صحيفة المثقف

محمود محمد علي.. قراءة في كتاب فلسفة هيوم الأخلاقية (1)

محمود محمد عليللأستاذ الدكتور محمد محمد مدين

1- تقديم: ما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأن الفلسفة الحديثة بدءً بـ" ديكارت" Descartes -1596 – 1650، حاولت أن تركز اهتمامها علي معرفة الإنسان لذاته وللعالم، ولكن هذا التركيز بقي غامضاً وعاماً أكثر مما يجب؛ وكما أوضح الفيلسوف الاسكتلندي ” ديفيد هيوم” David Hume - 1711-1776 في القرن الثامن عشر، فإن هذا التركيز لا يؤدي إلي معرفة العالم علي الإطلاق؛ إذ شكك "هيوم" في إمكانية تخطي معرفة الإنسان لانطباعاته الحسية، أو الذاتية إلي معرفة العالم الخارجي (1)، فهو الفيلسوف الذي شيد وجهة النظر الطبيعية عن العالم بقدر ما يمكن التعبير عنها في الفلسفة في صورة مجردة .

وهذا بالضبط ما دفع هيوم إلي ضرورة دراسة علم " الطبيعة البشرية"، وموضوع هذا العلم هو تفسير مبادئ الطبيعة البشرية، والمنهج الذي يفترضه هو المنهج التجريبي، الذي يركز إما علي الاستبطان الداخلي، أو التأمل الذاتي للظواهر العقلية، أو علي الملاحظات الخارجية للسلوك البشري .

ويصرح "هيوم" بأن جميع العلوم ترتبط ارتباطاً لا تنفصم عراه بعلم الطبيعة البشرية، بل حتي الرياضيات، والفيزياء، والدين تعتمد علي هذا العلم، فهي موضوعاته؛ كما يرتبط المنطق أيضاً بهذا العلم، أعني "علم الطبيعة البشرية"، لأن الغاية الأساسية للمنطق هي تفسير مبادئ ملكتنا الاستدلالية وعملياتها وتفسير طبيعة أفكارنا، وتعني الأخلاق بدراسة السلوك الإنساني بما في ذلك الطبيعة البشرية، وتعني السياسة بدراسة حياة الناس، من حيث هم متحدون ويعيشون داخل المجتمع، ويعتمد كل واحد منهم علي الآخر. وهكذا نجد أن العلوم كلها تعتمد، في رأي "هيوم" علي علم الطبيعة البشرية" (2).

وهنا نجد "هيوم" يشترط علي الفلسفة أن تسلك المنهج التجريبي، وفي اعتقاده أن هذا الأمر مرهون بطبيعة الحال، بأن يقبل موضوع الفلسفة هو نفسه هذا التطبيق، وهذا ما لا يتوفر في الموضوع القديم للفلسفة، سواء كان الوجود العام والمجرد، أو الله، أو المبادئ الأولي للمعرفة لأنها مواضيع ميتافيزيقية يستحيل التجريب عليها . وهذا بالضبط ما دفع بهيوم إلي ضرورة البحث عن موضوع جديد للفلسفة يتوفر فيه شرط التجريب، ووجد هذا الموضوع في الإنسان، فأصحبت الفلسفة معه هي " علم الإنسان"، أو كما يُفضل أن يسميه "علم الطبيعة البشرية"، وإن كان يُطلق عليه أحياناً اسم الفلسفة الأخلاقية " (3).

تنقسم الطبيعة عند "هيوم" إلي قسمين لا ثالث لهما، هما الطبيعة المادية والطبيعة البشرية . تكمن الطبيعة المادية في عالم الأجسام، وقد تكفل "نيوتن" ومن خلال عبقريته بدراسة هذا العالم علي الوجه الأكمل، بحيث إنه لم يترك للعلماء ما يمكنهم أن يضيفوه إليه، إذ يعتقد "هيوم" أن "نيوتن" نجح في بناء فيزياء شاملة وكاملة، استطاعت أن تكتشف قوانين العالم المادي. أما القسم الثاني من الطبيعة فهو الطبيعة البشرية؛ أي عالم الإنسان، وبالرغم من أهميته إلا أنه لم يسترعي إليه اهتمام الفلاسفة بالقدر الكافي، فهو يعاني الإهمال الكبير، وحان الوقت للالتفاف إليه ودراسته بجدية وعمق، وهذه هي المهمة التي سينذر "هيوم" نفسه لها (4).

وبناء علي ما سبق سيظهر لنا أن المشروع الفلسفي لهيوم يتلخص في تطبيق المنهج التجريبي علي الطبيعة البشرية؛ والحقيقة أن "هيوم" مقتنع تماماً أنه لا يوجد أمامنا طريق آخر لمعرفة الطبيعة البشرية سوي الملاحظة والتجربة، ومن ثم يجب علي الفيلسوف أن يستنتج هذه المبادئ من التجربة فقط، ولا يلجأ إلي التخمين والافتراض مطلقاً .

قصدت أن أقدم هذه المقدمة عن "فلسفة هيوم" لأمهد للحديث عن تحليلي للكتاب الشيق الذي بين يدي، وهو كتاب بعنوان " فلسفة هيوم الأخلاقية " للدكتور محمد محمد مدين  (ويقع في (192) صفحة من القطع الكبير)، وفي رأيي أن هناك نمطان من الأساتذة الجامعيين، نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش، والحرص علي أن يكون النقل أميناً، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل، وكلما قل فيما يقولون فإن ذلك هو الصواب عينه، ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش .

ولا شك في أن أستاذنا الدكتور "محمد مدين" من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني، فهو صاحب موقف فلسفي ونقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول أو في قضايا فلسفية ” حديثة ومعاصرة”  بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل أو لم تعبث به يدي الباحثين.

علاوة علي أن "محمد مدين" (مع حفظ الألقاب) يعد واحداً من أساتذة الفلسفة الذين يعملون في صمت وتواضع ودون ضجيج، أو تعالٍ لخدمة تخصصهم الدقيق، فهو كما بحق كما قال عنه أستاذنا الدكتور" مصطفي النشار":"مؤلف ومترجم العديد من الكتب الرصينة فى الفلسفة المعاصرة عموماً والفلسفة التحليلية منها على وجه الخصوص، وهذا مجال انفرد به" محمد مدين" بعد الجهود الرائدة للدكتور" زكى نجيب محمود"، والدكتور "عزمى إسلام"، والدكتور "محمد مهران".. رحمهم الله.. وأسلوبه شديد العذوبة والسلاسة لدرجة يحس القارئ معها أنه يقرأ كتاباً مؤلفاً وليس مترجماً وهذه خاصية لم يتمتع بها ممن ترجموا المؤلفات الفلسفية إلى العربية إلا عدداً محدودا من أساتذتنا كعثمان أمين، وفؤاد زكريا، وأبو العلا عفيفى، وزكى نجيب محمود، وأحمد فؤاد الأهوانى.. رحمهم الله جميعا" (5).

2- أهمية الكتاب:

إن البحث الفلسفي في نظر "محمد مدين" تعبير خالص عن الموقف الفكري المستقل الخالص بالباحث وليس مجرد مجموعة من النقول والشروح والتعليقات المفتعلة . وعلاوة علي ذلك فإن جدية "محمد مدين" وأصالته تتكشف عندما يطرح القضايا الفكرية والسياسية، حيث نجد الغاية من هذا الطرح ليست مجرد تكرار للأفكار، وإنما يسلط الضوء علي أفكار وقصايا بعينها، من أجل أن يكشف عن المجتمعات العربية عموما، والمجتمع المصري خصوصا، وكذلك من أجل أن يستقي القارئ العربي منها مصادر خلاصة من مشكلاته التي تؤرقه وخاصة مشكلة وجوده كإنسان له كرامته الأصلية.

ولهذا يعد "محمد مدين" واحداً من أبرز الوجوه الثقافية من زملائنا المعاصرين، وهو يمثل قيمة كبيرة وشعلة من التنوير الفكري التي بدأها منذ ربع قرن باحثاً ومنقباً عن الحقيقة والحكمة . إنه الباحث عن سبيل يحفظ للإنسان حريته وكرامته فهو ينقب في ثنايا الفكر العربي الحديث والمعاصر، لكنه لا يسلم به من ما يكتب عنه من قبل زملائه الباحثين، بل لديه قدرة عظيمة علي أن يلقي بنفسه في خضم المشكلات المطروحة، ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله هذا الفيلسوف أو ذاك من أعلام الفلسفة الشوامخ.

وإذا ما أكتب اليوم عنه هذه الورقة، فما ذلك إلا نقطة في بحر فكره، وقد آثرت أن تكون ورقتي منصبة حول أحد إسهاماته في الفلسفة الحديثة، وقد اخترت كتابه الذي بين يدي وهو بعنوان "فلسفة هيوم الأخلاقية"، حيث يعد هذا الكتاب واحداً من تلك المؤلفات التي عني بها مؤلفها "محمد مدين" بالدفاع عن  "منطق النقد الأخلاقي" (6).

وهنا نجد “محمد مدين” في معالجته لهذا الكتاب يتحرك من اتجاه فلسفي يشغل في خريطة الفلسفة المعاصرة من مكان القلب، وهذا الاتجاه هو " الاتجاه التحليلي"، وقد كان أستاذنا الدكتور " زكي نجيب محمود "، ومن بعده أستاذنا الدكتور " محمد مهران رشوان"، هما الرئدان له في فكره التحليلي،  إلا أنهما يعكسان بجانب ذلك حماسة وروح "محمد مدين" الشابة، تلك الروح التي تذكرنا بحماسة "ألفريد أير" وروحه الشابة في كتابه القيم "اللغة والصدق والمنطق " كما يعترف هو بذلك (7).

وكما قال " محمد مدين" عن كتاب "خرافة الميتافيزيقا" للدكتور "زكي نجيب محمود"، وكتاب " اللغة والصدق والمنطق" لألفرد أير، أنهما يعكسان الروح الشابة، والحماس الفلسفي لصاحبيهما (8)، فإن " هيوم" بالنسبة لـ"محمد مدين"،  يعكس بدوره روح "محمد مدين" الشابة وحماسه الفلسفي؛ وليس من قبيل المبالغة وصف " هيوم – مدين" بأنه من بين ما صدر عند "هيوم" بلغتنا العربية هو الأعمق والأشمل . ناهيك عن صدوره في زمن كانت " توزن فيه الكلمات بالذهب" (9).

ولم يكن " محمد مدين" في كتابه الذي بين أيدنا مجرد عارض موضوعي لفلسفة هيوم الأخلاقية، وإنما نجد فيه عقلاً في مواجهة عقل، وقد تجلي ذلك في كثير من المواقف النقدية التي اتخذها ط محمد مدين" من فلسفة هيوم، ومن الأفكار السائدة والشائعة عن أن "هيوم" لم يقدم مذهباً معيارياً في الأخلاق، بل كان هدفه دراسة الأخلاق علي نمط "العلوم الوضعية"، أعني دراستها دراسة تجريبية لا مكان فيها للمبادئ والمسائل التي تتخطي نطاق التجربة.

لذلك نجد " محمد مدين " في معالجته للمشكلة الأخلاقية عند “هيوم” يختلف مع كثير من الباحثين الذين تعرضوا لدراسة الفلسفة الخلقية عند "هيوم"؛ حيث يشير في مقدمة الكتاب إلى موقف فلاسفة الأخلاق من نظرية ديفيد  هيوم  في القيمة والأخلاق، وكيف أنهم استقبلوا نظريته استقبالاً فيه الكثير من "الجفوة" و"عدم التعاطف"، لأنه– من وجهة نظرهم – لم ينصف الدور الذي يقوم به العقل في الأحكام الأخلاقية والقيمية والسلوك الأخلاقي . وأنهم اعتمدوا في رأيهم هذا على العبارة الشائعة لهيوم التي يقول فيها "إن العقل وحده لا يمكنه بحال، أن يؤثر في الأفعال، وأنه  عبد "العواطف" … فلا جدوى من زعمنا أن الأخلاق يمكن اكتشافها بالاستدلال العقلي وحده" (10).

والذي يمكن أن يُفهم من هذه العبارة- من وجهة محمد مدين – ليس أن هيوم يرفض دور العقل في الأخلاق بإطلاق، وإنما كان يرفض أن ينفرد العقل وحده بهذا الدور دون استعانة بالعاطفة؛ أي أن هيوم  في نظر مدين هنا كان يعمل باتجاه تركيب المفاهيم (العقل والعاطفة) لا باتجاه تحليلها وفصلها (العقل أو العاطفة) على نحو ما ذهب معارضوه في توجهاتهم الأخلاقية النظرية؛ أي أن الإشكالية نشأت عند النظر إلى المسألة من زاوية التحليل من قبل البعض، ورؤيتها من زاوية التركيب من قبل البعض الآخر (هيوم).  ومن أجل تجاوز هذه الإشكالية يذهب “محمد مدين" إلى زاوية النظر التركيبية (الكلية) التي يقف عندها "هيوم" ومؤيدوه ليقرر أن "القراءة المتأنية والمدققة لرسالة "هيوم" في "كليتها وبدون التوقف عند جزء منها وخاصة لو كان الجزء "الأول" من الرسالة واعتباره معبراً عن "منهجية الرسالة كلها".. سوف تنتهي بنا إلى تأكيد قصور هذه الفكرة السائدة عن “هيوم”  في كثير من الأوساط الفلسفة وعجزها عن تفسير ما نجده في هذه الرسالة من عدم اتساق (11).. وللحديث بقية..

 

أ.د محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – بجامعة أسيوط.

................

1-إبراهيم يوسف النجار: الفلسفة التحليلية: من هيوم إلي راسل، الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، مج 12، ع 63، 1991، ص61.

2-محمود سيد أحمد: الاعتقاد الديني عند هيوم: رؤية نقدية، عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مج 29 ,ع 1، 2000م، ص 110.

3-سليمة قايد: التصور التجريبي للفلسفة عند دافيد هيوم، مجلة الحكمة، مؤسسة كنوز الحكمة للنشر والتوزيع، العدد 31، 2014، ص 27.

4-المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

5- د. مصطفى النشار: د. محمد مدين وفلسفة القرن العشرين، مقال منشور بجريدة الوفد المصرية، Friday, 09 August 2019 19:23.

5- محمد محمد مدين: فلسفة هيوم الأخلاقية، ص

6- محمد محمد مدين: قراءة في فكر مهران التحليلي، مجلة أوراق فلسفية، العدد العاشر، 2004، ص239.

7-المرجع نفسه،  ص 239.

8- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

9- ماهر عبد المحسن: فلسفة الأخلاق: مدين قارئاً هيوم، مجلة أوراق فلسفية، العدد 60، 2018، ص104.

10- المرجع نفسه،  ص 105.

11- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم