صحيفة المثقف

خالد جوده أحمد: شاعرية التكوين وحبات أمل

خالد جودة احمدفي واقعنا شديد الجهامة، يطل علينا ديوان (مايهمش) للشاعر/ سيد الشرقاوي، ليقدم جرعات فنية منعشة تحتاجها الروح المصرية الكسيرة، فمنذ اللمسة الأولي التي تصافح بها عين القارئ علامة الكتاب الكلية يستشعر أنه يمكن للأدب في أيامنا الحزينة تلك أن يقدم حبات للأمل تداوي جراحًا قومية وإنسانية أصابتنا في الصميم.

إشراقة البدايات:

يأتي النص الأول في الديوان (الحلوة دي بلدي) ليقول لنا إن شعرًا عجيبًا في زمان المحنة يستعلن بصرخة شاعر ما زالت روحه تحمل البراءة (الحلوة دي بلدي): (فتح عينيك/ إنت بقيت أكبر من الأول/ وازرع أمل/ تلقى الوجود بإديك بيتحول/ وابني بإيديك/ جنة حلوة/ طرحها وردي/ واصرخ بعلو الصوت وقول/ الحلوة دي بلدي)، وإذا كان من طموح البحث الأسلوبي النظر في تقاطعات البنية الإيقاعية والتركيبية والمعجمية لاكتشاف الآفاق الدلالية للنص، يمكن أن نقف في تأويلي أن دلالة ديوان "مايهمش" (باعتباره كائنًا من ورق له شخصيته المستقلة) أن تمنحنا فكرة.. أن أروع ما في الحياة إشراقة البدايات رغم المآسي والكوارث اللاحقة؛ لأن تلك الإشراقات النيرة سر التكوين وفجر البراءة، إنها روشتة الدواء للواقع المر، يقول الشاعر في نصه المعنون (معني الحياة) والذي يحمل روح الديوان جميعه، بل ويضم بين جوانحه مقولة الشاعر الرئيسة: (كل حاجة في بداية أمرها/ دايمًا جميلة/ فيها سحر الفطرة/ والروح والدفا/ فيها إحساس الوفا/ فيها ترانيم الفرح/ وعيون ماهياش مستكينة/ وكفوف بتزرع في الوجود/ حبات أمل/ تطرح سنابل طيبة/ وقلوب نبيلة/ يتعلم الطير منها معنى الشرف/ معنى الكرامة والفضيلة)، إن الصدق الفني الذي ينبع من صدق الشعور وصفاء الروح ينطق عبر تعبيرات سهلة غير معقدة أو مقعرة، تتواصل مع قارئها عبر درب الفن، إنه الأديب الرسالي صاحب الالتزام القيمي، لا ينثر أدبًا قاتمًا معذبًا ومعذِّبًا للقارئ في تهويمات الروح العليلة، بل يقصد أن يطرق أبوابًا للحلول، ويقدم "معنى الحياة" للذين داستهم الدنيا بسنابك التصحر القيمي والروحي في واقعنا المعاصر.

المقاومة وركوب "سفينة نوح" عليه السلام:

لم يكن شاعرنا "السيد الشرقاوي" مغيبًا عن الواقع أو مثالي النزعة يدور في رحاب الخيال غير مدركٍ لكوارث الوقائع، وغياب الضمير الجمعي الحارس للقيم المصرية (الغائبة مؤقتًا)، بل جاء يرسم بالشعر سبلًا للنجاة، فدارت مفردات قاموسه الشعري حول الصمود، وتناوله في أكثر من مقطع شعري وقصيدة، وتحتل مفردة السفينة (ومشتقاتها وتوابعها) مكانة مهمة ومهيمنة شاعريًّا، بمفهوم طوق النجاة في خضم أمواج كالجبال، ويعلي من قيمة المشاركة الإنسانية والتعاون والمحبة طريقًا وحيدًا كالطود العظيم في عواصف المحن والدواهي، يقول في نصه "احلم معاه": (واركب معاه المركبة/ إيدك بإيده/ صارع الأمواج معاه/ خليك شراع/ واتصدى للريح العتية بقوتك/ وارسم حياتك شط يهديه الأمل/ ويوصله لبر الأمان)، وتشرق شمس التربية بالمحبة في صورة مجازية أرابيسك معشقة، وتتماس مع مقولة (نعيب زماننا والعيب فينا)، فالقدوة الماثلة في إنسانية هادية محبة صافية الروح تماهت مع الشط الآمن (بر الأمان)، والشط ذاته أصبح فنارًا يضئ بوصلة الأمل ويقدمه هدية للحيارى المنكوبين الذين يصفهم الشاعر في نصه "اصحى بقى": (شايل همومك على ضهرك ومتكدر (..)/ تايه بهمك جوا ليل جارح/ بتحارب الأمواج بسفينة امبارح)، إنه يدعو فنيًّا لسفينة نوح القيمية تحديدًا وليست سفينة سواها مثقلة بتاريخ وميراث طويل من الاستكانة.

إن معنى المقاومة ينبض في أوصال الديوان جميعه بعشرات الشواهد، لكنها المقاومة الفاعلة الحركية، التي تعني (من الرائع أن نموت من أجل الوطن، ومن الأروع أن نعيش من أجله)، ليس هروبًا ولا تخاذلًا ولكن فطنة تنظر إلى حياة القضية ذاتها، ومقاومة طبيعة الاستكانة الموروثة، وفيضية النهر التي أثمرت شعبنا الفيضي المحب للاستقرار ناسيًا أن الموت يمثل قمة الاستقرار، وبغير هذا لن يكون النصر الذي يشغل فكر الذات الشاعرة، يقول: (وهنطق الناس اللي عاشت/ من سنين متلجمة/ وامسح على عيون البشر/ أمحي العمى/ وامحي الغيامة المعتمة/ وأدوس على كل المحن/ وافرد دراعاتي وأرفرف في السما/ واكتب على جبين السحاب كلمة وطن)؛ لذلك لم يكن غريبًا أن تتناول القصائد مفكرة حول ثورة الكرامة (يناير 2011) التي لن تخبو روحها، وأن تطل علينا قضية الأوطان (القدس الذبيح)، وأن نسمع نص "خليك حر" الذي يقول إن الحرية موصولة بأسباب السماء والتضرع إليها: (إيه رأيك لو تبقى الفايز/ عيش اللذة/ قوم واتهنى بطعم العزة/ كفاياك ذل وطيش ومهانة/ خليك صادق وارجع ثابت/ خليك واثق).

ولا يتركنا الشاعر دون أن يعيد إنتاج مقولات شائعة ويكسبها حسها الشعري في تفاؤل واستبشار، فيقول لنا مقولة (إن أكثر اللحظات سكونًا هي التي تسبق العاصفة)، في اسشراف شعري لا نبوءة، حيث الاستشراف هو كنز الشاعرية التي ترى ببصيرة معطيات الواقع لترسم المستقبل، فيقول في نصه "فرعون وغار": (ياللي انت عبدت البشر/ رغم إنهم أحرار/ حاسب وحاذر من رماد النار/ كل البشر راح تنفجر من صمتها/ كل العواصف قبلها استقرار)، إنها الشمس التي تغزل الغد المشرق كما جاء في القلب الصافي للشاعر.

استواء سفين الشعر والصور اللونية:

إن سفينة الشعر استقرت علي جودي الصباح، فتألق المعجم ببهجة المفردات، وتداعي التركيب الشعري البسيط الدال، وإذا كان الناقد بوصفه قارئ محب للخبرة الجمالية في الآثار الأدبية يجب أن يتحدث من داخل النص الأدبي، ويقدم شواهد من النصوص كسند قطعي تصدر بها أحكام القيمة في ساحة التلقي العام، فإننا هنا سنكون بصدد نقل نصوص كثيرة، لكن نكتفي بشاهد نصي مثال العينة المنتخبة الدالة على مجتمعها الكلي، يقول: (وانده لصبحك/ تلقي شمسه متزوقة/ وعلى خدودها الفستقي/ ضحكة جميلة محندقة)، (واغزل شعاع الشمس/ يصبح نهار بكره/ أزرع بذور الضي/ تطرح في الوجود فكرة/ واهدم جبال اليأس/ وابني قصور همة)، وتبدو الصور اللونية حاضرة تتماس مع هذا النسيج المبهج وتنسجم معه، ففي نصه الذي يحمل عنوانه معنى الاستعلاء على مضايقات الواقع بلفظها العامي الذي ينطق به المصري الأصيل البسيط "ما يهمش"، يقول: (فلون الحلم مايهمش/ يكون أخضر/ يكون فوشيا/ يكون بمبي/ يكون قلبك على قلبي/ مادام خلفيته بيضا/ فمايهمش).

البساطة التعبيرية وشاعرية التكوين:

يدور أدب التكوين حول الكتابة عن فترة التشكل النفسي والسلوكي للشاب في مقتبل حياته، وزمنيًّا فترة الشباب الأولى، فترة كما يقال في وصف مقوماتها (زمن الصداقة والحب والأحلام، زمن النهم للتحصيل والتغيير)، والسمات النفسية المركزية للديوان تنطلق من هذا الأفق، وشاهد ذلك البساطة التعبيرية وسلاسة الأسلوب ووضوحه وعدم وقوعه في أسر التعقيد؛ لتشرق الديباجة الشعرية بتركيب شعري جوهرة (الأمل/ الحلم/ المشاركة)، هذه البساطة والغنائية وضحت في موضوعات القصائد بين المناجاة والعاطفة، باعتبار العاطفة الصادقة دليل الاستواء النفسي، وغذاء النقاء، والتي نجد بها أيضًا مشتقات السفينة وتوابعها، يقول في نصه "إيه اللي بيربطنا ببعض": (حبنا مرسى وشط ومينا/ بيلملم أشواقنا ف حضنه/ وبيدفينا/ بيخلينا/ ننسى جراحنا وننسى البعد)، واحتلت واسطة العقد قصائد في مرحلة الشباب المبكرة بنص "جراب الحاوي"، والذي يحمل حدوتة شعرية بسيطة وقريبة من المتلقي، ونص "فارقته ليه" المضمخ بغنائية فيها معاني معروفة للقراء وتصل لهم بسهولة حيث تتماس مع أفقهم العاطفي المبكر بشواهد كثيرة، فهي تجربة شعورية عاطفية عادية لكن تستشعر صدقها بألق البدايات.

حتى مواسم الطاعة وقمتها موسم شهر رمضان الكريم "سوق عمران" بتعبير الشاعر في قصيدته ذات المناسبة "سباق الخير"، نجد بهجتها المفتقدة التي كنا نتذوقها قديمًا في رحاب القصيدة، باعتبار الشهر الكريم ميدانًا للتدريب ومعسكرًا للتأهل والإعداد؛ لذلك نجد وعظية في خاتمة القصيدة لتذكرنا بالغاية والأهمية، يقول: (يروح رمضان/ يفوت رمضان/ يموت رمضان/ إله رمضان.. مابيموتشي)

مفردات ثقافية، والمصري البسيط:

في رحلة الديوان نجد التعاطي مع مفردات ثقافية تشكل خلفية المبدع، وتمنح القارئ مفتاحًا لبواعث التأثير على وجدانه، وتضميناته التي تتسرب في شعره لتعبر عنه خير تعبير، فالشعر وثيقة نفسية في الأساس، ولابد أن نعرف روح الذات الشاعرة من شعره، وإلا كان شعرًا مفتعلًا يفتقد الأصالة الأدبية، وهذا ما أسماه النقد بالتناص، أي إن كل نص هو في حقيقته فسيفساء لمئات المشاهد والنصوص والتأثرات المتعددة، وفي الديوان نجد قصص خير من أنجبتهم الحياة (الأنبياء) عليهم السلام، فمن سفين نوح إلى إدريس وأيوب وعيسى عليه السلام؛ الذي أفرد قصيدة تحمل اسمه، وتنضوي على قيمة "الشط الفنار" الذي يحمل هداية القدوة ويعبر عن روح سمحة تعشق الأمل وتراه شط الأمان، يقول في قصيدته "المسيح": (راجعي الأسامي والدفاتر والكشوف/ أيوب ونوح/ إدريس ويونس والذبيح/ يوسف وموسى والمسيح/ أيوه المسيح)، ونجد أيضًا قصة قدمها كتاب الله العزيز في مواضع متعددة وهي قصة سيدنا موسى عليه السلام وفرعون اللعين، باعتبارها قصة الصراع بين الظالم والمقاوم النبيل.

ونجد في الخلفية تقبع "فؤادة" في رواية (شئ من الخوف)، ويستحضر فكرة المؤذن في شخصية سيدنا "بلال" في نصه "نهاية ظالم"، ويتماس مع الأحداث المعاصرة والأخبار العاجلة بنموذج ذبيحة الطهر "مروة الشربيني" في نصه "سؤال" القائم على العزف على وتر الطفل اليتيم لتبشيع الجريمة النكراء، والطفولة حاضرة أيضًا في نصه "كابوس فظيع"، وهي قصيدة وصفية تعبر عن أصالة شاعرية وجراح دفينة من مشاهد معاصرة تدمى لها القلوب الحية لطفولة مقتولة خسة وغدرًا.

كما نجد في الخلفية الانشغال بالمصري المحب للسلام ونفسه الهادئة، فيصف البعد الثقافي لطبيعة الشعب المصري الذي عصف به مكر الليل والنهار، وهو عائد بإذن الله، يقول عن الحلم في قصيدته "مايهمش":  (يكون شموسه دهبيه/ بتحضنّا بحنيه/ وبتدفي سنابل قمح مصرية/ بتتمايل على نغم الفواعليه/ وتتنهد وتتبسم/ بنكتة جميلة مصرية/ وعشه فوق ضفاف النيل/ بتدلل على الميه)

خاتمة.. وفارس الكلمة:

أؤمن أن أجمل الآثار الأدبية ما وافق معناها مبناها، أي امتزج الشكل بالمضمون، والقلب بالقالب، مثلما قال المنفلوطي "الكأس تشف عن شرابها، كما يشف التشكيل عن المعنى". ويكتمل إيماني بأن أجمل النقد ما وافق روح النصوص وعاش في رحابها ذائقًا، لا يجلب لها من خارجها دخيلًا عليها من صخور المصطلحات، بل متحدثًا وهو يتنعم داخل بيتها، ولهذا فإن من المقولات النقدية الممتازة أن كل عمل أدبي يحمل لافتة معبرة عنه ملخِّصة لمقولته، الشارحة لمضمونه في عبارة موجزة، وأنها أشبه بالنافذة المضيئة التي نطل بها داخل النص (= البيت)، ولن نجد مثل نص (فارس الكلمة) والذي يشكل نصًّا موازيًا للديوان ذاته ولا أروع، يقول: (وسط الحديد يا قلم/ يعلى صدى صوتك/ رغم الجراح يا قلم/ تغلب ندا موتك/ تحيا ويحيا الوطن/ طاير في ملكوتك).

 

خالد جوده أحمد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم