أبشع الجرائم الدكتاتورية بإسم الحفاظ على جوهر الماركسية – اللينينية ما يعطينا مثالا صارخا في إنفصامية الفكرالتقدمي الانساني عن التطبيق في وجوب ملازمة إستراتيجية صحيحة حيث النظرية تستوعب الواقع وتحتويه في المعالجة التصحيحية التطبيقية الناجحة.

بإعتقادي لا وجود لتأصيل حقيقي يجعل تطبيق الافكارناجحا عندما يستهدي شكليا بنظريات مكتوبة على نصوص ورقية في وقت مرت به البشرية عبر العصورالتي جرى فيها التعامي عن حقيقة أن تطور الحياة والتاريخ هو تطور تحكمه الاخطاء المتتالية والانحرافات والعشوائيات والصدف غير المتوقعة التي جرى تصحيحها بوسيلة الارادة الذاتية للانسان بعد وقوعها بعيدا عن النظريات الجاهزة التي بدورها حكمت حياة الانسان وتاريخه عبر العصوربتطبيق مسخ حول ما أطلق عليه ضرورة حتمية التطورالمتقدم الى امام، ولم تتمكن تلك النظريات تصحيح إنحرافات مسار التاريخ القاتلة ايضا وتخليصها من الفوضى العارمة كما حكمته الصدف العمياء والعشوائية في المسار التطبيقي القاصر.

تصحيح إنحرافات التاريخ على الصعيد السياسي – الاقتصادي - الاجتماعي المتداخل إنما جاء بعامل الارادة الانسانية الذاتية الصرف التي كانت تنتظر حصول الخطأ لتقوم بمعالجته على قاعدة الفعل ورد الفعل. وليس على وفق استراتيجيات منهجية تستهدي النظريات المكتوبة.التاريخ مسار عشوائي دموي تهيمن عليه الحروب الهمجية، مليء بالمآسي والاحزان والالام التي تحّمل وزر تصحيحها تضحيات الانسان بالروح والمال على مر العصور ومختلف بلدان العالم بلا إستثناء.التاريخ وقائع لا يسبقها نظرية بل يعقبها نظريات تفسير لا نظريات تغيير.

وجوهر التاريخ يقوم على ركيزة ملازمة له هي ارادة الانسان وتضحياته من أجل تصحيح الانحرافات المليء بها التاريخ .بمعنى ما أثبتته التجربة أن الواقع يقود النظريات ولا تقود النظريات الواقع، وأن الواقع في تغيراته العشوائية يرسم التكيّف المفروض على الافكار بضرورة إنسجامها مع مستجدات الواقع قبل أن يطويها الاندثار الحتمي بالزوال، والحتمية الضرورة في التقدم هي في منع تطور عشوائية مسار الواقع وليس مهمتها تنظيم الافكار النظرية بحكم الارادة الانسانية في دفع تصنيع التاريخ الى أمام..

التاريخ مادي يسبق الفكر النظري الايديولوجي ولا غنى له عنه ليس في تغيير الفكر له بل في تفسير الفكر والتعريف به. والفكر لا يخلق تاريخا ، لكن التاريخ كفيل بخلق الافكار والنظريات التابعة له وليست السابقة عليه في المعالجة والتطبيق..

إخفاق التنظيرات السياسية الايديولوجية بالتطبيق يجعل من حقيقة إنفصام النظرية عن التطبيق هي التي حكمت وتحكم التاريخ وستحكمه مستقبلا...ولم يبق في عصرنا الحاضر نظريات استراتيجية تحزم المسار التاريخي في قيادته نحو تحقيق اهداف مرسومة له سلفا.

العبرة ليس في إتقان صياغة النظريات التي تفسرمسار الاخطاء التاريخية بكل إتقان لكنها تعجز عن معالجتها الاستيعابية معالجة جذرية بحيث لا تتكرر تلك الاخطاء ثانية...فيكون الخلل في أداة ووسيلة التنفيذ الانسان غير الصادق مع نفسه ومع مبادئه التي يدّعيها تنظيريا في مركزية الارادة العزلاء التي لا تخلق تاريخا.

هل هذا يقودنا الى أن طروحات فرانسيس فوكوياما في نهاية التاريخ مثلا بمجيء عصر العولمة أصبحت صائبة تحزم التاريخ بالتوقف الذي ليس بعده طفرة نوعية تتجاوز العولمة كتاريخ وصل محطته الاخيرة في مصطلح الانسان الاخير ؟ هذا التساؤل يقودنا الى نفس الخطأ الذي يصور لنا تطور المسار التاريخي تقوده النظريات خارج هيمنة القطب الواحد  خارج أو داخل التعايش معه من قبل الاخرين..في حين المسار التاريخي في كل الاحوال هي سيرورة تاريخية منقادة لارادة الانسان.

إذن أين يكمن الحل في السيطرة على لا نظامية وعشوائية الواقع والانحرافات في الحياة؟ لا يوجد شيء أو عامل سببي لعب دورا حاسما في تصحيح مسار التاريخ سوى الارادة الانسانية النظيفة الصادقة التي تستهدي بمنهج الفعل ورد الفعل فقط...إلباس النظرية للتاريخ ليست ولا تكون ناجحة في صناعة تاريخ جديد بضوء تاريخ حادث أسبق عليه.

التاريخ البشري المعاصر هو تصنيع ارادة انسانية لا تستبق الاخطاء بل تلاحقها في عملية تصحيحها وتخليصها من الانحرافات التي وقعت ميدانيا لهذا السبب أو ذاك. وهنا نقترب جدا من مقولة شوبنهاور العالم ارادة وتمّثل التي هي مقولة مثالية خاطئة تجد في الارادة الانسانية هضم وتفسير التاريخ وليس تغييره. بمعنى شوبنهاور لم يكن يرمي توظيف إرادة الانسان في تمّثلها العالم الذي نعيشه من أجل تغييره بل من أجل فهمه وتفسيره فقط. وهذا الطرح يقاطع بشدة ردة الفعل العنيفة لماركس في إدانته لعبة ولهو الفلاسفة تفسير التاريخ في حين المطلوب تغييره. ما جعله يهجر الفلسفة كتجريد نظري غير قابل للتطبيق الى إلاهتمام بالاقتصاد السياسي في صياغة فلسفة تطبيقية ميدانية هدفها الاول تغيير وصنع التاريخ.

يمكننا الذهاب بعيدا أكثر أنه حتى السياسات التي تحكم عالمنا اليوم لا تستهدي بأية نظرية ترسم المستقبل بالتطابق المتوقع المحتمل ، بل السياسة أصبحت فن اتقان توظيف ردود الافعال تجاه ما يحدثه الواقع في مساره المليء بكل ما هو غير متوقع عشوائي تلعب فيه المصالح والصدف والانحرافات بالحياة دورا كبيرا بما لا تقاس أهميته بالنظريات السياسية والتاريخية المصاغة المصنوعة بعناية فائقة على أنها بضوئها يجري تغيير مسار التاريخ العالمي نحو الافضل في إسعاد الانسان، باستثناء تاريخ منجزات العلم الذي تحكمه الذاتية في التسيير ليس على طريقة فرادة تجربة يوغسلافيا السياسية زمن تيتو التي انتهت بشخصه بعد موته واندثار تجربته الذاتية (زودتشة) في إعتمادها نظرية التسيير الذاتي الاشتراكية بمعزل عن التبعية للتجربة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي القديم وانتهت تجربة التسيير الذاتي اليوغسلافية الى تقسيم يوغسلافيا القديمة عرقيا ودينيا كما هي في حاضرها اليوم. وربما كانت افكار تيتو السياسية الاشتراكية أنضج بكثير عن افكار غورباتشوف التقسيمية التجزيئية. من حيث أن حصيلة هوس التجزئة والتقسيم العرقي والاثني للاتحاد السوفييتي القديم قاد تلك الشعوب الى الوراء بدلا من التقدم الى امام. انحلال وتقسيم الاتحاد السوفييتي القديم بمقدار ما اراح روسيا من عبء منظومة الدول التي كانت تدور حول مركزية موسكو، بمقدار ما خسرت هي والشعوب المنفصلة عنها الكثير الباهض الثمن.

اليس من الملاحظ اليوم أن العالم يسير باتجاه التشّظي والانقسامات التي تركض وراء تحقيق الهوية القومية أو الاثنية الرومانسية في خلق كيانات صغيرة إنفصالية تكون لقمة سهلة البلع في أي وقت من قبل الحيتان الكبيرة.؟ كثيرة هي الاثنيات العالمية التي باتت تدرك أن الانفصال الهوياتي المستقل وتشكيل دول صغيرة ليس في صالح مستقبل أجيالها وسط عالم يموج بالنزعات التوسعية السياسية التي تخدم الدول الكبرى ومصالحها، اقرب مثالين هو تنازل اقليم كوبك الفرنسي في كندا عن رغبة الانفصال، وتراجع اسكتلندة عن رغبة الانفصال عن المملكة المتحدة. وحتى خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي أصبحت اليوم خطأ لا يمكن التراجع عنه وأمثلة من هذا النوع في العالم اليوم كثيرة متعددة في ايرلندا وفي النزاع التركي- الارمني حول اقليم غورني كرباخ، وكما ايضا في مثال انفصال وعودة هونغ كونغ للصين،.

حقيقة جدل الفكر والمادة

يطرح الكاتب السوري محمد ديوب (البحث عن ما يمكن ان نسميه "جدل الجدل" بين الفكر والمادة ). ولم يوضح لماذا هذا المصطلح جدل الجدل وما هي اسبابه؟ وبدوري أستعير المصطلح حسب رؤيتي النقدية لموضوعة الجدل الكلاسيكية. كما ليس عندي يقين قاطع أن مصطلح جدل الجدل

في محاولتي تخليص الجدل الكلاسيكي من اشكالية عدم المجانسة النوعية التي تحكم الفكر والمادة في إحتوائها بما أطلق عليه جدل الجدل، أي الجدل خارج التناقض الجدلي الماركسي في إستحداث حركة التطور الظاهرة الجديدة.

هل قانون ديالكتيك الفكر والمادة هو قانون طبيعي شغّال يعمل باستقلالية عن الانسان على مر العصور التاريخية؟. ولا يمكن لقوة منعه الوصول الى حتميات تطورية متنوعة خدمت مسيرة الانسان باستقلالية ذاتية هادفة منعزلة عن ارادة الانسان؟.بتعبير أشد ضراوة هل قوانين الجدل الديالكتيكي قوانين طبيعية عاملة تحكم المادة والتاريخ أكتشفها الانسان أم قوانين الجدل الماركسي قوانين وضعية إخترعها الانسان ولم تكن موجودة تعمل في إستقلالية طبيعية عنه.؟

في هذا النوع من جدل الجدل حسب تسمية محمد ديوب لا يخضع الجدل المفترض بين الفكر والتاريخ حسب قانون المادية الماركسية التاريخية في وحدة وصراع الاضداد والسبب بذلك هو فقدان المجانسة النوعية الجامعة التوحيدية بين الفكر والتاريخ. بمعنى الفكر لا يصنع التاريخ جدليا بل يسعى ملاحقته التاريخ في تصحيح الانحرافات القاتلة فيه.

هل من الممكن إضافة شرح جديد يتقبله قانون جدل الجدل بين المادة والفكر؟ كموروث ضارب الجذور في القدم ويعمل خارج إرادة الانسان التحكم به ، وخارج التسليم بالاكتشاف الذي توصّله الفكر الهيجلي والماركسي له. ومن المهم التنويه الى أن ماركس إعتبر الجدل وسيلة تغيير وليس هدفا قائما بذاته.تعبير ماركس هذا جاء حين وجد الفلاسفة حتى الماديين منهم لاحقوا تثبيت برهان صدق الديالكتيك كهدف نظري اكثر من إهتمامهم انه وسيلة تغييرلمسار التاريخ الخاطيء وليس هدف برهاني صحيح في التنظير الفلسفي.

ومن المهم التنويه ايضا أنه في ادبيات الفلسفة المثالية يدينون فلاسفتها الماركسية أنهم إبتدعوا قوانين الجدل تنظيريا وبقوا يركضون وراء سراب خادع أوجدوه في مخيلتهم وأرادوا تصنيعه التطبيقي في محاولة فاشلة أوضحها بجلاء عدم إمكانية  التطبيق الميداني لقوانين الجدل ليس في تفسير التاريخ بل ولا في رغبة تغييره حقيقة.. لكن المثير للسخرية أن المثاليين لم يكونوا يمتلكون أفضل مما جاء به الماركسيون.

جدل الفكر والمادة هو من نوع الجدل الفاقد للمجانسة النوعية التي تحتويه (وحدة صراع الاضداد) في التعبير عنها. فالفكر يحكمه الوعي وتعبير اللغة وكلاهما تجريدان لا يجانسان صفات المادة التي لا تمتلك عقلا ولا وعي ولا تعبير لغوي. لذا فالعلاقة الجدلية التي تربط المادة بالفكر هي من نوع جدل التخارج غير المتجانس بين جوهرين منفصلين خارجيا ولا تحتويهما المجانسة النوعية في وحدة الاضداد ديالكتيكيا داخليا لإستحداث تقدما جديدا بمقدار ما تحكمهما علاقة تكاملية ليست جدلية..

في تعبير لأحد الباحثين الجزائريين يقول (لقد إختزلت الهيجلية الماركسية الفضاء الابستمولوجي واللغوي لطبيعة العلاقة بين الفكر والمادة ضمن تطور الوعي من جهة، وتطور الحياة الاجتماعية من جهة اخرى) وكان محقا بما ذهب له في إعدامه الجدل المترابط إفتعاليا بينهما.

لذا نجد أن علاقة الجدل الانفصالية بين المادة والفكر لا تحكمها علاقة صراع الاضداد بل تحكمها علاقة تطورية تخارجية غير جدلية تقليدية تقوم على تاثير أحدهما بالاخربعلاقة تكاملية معرفية ليست جدلية محكومة بالتطور في حفاظ كل منهما على تكويناته التجانسية داخله. ربما يسعفنا التعبير القول أن الجدل الذي يعتمل داخل المادة ليس هو الجدل الفكري الذي يعتمل بالفكر منفصلا خارجيا. الفكر يحمل جدلا تناقضيا ذاتيا مستقلا أكثر مما تتوفر عليه المادة والتاريخ معا.

نجد الفكر أحيانا يلاحق حركة تطور الواقع الاجتماعي السابقة عليه وفي أحيان أخرى نجد الفكر يتقدم صيرورة التطور الاجتماعي المتراجعة عن اللحاق به. بمعنى لا يوجد جدل بين الفكر والتطور الاجتماعي يجمعهما في مجانسة نوعية واحدة يعتمل داخلها التضاد الجدلي في إنبثاق تطور ظهور المرّكب الجديد الذي يشكل الطفرة النوعية التطورية داخله..

هذا يقودنا الى جملة تساؤلات كانت تعتبر بديهية منها مالمقصود تحديدا بوحدة وصراع الاضداد في علاقة جدلية الفكر والمادة؟ كيف يكون الجدل خارج وحدة المجانسة النوعية المختلفة بين الفكر والمادة.؟ والتساؤل هو كيف يكون للفكر علاقة جدلية مع المادة بضوء وحدة صراع الاضداد وعلاقتهما القائمة بينهما علاقة تأثير خارجية انفصالية بحكم إختلاف مجانستهما التكوينية لكل واحد منفردا عن الاخر؟ المقصود بالمجانسة النوعية الضرورية التي لا تجمعهما في مكون واحد يضمهما معا ليتضادان بينهما داخل مجانسة النوع الواحد المفقودة بالصفات التكوينية المختلفة بين ماهية وصفات الفكرعن ماهية وصفات المادة.

فكيف يتم الجدل بينهما وكلاهما المادة والفكر يحملان صفات نوعية خارجية وماهيات جوهرية داخلية مختلفة أشّد الاختلاف والتباين بينهما؟ وهذا الاختلاف بين صفات وماهيات المادة والفكرلا يدخلهما ضمن جدل تاريخي ينتج عنهما سيرورة تطورية متجددة على الدوام. وفي حال حصول علاقة غير جدلية بينهما إنما تكون بين جوهرين منفصلين.

انفصال الفكر الجدلي عن الواقع

من الامور التي تدلل الى عمق الجذور المثالية في فلسفة الجدل الديالكتيكي ما نجده لدى الفلاسفة اليونانيين القدماء، فهم عملوا بالمجانسة النوعية لخاصية طرفي الجدل دونما كانت المجانسة النوعية محط إهتمامهم ولا محط إنتباههم ايضا، حيث إعتبروا الجدل هو حوار يجري بالافكارلتحقيق هدف الوصول الى حقائق الامور والقضايا التي يقبلها العقل وليس من علاقة جدلية تربط الفكر بالواقع. بمعنى الحوار الدائر مهمته الحصول على الاقناع الافضل باللغة من غير علاقة لها جدليا مع الحياة المعيشة ولا مع التاريخ.

ولم يكن في وارد إهتمامهم وجود علاقة جدلية بين الواقع والفكر يولد عنه تطورا نوعيا، كما إعتبروا ما يستطيع الجدل الفكري والمناظرات الكلامية المجردة إثبات مصداقية يقبلها المنطق العقلي هي الكفيل بتصحيح الانحرافات في الواقع المعاش والطبيعة والوجود عامة.. والملاحظ أنهم أهملوا أن يكون هناك جدلا يعتمل داخل التاريخ كما أهملوا ايضا عدم معرفتهم وجود جدل يعتمل داخل المادة من أجل خلق ظاهرة جديدة متقدمة مستحدثة.

فلاسفة اليونان إهتموا بالجدل على أساس أنه حوارمتبادل خطابيا بالفكر المجرد  فقط بغية تحقيق الوصول الى الرأي الاصوب. وبذلك هم فرضوا المجانسة النوعية التي تحكم الفكر منفصلا عن تداخله مع كيفية مغايرة له هي الواقع. وبذلك أهملوا فحوى المقولة الماركسية التي لم تكن معروفة لديهم أن الفكر هو وليد الواقع المادي وظواهره الطبيعية والاجتماعية.نؤكد هنا ما سبقت لنا الاشارة له أن طبيعة الفكر التكوينية هي لغة حوار جدلي سواء أكان مقصودا أم لا.

على ما سبق لنا ذكره يكون لكل من المادة جدلا يعتمل داخلها بمعزل عن الفكر في نفس وقت الفكر له خاصية جدلية تعتمل داخله ايضا، بمعزل عن تكامل الجدل بينهما المادة والفكر. التضاد الجدلي يحصل داخل ظاهرة واحدة أو مادة واحدة متجانسة الصفات النوعية وربما الماهية، وتكون علاقة التخارج التفاعلي التكاملي وليس الجدل الديالكتيكي هو ما يربط العلاقة غير المتجانسة بين شيئين أو بين ظاهرتين.

عليه نجد هناك صراعا ديالكتيكيا بين فكر وفكر آخر مضاد له، ولا نجد مثل هذا الديالكتيك قائما بين مادة ومادة أخرى غير متجانستين لا بالصفات الخارجية ولا بالماهية. والأهم في حال توافر مادتين متجانستين بالصفات الخارجية فمن المحال دخولهما في جدل تناقضي ديالكتيكي، فالجدل يكون داخل المادة الواحدة فقط وليس في علاقة خارجية تربط مادتين..

لماذا يحكم الجدل الفكر خارجيا لا كما يحكم الجدل المادة داخليا ولا يحكمها خارجيا كما هو الحال مع الفكر.؟ هذا يجعلنا نعيد ثانية تاكيد أن الصفات النوعية التجانسية التي تجمع الفكر على صعيد مجانسة النوع الواحد مع فكر آخر متضاد معه يحكمهما الجدل، بينما نفتقد مثل هذه الميزة التجانسية في مادة مع مادة أخرى فلا يقوم بينهما جدلا في عدم إمتلاك المادة صفات تجانسية مشتركة مع غيرها تجعلها تدخل بعلاقة جدلية معها على مستوى المادة. جدل المادة يحدث ذاتيا إنفصاليا عن الفكر داخل المادة الواحدة المنفصلة تجانسيا بغيرها من المواد والموجودات الاخرى..

مثال ذلك أننا لا يمكن حين مزجنا الزيت مع الماء أن نتوقع حدوث تضاد جدلي بينهما ينتج لنا مركبا ثالثا لا هو زيت ولا هو ماء.كذلك نحن لا نتوقع حصول جدل بين شجرة وحيوان ولا بين شجرة وأخرى من نوعها ولا بين حيوان وآخرمن نوعه يجانسه الخواص، والسبب هو أن الجدل تضاد داخلي في المادة أو الشيء الواحد المحكوم بالحركة التغييرية. والتخارج العلائقي بين الاشياء وبين موجودات الطبيعة مع بعضها هو ليس جدلا بينها بل علاقة تكامل بغيرها.

لكن كيف نعلل حصول جدل تناقضي داخل المادة ولا يطال تعالق جدلي فكري يحصل  بين المادة والفكر.؟ اذا ما كانت المادة مهماز تثوير خلق العقل للفكر، فالفكر لا يخلق ظاهرة جديدة في التعالق مع المادة الاصل...لا توجد علاقة جدلية مباشرة بين الفكر والمادة لكن  هنالك جدلا ذاتيا داخليا خاصا بكل منهما على إنفراد منفصل أحدهما عن الآخر.

لا نعتقد يفيدنا كثيرا الخروج من هذا الاشكال الجدلي بين المادة والفكر ومن له الاسبقية والاولوية في إستحداث الظاهرة الجديدة. بالعودة الى الاصول الماركسية التي تذهب لها المادية الجدلية أن المادة تسبق الفكر بالوجود وهو نتاج المادة في استقلالية. على خلاف الفلسفات المثالية التي ترى بالوجود والعالم المادي يقوم على التجربة والحس وتفسير إدراكات الدماغ لها. وما لا يدركه التفكير التجريدي العقلي لا وجود ولا قيمة له في وجوده من عدمه.

ماهي وسيلة الفكر التجريدي في تعالقه الجدلي مع المادة في التغيير؟ هل الفكر في تعبيره عن حاصل عملية الجدل التغييري في المادة والتاريخ من خارجهما يلعب دور الكشّاف غير المخترع لها فقط؟ وهل يمتلك الفكر قابلية أن يكون خارج الجدل الحاصل في المادة والتاريخ القيام بنوع آخر من الجدل الذاتي مع نفسه في إتمام التعريف بالطفرة النوعية التي حصلت في الجدل المادي الواقعي الاجتماعي؟

لا الفكر الانساني ولا الظروف الموضوعية تحضران تداخليا في عملية جدلية تجري على صعيد التاريخ والمادة كلا لوحده.حضور الظروف الموضوعية الخارجية المصاحبة للجدل المادي هو حضور القيام بمهمة تسريع وإنضاج حدة الجدل الذي تنبثق عنه الطفرة النوعية التي هي محصلة التضاد كعوامل مساعدة لا تدخل ضمن سيرورة الجدل.

كان سورين كوركارد أول المنبهين الى أن الجدل الذي لا تتخله الطفرة النوعية في المسارالتاريخي هو جدل غير حقيقي ولا ينتج عنه تغيير. وعبارة هيجل (الجدل مرتبط بفكرة العقل، التي هي طبيعة العقل وماهيته) لم يكن مخطئا بها، من حيث إعتباره الإفصاح الحقيقي عن الجدل هو في حصوله داخل المادة والتاريخ في تعبير الفكر عنه.

الحقيقة التي تعبرالماركسية من فوقها هي في تجاوزها أن المادة والتاريخ صمت أخرس لا يمتلكان قابلية الفكر التجريدي في التعبيرعن نفسيهما...لذا حين يكون هناك ما يسمى (جدل الجدل) داخل تفكير العقل لا يكون بالضرورة تفكيرا مثاليا غير مادي. بل هو التعبير اللغوي عن التعريف بمحصلة الجدل الحاصل بالطفرة النوعية داخل المادة والتاريخ وليس داخل الفكر.

لم ينكر ماركس على هيجل جدله المثالي على صعيد الفكر الفلسفي، كما لم ينكر على فيورباخ ماديته الساكنة في ايجاده ما اطلق عليه (المادية الجدلية) التي هي في جوهرها تناقض يؤدي الى حركة وتغييرفي المادة والتاريخ. بل إستفاد من أخطاء الاثنين في تفسير هيجل للديالكتيك على صعيد الفكر فقط ، كما إستفاد من مادية فيورباخ التأملية صوفيا.

ما يؤخذ على هيجل حسب نقاده أنه حاول (تأليه العقل الانساني الذي فصله عن المادة والطبيعة، وجعل العقل مقابلا لهما بوصفه قوة مبدعة كليّة تحيط بكل موجود).** لذا ليس غريبا أن نجد فيورباخ المادي المنشق عن هيجل أخذ عنه تأليه العقل الانساني في إختراعه الدين وإلإله المعبود بالعودة الى الطبيعة وعلاقة الانسان بها..

هيجل إعتبر العقل مثل ديكارت أنه قابلية توليد الافكارالتي تمّثل ماهية العقل نفسه التي هي الفكرة المطلقة التي تسير بهدي العقل، وبذلك أنكر هيجل المادة والوجود والطبيعة ما لم يدركها العقل كقوة مبدعة شمولية. وبذلك يكون هيجل رائد المثالية الفلسفية التي أخذها عنه ما لا يمكن حصره من فلاسفة مثل بيركلي، وجون لوك، وهوبز، وهيوم وصولا الى بيرتراندراسل وعشرات غيره من فلاسفة اميركان.

خاتمة

يمكننا إستخلاص ما أردنا تاكيده في هذه المقالة حسب إجتهادنا الشخصي، أن الجدل الذي تقوم عليه الفلسفة المادية التاريخية في التطور الحركي الدائم المستمر هو تناقض مادي اقتصادي إجتماعي خلاق يحصل في المادة والتاريخ لا دخل لإرادة الانسان فيه فهو قانون يعمل خارج الارادة الانسانية. ولا تتوفر قابلية لدى الانسان التدخل في الجدل الحاصل خارجيا عنه باستقلالية تامة، وهذا يقودنا التوصل الى ست حقائق لا نعتقد كانت من ضمن إهتمامات دراسة الجدل على مستوى الفكر الفلسفي هي:

- الحقيقة الاولى: لا جدل حقيقي يحصل ويقود الى تناقض ينبثق عنه ظاهرة تطورية جديدة على صعيدي المادة والتاريخ وعلاقة الفكر بهما من دون توافر المجانسة النوعية في الصفات والماهية التي تحكم قطبي الجدل في وحدة تكوينية واحدة. وخارج وحدة مجانسة الاضداد لا يحصل جدل ديالكتيكي يؤدي الى انتقالات تطورية من الطفرات النوعية.كل جدل هو تضاد داخلي في الشيء لا خارجي عنه.

- الحقيقة الثانية: أن جدل الافكار الذي يسبقه الوجود المادي المستقل، هو جدل الجدل الذي يحصل داخل الافكار المجردة المنفصلة في إرتباطها عن الواقع المادي، الذي تعتمل داخله مالا يمكن حصره من أنواع التناقضات الجدلية المستقلة في الطبيعة والتاريخ بمعزل عن إرادة الانسان معرفتها أو المداخلة فيها. وذلك بسبب إنعدام المجانسة النوعية بين الفكر والمادة وبين الفكر والعوامل الاقتصادية والاجتماعية التي يتواصل الجدل في مجالاتهما بلا توقف ولا إنقطاع.

- الحقيقة الثالثة: هو ما يتعلق بحضور الظروف الموضوعية كعوامل مساعدة التي ترافق عملية التضاد الجدلي ولا تمتلك كما هو الحال مع الفكر إمكانية وقدرات المداخلة في عملية الجدل الداخلية ، وإنما يكون حضور الظروف الموضوعية عوامل مساعدة في تسريع جدل التناقض الداخلي من غير ما أن تكون عنصرا متداخلا به.

- الحقيقة الرابعة: هي المثالية الفلسفية بالتفكير المعاصرحين تنكر على الماركسية قوانين الجدل المادية فهي توقع نفسها بورطة أكبر منها أنها تنكر العالم الخارجي والوجود المستقل له خارج ما يدركه الحس والعقل له. وتبقى أهمية السؤال كيف نثبت خارج النظريات وجود قوانين مادية تحكم الوجود بكامله؟، وما هو البرهان الثابت في نكرانها في إلغاء الفلسفات المثالية وجود كل موجود في الطبيعة والعالم الخارجي للانسان لا يدركه العقل؟.

- الحقيقة الخامسة: أن جدل الجدل هو نوع من ديالكتيك عابر لجدل تعالق المادة بالفكر، فهو جدل يفصل جدل المادة لوحدها عن جدل الفكر لوحده. وكل من الجدلين ينتج لنا من خلال التضاد الذي يعتمل داخله حالة تطورية مستحدثة قائمة لوحدها. والسبب في هذا النوع من الانقصال الجدلي هو انعدام المجانسة النوعية بين المادة والفكربالماهية والصفات. جدل المادة التناقضي القائم على وحدة المجانسة النوعية كصفات وماهية للمادة، ليس هو جدل علاقة الفكر بالمادة رغم تباين واختلاف المجانسة النوعية بين المادة والفكر. فجدل الفكر خارج علاقته بالمادة هو جدل يقوم على تفعيل خاصية الفكر النوعية أنه تجريد لغوي قائم بذاته ويخلق جدله الديالكتيكي الخاص به في ظاهرة جدل الجدل خارج النمط الماركسي المعروف كلاسيكيا بين جدل المادة بالفكر. هنا من المهم الانتباه جيدا أن الجدل داخل تجريد الفكر لا يولد من فراغ بل يولد من واقع مادي اقتصادي اجتماعي مشترك.

- الحقيقة السادسة: هي إعتبار ماركس الجدل اداة لمعرفة القوانين التي تحكم العالم الخارجي وتغيّره. هل معنى هذا أن الجدل الذي يربط المادة والفكر حسب الفهم الماركسي هو ليس غاية  قائمة متوخاة في معرفة ولادة الظاهرة المستحدثة الجديدة، وأن الجدل التطوري الذي يحكم المادة والفكرماركسيا إنما هو وسيلة معرفية لاكتشاف قوانين جدلية طبيعية تعمل باستقلالية تامة عن جدل علاقة الفكر بالمادة.؟ إشكالية تحتاج لاكثر من مقال.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

.................................

** نقلا عن ويكيبيديا الموسوعة.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم