صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: ميراثُ النبوّة

مجدي ابراهيميتجدّد ميراث النبوة بالعمل، ويُحيي في القلب التأمل المشروط على شرطه، وشرطه انطباع صورته الشريفة في خيال الذاكرين. ما من فرحة تدخل قلب مسلم محبّ أشدّ ولا أعلى من فرحة ذكره صلوات الله وسلامه عليه، وما من مجلس أطيب ولا أندى من مجلس يُذكر فيه مناقبه الشريفة وعاداته مع ربّه وسننه المتواترة بمطلع النور ..

(قل إنْ كنتم تحبُّون الله فاتّبعوني يحببكم الله)

هذا شرط من يريد محبّة الله: اتّباع خطاه، صلوات الله وسلامه عليه. وعين الاتباع ميراث النبوة على التحقيق. ولكنه ميراث مثقل بالتبعات، وكل تبعة تحتها تكليف، ولا يخلو تكليف من تحمل المسؤولية في شجاعة الأبطال الشرفاء. ومن هنا جاءت المحبّة مقرونة بعين الاتباع، فلا طمع في محبة الله وميراث النبوة مهجور، والتكليف فيه منبوذ أو تحت طينة الطبع النابي الجاف الغليظ مقهور !

مطلع النور:

من المولد المبارك حتى الانتهاء إلى الرفيق الأعلى عاش، صلوات الله وسلامه عليه، حياته في بعدها الزمني المحدود بزمان ومكان، فكان كاملاً مُكمّلاً في خصاله الشريفة ومناقبه العفيفة. لم تصف اللغة ولن تستطيع أن تصف وصفاً من أوصافه على التحقيق؛ لأن الكمال فيه لا يوصف بلفظ ولا يحيط به تصوّر محدود، وبخاصّةٍ إذا كان الكامل يجسّد صفة إلهيّة لا وصف لها إلا النور الذي يشملها ويضمّها.

محمدٌ رسول الله، ولكنه مع ذلك هو قبضة النور. محمدٌ المُبلغ رسالة الله للعالمين، هو الرحمة المُهداة من قبل الله إلى خلق الله أجمعين، ولكنه مع ذلك لولاه لم تُخلق الدنيا من العدم، لولا محمد في البعد الروحي لا البعد الزمني ما خُلقت الدنيا من العدم. وجوده الروحي أسبق من وجود جميع الأنبياء، ومددُ الأنبياء وعلومهم ومعارفهم من مدد نوره السابق.

ولمّا أن ولد، صلوات الله وسلامه عليه، في الفترة الزمنية التي وجدت في زمانها ومكانها، تمثل النور فيه كاملاً فظهرت حقيقته النوريّة الباطنة في مظهره الكامل، ولكنها مع ذلك لم تكن لتظهر فيه ولا في غيره من إخوانه الأنبياء إلّا لإظهار الحقائق الإلهيّة.

ومع أنه السابق للخلق نوره، إلا أن الأنبياء أسبق منه في الوجود الزمني، ولم يسبقوه في الوجود الروحي، غير أنه خاتمهم. خاتم هذا الموكب الخالد، موكب النور الذي تقدّمه وختمه في نفس الحال.

لقد سمّاه القرآن الكريم داعياً إلى الله بإذنه، وسمّاه سراجاً منيراً؛ فالدّعوة إلى الله على الإذن خاصّةُ محمد رسول الله كما كانت خاصّة الأنبياء جميعاً من قبله، فهو يدعو إلى الله بالإذن المخصوص بالرسالة؛ فهو رسول مبلغ للرسالة، مأذونٌ بالدعوة إلى الله على بصيرة لا بل على وحي الشريعة والتنزيل.

هذا بعدٌ زمني محدود بزمان ومكان، المساحة فيه مع كمالها محصورة في تاريخ المولد والنشأة والدعوة ثم الانتقال إلى الرفيق الأعلى، لكنه في نفس الوقت رحمة للعالمين تتجاوز حدود الزمان والمكان والمدّة الزمنية التي عاشها في حياته الشريفة المباركة بمدد لا ينقطع ولا يزول، هو مدد النور المحمّديّ: أوليّته وقدمه.

ومن أجل هذا، سمّاه سراجاً منيراً، سراجاً منيراً للكون من الأزل إلى الأبد. الإنارة سرمدية لا تتوقف على فترة زمنية محدّدة بزمانها ومكانها، فإذا السّراج المنير هذا لا ينصرف إلى البعد الزمني وحده، بل يتعدّاه إلى البُعد الروحي الذي لا ينقطع بانقطاع فترة النبوّة، فهو الذي منه يشع النور ليملأ الأرض والسّماء كما يملأ القلوب والأرواح والأسرار واللطائف والأذواق، ومنه تكون الهداية يتوخّاها الصُّلحاء، وفي التعلق به يكون الهُدى والكمال والرفعة كما تكون علوم الأولياء.

لم يكن عُرفاء الإسلام بالذين يستقون من مشكاة الأنوار نوراً غير نور النبوة؛ ليمدهم بمدد موصول لم يكن لينقطع ولا ليزول في حين انقطعت النبوة بوفاته على التحقيق، وبقى منها الميراث وهو الأبقى والأدوم يدور في فلك إظهار الحقائق الإلهيّة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ولم يكن ميراث النبوة سوى هذا المدد الدائم من فيض فضل نوره، صلوات الله عليه، سواء كان علماً أو خُلقاً أو نوراً أو ولاية وتحقيقاً.

وسمّاه القرآن الكريم الإمام المبين؛ إذ أحصى كل شئ فيه، ولم يكن المجيئ سابقاً في الترتيب على المعجزة إلا بفضل تقدّمه سبق النور (قد جاءُكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين) فالنور أسبق في الترتيب من المعجزة التي هى الكتاب المُبين، إذ كان النور التام الكامل هو محمد رسول الله.

وعلى هذا البعد الروحي جاز للذين عرفوه أن يصلّوا عليه بمطلق الأمر الإلهي، وبمطلق استمراريته في قوله "يصلون": الفعل المضارع الذي يدل على الاستمرارية، بمثل هذه الصيغة: (اللهم صلّ على سيدنا محمد القطب الكامل. الجوهر المكنون، وعلى أخيه جبريل المُطوّق بالنور). وفي الصلاة اتصال باليقين الذي لا شك فيه. فلا يتصل متصل إلا من طريق الصلاة عليه ولا ينقطع منقطع وفي قلبه محبته وموالاته على تحقق المنهج وموافقة الاتّباع.

الجوهرٌ المكنون نورٌ في نور، ولذلك كان ولا يزال قطباً كاملاً، ومن مدد نوره يستمد الأقطاب أنوارهم إلى يوم الدّين. ومع أن أخيه جبريل مطوقٌ بالنور فإنه لم يتقدّم خشية الاحتراق في حين تقدّم هو فاخترق حُجُب الأنوار كلها، فنورُه كاملٌ من نوره وفي نوره. ولم يكن تطويق جبريل بالنور كقبضة النور الأزليّة السرمدية، لذلك تأخّر وتقدّمت .. فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد القطب الكامل والجوهر المكنون، وعلى أخيه جبريل المطوّق بالنور.

لا تحتاج الحفاوة بمطلع النور إلى قناعة عقليّة، ولكنها تحتاج إلى لطيفة ربّانيّة ملآنة بالمحبّة لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: منقذ البشرية من مهاوي الفناء. والمحبّة اتّباع: "قُل إنْ كنتم تحبُّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله". ولا يجب في كل ما كان محبوباً أن يكون محبوباً لشيء آخر وإلا لدار أو تسلسل؛ بل لا بدّ أن ينتهي إلى ما يكون محبوباً لذاته.

وعليه؛ فالاستقراء يدل على أن معرفة الكامل من حيث هو كامل يوجب محبته، .. صلوات الله وسلامه عليه.

رشَاشَات النور:

ومن خطأ الرأي أن يُقال أيهما الأكمل: محمد النبيّ أم محمد الوليّ؟ لأن كمال نبوته ليست بالمفصولة مطلقاً عن كمال ولايته (صلوات الله وسلامه عليه). وحقيقته الروحيّة مددُ حقيقته الزمنية، ولولاه، صلوات ربي وسلامه عليه، لم تخلق الدنيا من العدم كما قال البوصيري حقاً وصدقاً طيّب الله ثراه. ولكن السؤال ينبغي أن يتقرّر هكذا: أيهما الأبقى: محمد النبي أم محمد الوليّ؟

وهو بلا شك سؤالٌ مشروع، والإجابة عليه من جهة الواقع الفعلي مشروعة أيضاً؛ لأن النبوّة انقطعت بوفاته، فلم يبق بعده نبيّ، ولم تنقطع الولاية بوفاته عليه السلام؛ فمدد الأولياء موصول منه على الدوام بغير انقطاع، فالأبقى من جهة (البعد الروحي) ولايته بعد انقطاع فترة نبوته في بعدها الزمني. وكلتاهما - ولايته ونبوته - من الكمال الذي لا يقدح فيه سوى مخبول عقيم البصيرة.

أمّا أبقاهما من جهة الواقع الفعلي، فالولاية ..

حقيقة كنت قد قرأت نصاً تغلب عليه لغة الإشارة لشيخنا الجليل الشيخ "أحمد الأمين" مفاده: أنّ قطرات المطر لا يمكن أن تتكون إلا من خلال ذرات الكون الأرضية، وهي مادة الأرض، وهي ما تنتج الطمي .. وأن نقطة مركز الدائرة الكونيّة ما هي إلا محل السرّ الإلهي الذي يرى النور من خلاله، وهي مظهر النور الإلهي في الكون ... وأنّ السّر الإلهي هو تلك القبضة التي قبضها الله من نوره ثم قيل لها كوني محمداً ... وأنّ تلك القبضة هي التي احتوت جميع نور الكون الإلهي ... وأن الكون كله تكوّن من تلك القبضة من خلال ماء السماء بالتكاثر لتلك القبضة النورانية. ثم قال: هل تعلم أن حقيقة الكون في تلك الذّرة؟ وتلك الذرة ماهي إلا نورانية في أصلها .. وهل تعلم أن تلك الذرة هي بمثابة السراج والكون كله حولها بمثابة القمر المنير .. هل تعلم أن تلك الذرة نتجت عنها الواحدية وكل ما حولها أنتج الأحديّة، والذرة أصلها متفرّدة فكانت منها الفردانيّة" (أ. هـ).

فالإشارة هنا إلى الحقيقة المحمديّة، والرمز مقصود واضح لمن يفهم الإشارة (أول ما خلق الله نور نبيّك يا جابر) وجابر هذا هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري الذي سأل رسول الله صلوات الله وسلامه عليه عن بدء الأمر.

والحقيقة المحمديّة غير الشخصية المحمديّة، الحقيقة لا تشخّص، بينما الشخصية النبويّة تتحقق في الواقع الفعلي، والشخصية المحمديّة أي (شخص محمد عليه السلام) لها بعد زمني ككل الأشخاص، لها بداية ونهاية، مولد فحياة فموت، وجدت في التاريخ فوجودها محدود بزمان ومكان. أمّا الحقيقة المحمديّة فلها بعد روحي مطلق غير محدود ولا مقيّد بالزمان ولا بالمكان. نعم قد تتحقق "الحقيقة" في "الشخصية"، فتحوز آيات الكمال وذروته من حيث كونه إنساناً له معدن النور الإلهي. وكل إشارات العارفين ورموزهم تنصرف إلى هذا البعد الروحي؛ لأنه هو سر مددهم الشريف وإمدادهم اللطيف سواء.

صلوات الله وسلامه على سيدنا محمد النور الذاتي والسّر الساري سرّه في سائر الأسماء والصفات. وسريانُ السّر السّاري في سائر الأسماء والصفات الإلهية لطائف لا يدركها المحجوبون، ولا يعلمها متعلم عاجز عن فقه الإشارة؛ ليقال في إشارته هلاويس، لا بل مواهب وتوفيقات من رشاشات النور.

وفي ميراث النبوة يلزم للعمال لله ميزانٌ صادق على الدوام هو ميزان التوبة. وقد تندرج في هذه الجزئية خصوصية هى من ميراث النبوة على التحقيق؛ فلأهل الخصوص من الأولياء: الشفاعة وهي انصباب النور على جوهر النبوة ؛ فينبسط إلى أهل الشفاعة من الأنبياء والأولياء، وتندفع الأنوار إلى الخلق. فالأولياء شفعاء للمؤمنين ولكن فيما ليس بكفر ولا بمعصية، بل في "حق بحق". وشفاعة الكافر والعاصي هى التوبة. إنما الشفاعة للمؤمنين بالدعاء لهم، والتضرع إلى الله أن يرفع درجاتهم، بوصف أن الأولياء ورثة الأنبياء، ينوبون عن صاحب الرسالة والشفاعة، ويقومون مقامه متى لزم ذلك. ولا تصح الشفاعة للمستهترين أو للعصاة أو للمنافقين، ولكنها تصح للمستغفرين التائبين؛ عسى الله أن يتقبل توبتهم فيغفر لهم ثم يزكيهم بمحبتهم له، أو بمحبته لهم؛ فإنّ التوبة أو عمل مثمر يتدرج بالتائب من حالة إلى حالة، كيما يكون أهلاً لاندفاع الأنوار المنبسطة من جوهر النبوّة إلى النواب الشافعين.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم