صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: دراسة في عوالم شعر حسين عبد اللطيف

حيدر عبدالرضامجموعة (على الطرقات أرقب المارة) أنموذجا

النص الشعري بين الماحول الزمكانية والفواعل الشعرية المتحولة

الفصل الأول ـ المبحث(1)


توطئة:

أن جاذبية القراءة والتلقي إلى أعمال الشاعر الكبير حسين عبد اللطيف، تتبين لنا من خلالها أسرار جمل سحرها بواسطة تلك البنى العميقة المتآتية من ملفوظات  الذات ـ المكان ـ الزمن، وإذا كانت الذات الشعرية ليست محصورة في اللوحة الأحادية من التشكيل نفسه، فذلك لأنها متصيرة في جملة مكونات اسلوبية شكلية وبنيوية وسيميائية ذات مجالات خصبة من حركية النص نحو خواصية متفردة من روابط وعلاقات ثنائية (فضاء البياض = الزمن الإطاري) وعلى هذا النحو نعاين الانماذج الشعرية في مجموعة (على الطرقات أرقب المارة)على أنها المستوى الأنموذجي من معطيات فضاءات الأسطر البياضية الخاصة من سيرورة وسائل الزمن المحذوف والأداة المحفوفة بالصور والإيحاءات المسكوت عنها بيانيا .

ـ الدال والسياق في رحلة زمن الأداة

وجدنا الدال الشعري في مؤشرات تجربة قصائد الشاعر الكبير حسين عبد اللطيف، في مكونات رحلة شاقة من الأداة السياقية والدلالية في النص، اكتمالا لنواة وصيغة المكونات الزمنية في الوحدات القولية من النص ذاته، إذ تتشكل اللحظة القصدية عبر جمل ومداليل تحكمها إيقاعية التفعيل الوظيفي للأصوات الدوالية ووظائفها، وصولا منها إلى حالة اشتغالية من الأداة المركبة في حياة الزمن البياضي:

لا وجهاً أملكهُ ...

لا أنتظرَ ...

منفيَ أتغرّبُ في المدنِ

أتوزّع مثل شظايا العبوة

فمتى تلتم المرآة المكسورة . / ص11  قصيدة : الفرارة

أن الكاميرا الشعرية هنا معنية بتفقد حالات متناقصة من زمن سياق الذات العاملة، إذ يوغل حس السؤال بآلية تفاعلية متداخلة ما بين الاستفهام المضمن والإجابة من الداخل الذواتي، مما يجعلها أي الدوال تقع في نقطة وقوف البياض تركيزا، بدلالة صفة التفقد والدوران في الماحول المشهدي:(لا وجها أملكه .. لا أنتظر) تحيل حركية هذه الجمل نحو المعادل النصي المتمحور حول هوية (الفرارة) التي تدور في مواقع زمنية عابرة ومتماهية من جدلية (الذات ـ الموضوع) لتنقل ذاتها الأحوالية في أفق من المماثلة الصورية المنقسمة ما بين (توليد الفعل =وجوب الفعل) وهذان المعطيان هما بمثابة الكر والفر دون توقف في مساحة دلالة ( لا أنتظر ...) وعلى هذا النحو تظل فاعلية الذات موزعة ما بين الخارج والداخل تحويلا بالتقاط الصور والمشاهد الجارية في فلك دوران الزمن (الفرارة) لتقدم لنا تمفصلاتها المكانية والزمنية متداخلة وحدود جملة النفي للذات نفسها (منفي أتغرب في المدن)، وذلك عبر جملة اللاحق من النص (أتوزع مثل شظايا العبوة) إذ أن الصورة الزمنية للحال القصدي، موزعا في مواقع من التلفظ الاغترابي الناتج من وراء زمن الدوران والفرار المكاني اللامستقر على أرضية ثابتة من الخصوصية المكانية المستقلة، وإنما الإثارة الحقيقية تكمن في دينامية الحركة الزمنية والمكانية الخاطفة لدال(الفرارة).

1ـ المنظومة الأحوالية بين بؤرة المعنى وجولة الدال:

تتبين لنا القابلية الأحوالية في الوظيفة الحركية لدال(الفرارة) تحقيقا معادلا عن صورة الذات اللاقطة لأهم محطات التوزع المكاني والزماني والسياقي في فواعل الأداة التابعة لمقترحات العنونة المركزية ودلالتها الذهنية المنفتحة نحو الماحول في أفق التصوير والمشاهدة:(فمتى تلتم المرآة المكسورة) تخضع تركيبة هذه الجملة إلى مصورات مراوية (ذاتية ـ موضوعية ـ ذاكراتية) تربطها علاقة خاصة من مقاربة الأنا نحو زمنها الموضوعي المكرس بأستنتاجات مراوية من فعل الذات إزاء ذاتها (فمتى ـ تلتم ـ المرآة ـ المكسورة) المعنى الإيحائي هنا علاقة شرطية تتعلق بتبعثر أحوال الذات عبر أزمنتها وأمكنتها وهويتها الدلالية، فعبر دليل الاستفسار(متى) نستنتج مدى فاصلية الدال الآنوي عن محور موقعه الفاعل، ولأجل إعادة إنتاج المصورات المتصلة بهوية الدوران في الفضاءات المكانية نعاين هذه الجمل الأتية:

.. وجهي

يتسكّع في الحارات

يتجوّل في الأسواق وفي الطرقات

في إعلان أو واجهة من متجر . / ص11 قصيدة : الفرارة

إذ تتمظهر أشكال وبنيات ومحاور ومكونات هذا الفاعل الذواتي، تقصدا زمنيا عبر عاملية تشبعات الأمكنة (الحارات ـ الطرقات ـ إعلان ـ واجهة ـ متجر) مما يحيل من مستوى عكس المصورات إلى حالات ذهنية من الداخل القصدي، إيذانا منه بالتواصل مع صفات وسياقات خارجية عن الفواصل التنقيطية في عين أحوال الاستعداد الدوراني في الزمن والمكان:

ينأى ...

بين الناس

طرقت أقدام غريب ، جواب ...

ضائع

أعتاب مدينتنا ...

فهرب . / ص11

ينتقل الخطاب الآنوي للذات متناسبا مع الأبعاد والأشكال إلى حد الأغتراب الكلي، إذ يوفر مستوى المعاينة والمشاهدة في النص ثمة تفاصيل متباينة ومتغايرة في الملمح والتصريح والمكاشفة (ينأى ... : تحقيق وجوب اللافعل / بين الناس:تماثل فاعل في غياب/طرقت أقدام غريب:جهة خارج إرادة توليد المرآة/ جواب ...: مرسل مضمر وفاعل مراوي = فاصل تنقيط ـ ضائع = متعدي في تحولات الفاعل المنفذ)هكذا تحقق أسلوبية محاور الترسيمة بنظر الاعتبار إلى وجود الخصيصة الدورانية في الزمن والمكان المصور، مما تأخذ هذه الخصيصة العلائقية على عاتقها كل الاشارات الواردة والشاردة من مكنز بنية التأويل.

2ـ الدال المنفذ وزهد مساحة التكوين الداخلي:

أن اللغة الشعرية في قصيدة (الفرارة) محاورة مع الزمن العدمي في أدق مفاصل ومفاوز الذات المزاحة عن كينونتها الهوياتية بدلالة الحال والواقعة والموضعة التلفظية في النص، لذا وجدنا قابلية جدل (الخارج والداخل/ الأنا والآخر) تتمظهران في إشكالية صيغة وصوت(الدال المنفذ) إقترانا به بذلك الزهد الخالص من مساحة التكوين المنغلق من دائرة لغة الداخل الشعري الذاتي:

دوري ...

رجل قد غامر مرّاتِ عدة

قلب امرأة : وطنُهْ

وعذابه

صفر عند الغبطة

يستفسرني :

من أين وأين ؟

أو تملك أرضاً

للسكنى؟ . / ص12  قصيدة : الفرارة

التوجه الدوالي هنا لافتا نحو الاحساس بالذات الشعرية وهي تدخل مراحلها الزمنية العسيرة في الحياة الإطارية ، إذ تلخص لنا لفظة (دوري ...) ثم تعقبها الأفقية التنقيطية نحو ذلك الملازم بالخارج الدوراني، والذي هو بمثابة جملة التحولات في أحوال الذات وما حولها من الأسباب والأشكال المرسلة في قرار المعادل النصي (رجل غامر مرات عدت) قد تفرض هذه الصياغة أنشغالاتها في مجرى عمق أعماق تجارب الذات في زمن الدوران وصولا مكرسا إلى المكاشفة الأحوالية مع مسار فرضية جملة (قلب امرأة:وطنه ـ وعذابه ؟) من الناحية التشكيلية تبقى سيميائية دوال:(قلب ـ امرأة ـ وطنه ـ عذابه) مظهرية خاصة تحددها بنية المشار إليه في صورة دلالة الذاكرة أو الاغتراب أو أفق المقيد إلا من مكونات عاطفية إنسانية مخذولة ، فيما تشتغل الثيمة المركزية (فرارة) بحسية موازاة ومسلمات تفاصيل الزمن الممكن من تشظيات الذات الواصفة.

ـ العلامة الشعرية وبلوغات واقع مواطن الإحالة

تشكل مؤثرات النصية في علاقات الروابط والعلامات المؤولة من شعرية الإحالة القصدية، مبعثا ذو نتيجة متدرجة في إزاحات الفاعل الشعري وملفوظة الأحوالي المتصل وهوية المشاهدة والترسيم لذاته عبر وسائط الدور المؤول من الملفوظ ذاته، وعلى هذا النحو تواجهنا حالات مونولوجية مؤكدة تلقي صعيدها المرمز في محاور (ميتاشعرية) تتلاقح من خلالها العلاقة الداخلية للذات مع وظائف مزاحة من المد الاستعاري المرسل:

شجراً تستثمره

تتمرأى في قاماته

أو تقضم تفاحاته؟

لحظات ...

وفررتُ بعيداً من نفسي ... خجلاً

ـ ثلج

... ثلجٌ يتساقط لن تبلغ منزلك الليل ..

فلتبق وحيدا

في الصمت القاحل والظلماء

تترصّد لو نجمة

لو جاء صديق

لو مرّ بدربي عابر . / ص12 . ص13 قصيدة : الفرارة

تتحول عين الكاميرا الشعرية لرصد حضور استثنائي في أبعاد واقعها الدوراني المبثوث في مراوغة المبذول من صور الحالات، فنحن ومنذ جملة (من أين وأين؟) الاستفهامية نستدرك الطابع الخاص من زمن مجردات الوجود العدمي، لذا يبقى السطر اللاحق(شجرا تستثمره) بمثابة الاستجابة من الأنا الشاعرة بمسلمات الآخر من الأنا ذاتها امتدادا نحو(تتمرأى في قاماته ـ أو تقضم تفاحاته؟) وبهذا الاعتبار تتجاوز الأنا دورانها الزمني ولوجا لها في مؤديات المقايسة في طبيعة جوهر الشكل واللون والنوع وبيان خصوصية فواعل الذات في مسار محيطها من الأشياء والصفات المستهلكة.وما نراه في الجمل اللاحقة من المتن(لحظات ... وفررت بعيدا من نفسي .. خجلا) ما يؤكد على أن الانعطافة الذواتية في الملفوظ، عادة تتوخى لذاتها زمنها المشخص في البعد والعزلة,بوجود ذلك الحائل المتعلق ب (ـ ثلج .. ثلج يتساقط لن تبلغ منزلك الليل)أن شيوع الحالات المجردة في قصيدة الشاعر، تمارس مزاجها المرمز عبر وظائف من الملمح ـ المرمز أيضا، تجاوزا لها نحو أدلة كفائية في الأسباب وأفق حركية عناصر المماثلة القصدية، كما الحال في تكرارية الدال المتني:(ثلج .. ثلج)للكشف عن مكونات الموقع الظرفي من الحال، وخبايا فاعلية الأداة المؤشرة(لن تبلغ منزلك الليل)الأداة الناهية هنا تأتينا كإضاءة بدرجة التمحور والتوظيف الموضعي من محددات المكان والظرف تتابعا(فلتبق وحيدا ـ في الصمت القاحل والظلماء)إن هذا النوع من إحالات الموصوف في الخطاب بمثابة المحتوى المشهدي المتكون ما بين ثنائية(الفقد ـ الأسى)وقد وضع الشاعر لفاعله المنفذ صياغة أجوبة مطروحة في الاختيار الأرسالي(تترصد نجمة ـ لو جاء صديق ـ لو مر بدربي عابر) فهذه الجمل من المحتملات الواردة في سكونية المفترض الأحوالي ، أخذت تكشف لنا بأن أماكن الذات الغائبة هي محض همهمات شاردة في أجواء زوايا(الزمن ـ المكان ـ الذات) لذا نجد المحصل الدلالي منها عبارة عن انتظارات مجهولة عبر فضاءات من البياض والمحذوف الوارد في الزمن المحتمل:

ما أقسى أن يبقى الإنسان وحيدْ

ما أقسى أن يبقى الأنسان بعيدْ

ما أق ...... /. ص13  قصيدة: الفرارة

وتنطوي الابعاد النفسية على مشارف المشغل الذواتي عمقا بالفراغ المكاني والزمني، لذا وجدنا جملة إحالات الصياغة الصورية في المقاطع بمثابة تكوين صورة البياض الذاتي والفضائي في جملة تشكلات الأمكنة والأزمنة بأسلوبية تنتمي إلى مساحة ذواتية وزمكانية، أخذت تشعرنا بالانكماش والانكفاء في آليات الحجب المجردة من سياق رؤية بياضية المسكوت عنه في المضمر النصي غالبا.

ـ تعليق القراءة:

أن تجربة عوالم مجموعة (على الطرقات أرقب المارة) منظومة زمنية ذات أهمية قصوى، خاصة وأن الجسد النصي لا تخلو منه تقانات البياض والمحذوف والتقطيع السطري، إذا التفتنا إلى دلالات قصيدة(الفرارة)موضع مبحث دراستنا فسوف نعاين حجم مؤشرات الدال الزمني في النص، خاصة وإنه منطوق في مساحة الذات المخصوصة بإحالات المعادل الموضوعي المشغول في دال العنونة المركزية (الفرارة) وتنتقل موجهات الدوران بحال الذات تحاورا وتحاملا وتجاوزا إلى أشد اللحظات استقرارا في حياة الفاعل الذاتي:

دوري يا فرّارة

يا أطفال الحارة

يا أزهار

عاد الجوّاب الضائع . / ص13

أن الصورة الزمنية المتمثلة بأداة (الفرارة) تشكل تأويلا في الأفضية (الزمكانية) والذوات المجهولة في الأسماء والعنوانات والهيئات والصور، ناهيك عن مسارات الحلم البياضي المحمل بعشرات الأسئلة والتابوهات المحظورة واللازمات المنتخبة عن واردات وشاردات الزمن حلما وصورا ومرموزا، كما وتبقى النواة في النص تشكل علاقات داخلية شعرية في مسار جوهر المهمش والمركزي من خطاب شعرية الفواعل المحولة في الماحول من حكاية المؤول الإطاري الواقع في مساحة شواغل النص الشعري ذاته.

 

حيدر عبد الرضا

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم