صحيفة المثقف

علاء شدهان: في مُعْتَقَلاتِنا المنهجية أو في التمييز بين الآراء وتصنيفها

علاء شدهان القرشي(ابن سينا والفارابي والصدر  نموذجًا)

(فيتجنشتاين المتقدم)، (فيتجنشتاين المتأخر)، (فيتجنشتاين الثالث)، – كما يرى أحد الباحثين – (ماركس الشاب)، (ماركس الكهل) وقبل هؤلاء: (أفلاطون الشاب)، (أفلاطون العجوز)، (أرسطو الأفلاطوني)، (أرسطو اللوقيان)، وغير هؤلاء، مصطلحات مألوفة، مُعبّرة، دقيقة وصارمة، لا معيارية، ولا سلبية، توصف بها أعمالهم. ينتظم الجميع، ولا شك، صفة العبقرية والنبوغ، والمرحلية.

وما بين غرب وشرق، وحزن وفرح، ينجم شاب جديد، فيزداد سعة ونضجا، فيكتهل، وتكتهل معه أفكاره، فيدمغها بإمضاء أبدي، بحبره الأخضر. معلنا تارةً وأخرى مُسرًّا. أبو نصر وابن سينا والصدر، هم أيضا يَنْجُمُون، وينشؤون، ويشبّون، ويكتهلون، نبوغ الأخير ساحر ومدهش، وصل شبابه باكتهاله قبل شيبه وشيخوخته التي حُرم منها. المثير للعجب فيه طيّه لأعمار ثرية وغنية بفترة تعادل عمر شاب واحد.

وهكذا وبعدُ

فلا تعبر تلك الفترات، إلا عن تصنيف علمي، لا يتضمن أي حكم أخلاقي، ولا يمسه من قريب أو بعيد. ف فيتجنشتاين الشاب، تعبير عن أفكار بعينها، كتبها نفس القلم الذي اكتهل، وأصبح شيخا، إلا أنها تمثّل أفكارا أعتقها كاتبها من ربقة مرحلته الأولى، وأنزلها منزلة الرأي الأخير. وهكذا في حالة ماركس، والآخرون. لا توجد حدود صارمة بين المرحلتين، وما تكتنزان من أفكار، إلا أن هناك فرق واضح، وربما صارخ، كما في فيتجنشتاين الوضعي المنطقي – تقريبا – وفيتجنشتاين التحليلي، الذي شطر تاريخ الفلسفة الغربية إلى شطرين: قبله وبعده.

ليس ابن سينا بدعا من الفلاسفة، وكنت سأدهش حيرة إن لم أكن أعثر في كتبه على مرحلتين، فأي عقل حي، يقظ، متحرك، يتفاقم، بمرور الأفكار، ولا يسكن، أو يهدأ ويستقر عند رأي أنتجه، أو نظرية أبدعها، أو فروض افترضها سينتج، في نهاية المسار، مرحلتين، وربما أكثر.

هذه طبيعة العلم، وهذه إحدى (ذاتياته المقومة)، لا عوارضه الشاردة. فالأصغر حجما من كونه، وطبيعته، يستمر بتلمس أرجاء عوالمه المحيطة، ولا يكف عن عادته، هذا دأبه ليلا نهارا. فيزداد تعرُّفا ومعرفة، ويتفاقم مرة أخرى.

يمكن أيضا التمييز بين مرحلتين في فكره، لكنها هذه المرة متصلة بالنوع، لا بالزمن، مع أن الزمنية فيها ممكنة. إلا أن تصنيف منجزه نوعيا أيسر وأعمق وأوضح حدودا، وأكثر أدلة.

يكتب للعامة من المتعلمين، والأمراء، والطلاب، ما يمكن البوح به، ويخص أهله بما لا يمكن دندنته، أو ترنيمه. يصرح في (منطق المشرقيين) أنه لخاصتنا وما أدخرناه لأنفسنا، وما أطلعنا عليه إلا أنفسنا، فالمكتوب له بمنزلة نفسه، وحضور عقله لعقله. وهكذا في (الإشارات والتنبيهات)، وبعض فصول في الشفاء، حين يملي على كاتبه، بين الحين والآخر، أنه من المكنونات.

أنكر كثير من الكتاب والباحثين نسبة (فصوص الحكم) أو (فصوص الحكمة – في بعض المخطوطات) إلى الفارابي، حيث بدى فيه المعلم الثاني مشرقيا جدا. وهو الموسوم بوسم أرسطو، في أخص كنية من كُناه: (المعلم)، نسبة إلى (التعليميات)، وما يتصل بها مشيًا حثيثا في اللوقيان.

حتى ظهرت أبحاث تؤكد نسبته إليه، بلا ريب، خصوصا بعد ظهور شروحات عليه، عنوانها: شرح فصوص الحكم للمعلم الثاني، أو أبي نصر، أو الفارابي، بحسب النسخ الخطية، وهي تتضمن (متن) الفصوص بعينه. وكذلك الحال بالنسبة لل (الفصول) أعني فصول منتزعة، وهو كتاب له أيضا.

يمكن أيضا، بأريحية، الحديث عن الصدر الشاب، والصدر الشاب الثاني، صدر فلسفتنا، وصدر الأسس المنطقية للاستقراء، صدر الاستنباط، وصدر الاستقراء، صدر اليقين الرياضي، وصدر الاحتمال المشروط بال (legitimate)، طريقا إلى (Epistemic Legitimacy).

في (الرسالة الأضحوية في المعاد)، تحدث ابن سينا عن هذا الموضوع الشائك، ولكنه حديث ينتمي إلى مرحلته (نوعه) الثانية، أي: إلى خاصتنا وأنفسنا أو من نعدّه بمنزلة أنفسنا. عثر الغزالي عليه، في فترة بحثه عن جميع كتبه، وسعد به واستغله ل (يُنْزِل) بيانا يقطع به دابر  (الباطنية الأشرار)، أو (الإسماعيلية الملاحدة)، بكتابه المعقود لهذا الغرض عموما، وابن سينا خصوصا، ولا غيره، فهو فيلسوفهم وأُسُّهم الذي يعتمدون عليه. بعد فشل كتابه (فضح الباطنية)، في تحجيمهم أو السيطرة عليهم، وربما وبخه الخليفة بسبب ذلك، فأهداه (التهافت) مضمخا بعبارات التذلل والتزلف الصارخة في مقدمته.

وعلى أي حال.

ينبغي التمييز بين التصنيفين، لكل واحدٍ واحدٍ من نوابغ الفكر أعلاه، لئلا نخلط آرائهم حين تقييمها، أو تحليلها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لنعلم أن الحقول مختلفة، كما هي صور الحياة (بالمعنى الفيتجنشتايني) مختلفة.

فحين ننتقد (المتكلم)، في مقاربته لأدلة وجود الإله، أو عند حديثه عن طبيعة الإله (الأسماء والصفات)، بمعطيات توصّل إليها عقل إسلامي آخر، وهو العقل الفلسفي (المشائي مثلا فالعقول الفلسفية متعددة أيضا)، نكون وقعنا في فخاخ (الحياة) المترامية الأطراف، وثقافاتها، وألوانها، وبيئاتها، وحقولها المتنوعة المختلفة.

أو حين يستعرض أحدهم حنجرته، وقواها، ضدًّا على الفلاسفة، من بيئة (حديثية) أو (فقهية)، نعلم حينها أنه ربما جانب الصواب، ونحتمل أن وراءه يقبع سياسي ماهر، أو أي منتمٍ إلى مؤسسةٍ ما.

يجب أن نفتح قوسا دون غلقه حول كثير من الكتابات والتحليلات والممارسات الفلسفية، تأسيسًا على هذه القواعد، وما مرّ من التقريبات، فهو معيار جيد لتمييز الأفكار، بعد نزع (الختم) عنها، وتناولها تناولا مفهوميا، بعد الترحم على (موت) مؤلفيها.

هذا التمييز مفيد، فهو يطلق أولئك النوابغ من سجونهم التي زُجّوا بها رغما عنهم. بمعادلة بسيطة:

(أ)= (أ)، (أ) ليس (ب).

رأي فلان هو كذا، ولا يكون إلا كذا. فحينئذ نحكم عليه بالإعدام، بعد انتهاء فترة سجنه، في معتقلاتنا المنهجية.

بينما لو كان الحال: (أ) = (أ)، و (أ) هو (ب)، فيمكن أن يكون (ج). حيث (ج)، تطور معرفي ناتج عن (أ)، و (ب)، في زمن آخر، أو منطقة أخرى، أو مجال آخر. وهي هذه المعادلة المقترحة.

الاجترار كارثة، والمجتر كسول، أو أجير. الطريق نحو المجتمع العلمي (حيث يولد العلم في حضنه الطبيعي)، ليس كالخروج في نزهة.

 

بقلم: علاء شدهان القرشي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم