صحيفة المثقف

سامي عبد العال: اطمئنوا.. المستنقع يتّسِعُ للجميع!

سامي عبد العال"الأوحال لا تنضب، والتألُّه الزائف وافر الكمية، والحياة تخاتل البشر دون هوادةٍ..."

"آفة السياسة أنَّها راكمت تاريخاً من إهدار قيمة الإنسان حتى في أتفه التفاصيل..."

بخلاف أيّة جوانب أخرى من ثقافتنا الإنسانية، يمكن وصف السياسة بـ(مستنقع الأوحال). وثمة مناطق سياسية في عالم اليوم تُنبتُ أشواكاً شرسةً كلّما مررنا عليها، لدرجة أنَّ وصفاً كهذا ليس قولاً عارضاً لحال أصليٍ، لكنه شيء دائم موجود بالعمق منها. الأمر في دوائر السياسة، ليس أقل من صراعٍ يُفقد الإنسان الآدمية ويستعمل خلاله أقذر الحيل والألاعيب. رأينا ذلك في كواليس القصور والمؤسسات والبرلمانات وفي كوابيس (الربيع والخريف والشتاء والصيف العربي) مع تحولات الإنظمة الحاكمةِ من مرحلةٍ إلى أخرى.

السياسة لدينا (مياه آسنة) لا يخرج منها دون أذى أكثرُ الناسِ حرصّاً على السلامةِ، ولا حتى أقربهم مودةً للآخرين. ويبدو بالنهاية أنَّ الكل متورط في حالة من (الخُسران المبين)، وهذه من عجائب الأزمان وحوادث الدهور: أنْ تكون جميع الأطراف (مهزُومة وخاسرة) في الواقع بدرجةٍ من الدرجات لو عرفنا الأشياء على حقيقتها. وهو الوضع الذي يفترض فهماً مختلفاً للمسألة في أبعادها الكلية. تُرى إذن.. ما السبب وراء هذا الشيء في مجتمعاتنا العربية التي تحاول نهوضاً من عثراتها؟ وما هي المحددات الدافعة إلى هكذا ثقافةٍ عبر تاريخنا القريب والبعيد؟! ولماذا تتصف السياسةُ بهذا الحال دون غيرها؟!

المسألة ليست خاصةً حتى تمرُّ مرورَ الكرام، لكنها فلسفية الطابع في صلب رؤى التاريخ والحياة الحاكمة للفكر والسلوك. وهو ما يتجلى أكثر ما يتجلى ضمن الأوضاع السياسية كمجالٍّ عام تتشكل فيه غرائز الجُمُوع وتتجلى عبرها نزعات التنافس والتكالب على السلطة. والسياسة في هذا تلخص تاريخ الجنس البشري الدموي مع الآلهة والبشر والكائنات، السياسة هي إحدى الرقاع والرقائق التي احتفظت بـ(حفريات السلطة وغرائزها) في ذهنية الكائن البشري حتى اللحظة. واللافت للنظر أنَّه لم تحدث عليها أية تغيرات تُذكر منذ العصور الغابرة. أغلب ما حدث هو اختلاف الأشكال والأنماط والأقنعة لجوهر غارق في العنف والقمع والمراوغة.

صحيحٌ أنَّه (في مجالات الحياة) قد تصبح نبرةُ التعميم قاتلةً لأي اختلاف، بل فاشلة قطعاً، لكن السياسة تمددُ قاعدة الانفلات من الحقائق دون حدودٍ، تجدد العودة إلى الغرائز البدائية التي تثير الصراعات طوال الوقت. وليس مقصوداً هنا الخروج بفكرة مألوفةٍ وراء المسألة كالخلفيات الاجتماعية والاقتصادية التي تقف وراء أفعال البشر أو تسبب حالة الركود هذه أو تلك. مثل معرفة الخلفيات التي تُشعل حروباً بالحوافر والأظافر والأنياب في عصر من العصور، كما جرى في العصر الحديث مع مخاض الدولة العربية الوطنية وصراع المصالح والتيارات القومية والدينية، وكذلك مع قيام (دُول الاستبداد الديكتاتوري) القائم على الاستغفال وخفة اليد وسرقة حقوق الشعوب وحريتاتها.

هناك تفسيرٌ للمسألةِ يقربُ المسافةَ بين المستنقع وتواتر أشكاله الحاكمة لجوانب الثقافات الشرقية خلف هذه الأصناف من الظواهر. إذ لم تمضِ قضية سياسيةٌ لدى العرب دون الانزلاق إلى أوحالها المترامية من المحيط إلى الخليج. على سبيل المثال: مرت أجيال وتوارت أخرى وستأتي سواها بالتأكيد، ولم تنس الأنظمة العربية المتعاقبة المكائد والأفعال الخبيثة تجاه الشعوب وتجاه بعضها البعض. وليس الأمر ببعيدٍ، حينما كان حُكام العرب يصطّنعون العداءات بين الأنظمة السياسية لمجرد كلمات يلقيها هذا الحاكم أو ذاك على جاره العربي الأفريقي أو تجاه حاكمٍ آخر أسيوي. ويظل التلاسن الإعلامي يطاير الكلمات يميناً ويساراً كي تصل بكامل رائحتها إلى أسماع الناس وأنوفهم.

وفجأة كنّا نعلم بقطع العلاقات وتجميد المصالح وتوقف التجارة والتضييق على حركة المواطنين وصعوبة دخولهم بعض الدول. فقط كان بعض الساسة العرب ينصرفوا إلى إغاظة سواهم كأنَّهم داخل (حلبة للمصارعة) بين السخريات المتبادلة على شاشات التلفاز، ولم يكن بعيداً عن المشاهد تسابقهم في أروقة الاجتماعات السرية لرمي الألفاظ (التلقيح) على الآخرين. ولقد (حرقت المسألة) أوقاتاً ومحطات كثيرةً لدى الشعوب، وكم انشغل الرأي العام بقضايا تافهةٍ على نطاق واسعٍ كما لو لم ينشغل من قبل. وكان الأجدى اشغاله ببرامج حوارية وتثقيفية لمناقشة الأوضاع المزرية التي تمر بها كلُّ دولة.

ما أصل الداء في السياسة التي مثلت الطامة الكبرى بالنسبة لمجتمعاتنا الشرقية العربية؟! بعض الإجابة أنَّه لم يكن (كائن السياسة) بعيداً عن التألُّه الذي يستوطن ذاكرته من قديمٍ. وربما الفكرة الرئيسة أنَّ السياسة أكثر مجالات الحياة إظهاراً لهذا المعنى. من جهة التمكُّن من رقاب البشر واستعباد إرادتهم، بل والجلوس أمامهم على عرش السلطة، على غرار " إله ممسوخ " في رداء حاكم. والحاكم العربي منذ أمد بعيد يظن نفسه هكذا وريثاً لشيء أكبر من وجوده، كما لو أنَّ الوحي يهبط إليه مدداً من السماء، بينما هو الوحيد في الكون الذي يسمعُه ويقرر ماهيته وكيف يأمره ليلاً ونهاراً.

ليست مصادفةً أنَّ (الوظائف النبوئية والشاعرية والسلطوية) تقف بين جوانح الإنسان العربي جنباً إلى جنبٍ. حتى أن ألفاظ النبوة والكهانة والعبقرية والشطح والخبل والجنون وإدعاء النبوة كانت تملأ تاريخ الثقافية العربية، سواء أكانت في الشعر أم الدين أم ممارسات الحياة العامة. وربما لم تُذكر هذه الألفاظ علانية في السياسة مخافةَ أن يلاحق الحاكم القائم قائليها وينكل بمن يردد هذه العبارات أو تلك واصفاً ممارساته بها.

ولقد ظهرَ ذلك بالنسبة للرجل البدوي البسيط في ماضينا القديم، وأسهم تباعاً في إنتاج تراث الصراعات والحروب وأشعار الحماسة والهجاء والمعلقات التي تشبه النصوص الدينية والحكم الشعرية والنسْج على منوالها كلاماً وسرداً. ليس إحساس (الكائن العربي) هذا سوى إحساس كوني باعتباره إلهاً صغيراً يأكلُ من خشاش الأرض. ولكنه في الوقت ذاته يتعامل مع الآخرين (الذين يشعرون بالأمر نفسه) كأنَّه يمن عليهم غير عابئ بقيمة الحياة ولا بالتاريخ ولا بالواقع، كل هذا نتيجة الانتفاخ الخيالي الذي يتقمصه ويسكن لا وعيه باستمرار.

نموذج الحاكم يمثل (قالباً ثقافياً) عبر هذا الإطار، فلم يتطهر عرشُه من الاستحواذ على المقدس بمعناه اللاهوتي السياسي. والدليل قريب جداً من كون الرؤساء يستدعون سريعاً حواشي (الخرافات الغابرة) عندما يتمكنون من ناصية السلطة. جيئة وذهاباً، لا يتوقفون عن مخاطبة اللاوعي الشعبي ببث المخاوف والرهبة تجاه من يخالف أنظمتهم، حتى ولو كانت مخالفة الأخير تدخل من باب النقد لصالح الدولة والمجتمع. وهم يخشون ذلك الرأي المخالف رغم أنَّ دلالة الدولة الراهنة هي دولة التنوع والتعددية بإمتياز، وبالتالي يصبح نقد السياسات جزءاً أصيلاً من حركتها في الواقع. دوماً يأبى الحاكم العربي (القديم والحديث) في التاريخ إلاَّ أن يقلص الدولة في شخصه لا في شعبه، في نظامه لا في تنوع وثراء مجتمعه، في حياته الخاصة لا في مستقبل الأجيال الحالية والقادمة.

وهذا (النموذج الميت - الحي) في دولنا الميمونة يُؤخذ حتى كمثال عام لدى صغار المسئولين وأذيالهم، أي يمسك هؤلاء وأولئك تلك السلسلة التي تتلقى (كل ما تفعل وتقول) من أعلى إلى أسفل. إذ يشكل الواحدُ منهم كائناً مشوّهاً، (نصف إنسان) على أفضل الاحوال بينما (نصفه الآخر) لا أحد يقترب منه. ترى أحدهم متمحكاً ولزجاً كأنَّه يفرز مادةً صمغيةً نتيجة اعتياده التلصص والإخبار عن الآخرين للسلطات وكتابة التقارير التي أدارت عقله كأداة فارغةٍ من أي مضمون، يلهثُ وراء ما يدفع به للالتصاق بالأعلى، كالخفاش الملتصق بالسقف ناظراً إلى الأسفل في جميع الاتجاهات. ولكن هيهات.. هيهات، فالمسئولون بأعلاه أيضاً يدركون أنه (على غرارهم) كائن سادي مازوخي sadomasochist، ينزل بالعذاب والمكايدة على مَنْ هم دونه، ويستعذب التألم والقهر ممن هم فوقه!!

أما المواطن القُّح في دولنا الشريفة العفيفة الطاهرة، فهو خرقة ممزقة الكيان، خرقة بالية لا قيمة لها إلاَّ بقدر ما تمسح تشوهات الأنظمة السياسية، هو متفسخ ومتزلف ومستكين ومنبطح ومستضعف وكائن زاحف على بطنه إلى درجة الذهول. فاقَ جميع الزواحف في مسح الأرض تحت أقدام أسيادة. وإجمالاً لا يوجد إنسان بهذه المواصفات العدمية، لا يوجد إلاَّ في مقابل ادعاء الألوهية ضمناً. وليس هناك أكثر من الحاكم الشرقي (قديماً وراهناً) ادعاءً بكونه مقدساً، فوق البشر، غيرَ قابل للمساس به، مُلهَماً، يأتيه الوحي كلما احتاج إليه بين الفينة والأخرى. فلا يرضى بديلاً عن استعباد رعاياه، على أن تأخذهم استمراء الحياة الذليلة إلى الإنبطاح والتنازل عن بقايا الإنسانية فيهم.

وإلى الآن وبعد الآن، مازال (الحاكم العربي) ينظرُ إلى نفسه كـ(نصف إلهٍ) يستعبدُ كلّ البشر، البشر الذين يستظلون بظلال (جلالته المقدسة). يضع نفسه فوق رؤوس الجماهير وتحت السحب مباشرة، حيث تنزل نعمائه مع الأمطار وتهب روائحه مع العواصف وتذهب عيناه مع البروق والرعود إلى أقصى مدى. والحاكم بهذا يتعامل مع كل (الأحداث السياسية) التي هي ملك الشعوب بمنطق الأقدار. أي أن سلطانه جاء قدراً ولا مناص منه مهما تكن الأحوال. ولكن الأخطر أنّ (القضاء والقدر) يواصل وجوده مع هذا القادم الجديد، ليكون نظامه السياسي قضاءً وقدراً بالمثل. كل ما سيفعله هو بالتبعية مُحرّم على الناس نقده بموجب الأقدار التي تقررت سلفاً.

الكارثة في تراث الحاكم المستبد أنه يعتبر مجرد ابتسامته إحدى رحمات القدر، نسمة من نسمات الحياة العليلة، وعلى شعبه أن يتفيأ ظلالها من وقت لآخر، وإلّا فلن يكون له سوى هجير الطرد وغضب (نصف الإله) القابع في الأعالي. وبطبيعة الحال سيأخذ دهاقنة الإعلام والصحافة المسألة كأنها نعمة إليهة: فنصف الإله قد ابتسم، ها هو قد ابتسم، بلا ريب قد ابتسم وتهدلت أساريره بين العالمين. يالهذا الحظ السعيد، فعلى الشعب إنتظار غيثَ مَنّه وسلواه وعسله. وليت تلك الإبتسامه نتيجة حالة إنسانية ككل البشر الواقعين في السرور والغبطة، لكنها حالة لا تخلو من النكاية والسخرية تمهيداً لمرحلة جديدةٍ من الخداع. وهي حالة قدرية بالمثل، لإشعار المنكوبين والمنكودين بأنَّ الأقدار قريبة منهم جداً. لقد ساقت لهم تلك الابتسامة الخاطفة، مما يحوّل الدولة إلى ضحكة مترامية الأرجاء ومترددة الأصداء مع سياسات التخلف والقمع.

كل ذلك لإيصال صورة من جنس ما يحدث إلى المتابعين: أنَّ إرادتهم الإنسانية لا قيمة لها، وأنَّه لا أهمية لما يفعلون ولما سيفعلون في المستقبل. وتلك خطورة السياسية: أنها ترسم سلطتها كأنها أقدار خارج السيطرة، بل خارج إرادتنا الإنسانية. وأكبر أكذوبة في تاريخ المجتمعات البشرية القول بأن السياسة هي (فن الممكن). فهذا غير صحيح على الأقل في ثقافتنا الشرقية، لأنَّها ستحتاج قروناً وراء قرون من التطور لتثبيت (مجرد تثبيت) فكرة هذا (الممكن) وجدواه. وأن الممكنات مهمة لتحسين الحياة واستثمار فرض جودتها وتجريب البدائل المتاحة لأجل غدٍ أفضل. لقد برهن المستبدون الجُدد كما القدامى: أنَّ السياسة هي (القَدّر) الذي لا يُخطئ أهدافه، قدّر تتم صناعته والمخادعة به وجعله مستوى عاماً من اليقين الجمعي. بحيث تُلغي كل سياسة من تلقاء نفسها أية إمكانية مغايرة لما هو سائد.

وربما فكرة القدّر هذه تتسد المشاهد في جميع التوجهات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مروراً بالتوجهات القومية والاشتراكية والإسلامية. جميعها تعزف على وتر واحد: أنها الأفضل ولا شيء سواها، أنها الأجدى لتلك المرحلة العصيبة دوماً (أو هكذا يتم التصور والتأكيد) ولا أحد غيرها باستطاعته القيام بهذا العمل، والمعنى هنا يبقى قرين الزمن الذي لا مناص منه.

الحاكم بكل هذه الأزياء يقول إن التغيير هو تغيير الأقدار، وطلما أن الاقدار مفروضة من السماء، فالسياسات مأخوذة ومقررة من المصدر نفسه. وبذلك ينجح الحاكم العربي في تحويل قضايا التخلف والاستبداد من السياسية إلى اللاهوت، من المعرفة والفكر إلى الخرافة، من أيدي البشر إلى الظواهر الخارقة، من العمل إلى عطالة التاريخ والواقع، من الحياة إلى الموت. كل ذلك معناه تحول السياسة من فنون الممكن إلى أقفال المستحيل. ربما كانت جميع المجتعات الإنسانية قد تجاوزت هذه المرحلة خروجاً من الأساطير إلى السياسية بمعناها الحقوقي والإنساني، وأخذت تبني دولاً حرة ديمقراطياً قائمة على المواطنة والتعددية وتداول السلطة، غير أنّ مجتمعاتنا العربية مازالت تسير عكس مسار التاريخ، تذهب إلى كهف الأساطير ثانيةً.

الشيء المُحير لدرجة الجنون فعلاً: أنَّ تَبدُّل الوجوه والأحزاب والشخصيات والأنظمة والسياسات وتغيُّرها (على مقاعد السلطة في شرقنا العربي) يثبت هذه القاعدة ولا ينفيها. فقد يكون أحدُّهم مناضلاً وعصامياً مفتخراً بهذا تمام الإفتخار.. وأنَّه كمْ ظل حبيساً للمعتقلات والسجون طوال تاريخه دفاعاً عما يؤمن، وقد يكون غيرُه حاملاً لفيروسات القيم والآمال الكبرى للجماهير ورهيناً للوعود والأحلام العامة.. ولكن بمجرد أنْ يتولى (هذا أو ذلك) معقداً يَشتمُ منه (رائحة السلطة) إلاَّ ويشعرُ بأنَّه يشم (رائحة الجنة). وفجأة يتحول (رأسُه المقدّس) إلى دماغٍ نرجسي مُدمن للمكائد والفِخاخ والمؤامرات إزاء الآخرين بشكلٍّ مُرعبٍ.

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم