صحيفة المثقف

منى زيتون: أخطاء التفكير على مواقع التواصل الاجتماعي

منى زيتونفي كتابي "مهارات التواصل الاجتماعي" كنت قد كتبت مقالًا بعنوان "أخطاء التفكير"، تناولت فيه بالشرح المبسط بعض الميكانيزمات العقلية (إلقاء اللوم على الآخرين،‏ وعدم التفريق بين الحقائق والآراء، والتعميم الزائد، وتشويه الحقائق) والتي تقف وراء تشكل كثير من الأفكار والاعتقادات الخاطئة في البنية المعرفية للأفراد، ومن ثم ظهور السلوكيات المُشكِلة التي تسبب الأذى للفرد أو لغيره من أفراد المجتمع.

وفي هذا المقال سأحاول إعطاء شرحًا مبسطًا لمجموعة أخرى من أخطاء التفكير التي ينتشر استخدام أغلبها بين العرب، وتحديدًا بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تجمعت لدي من خلال ملاحظات وتجارب اجتماعية قمت بها بنفسي في السنوات الأخيرة.

وبدايةً فإنني أعرف أخطاء التفكير بأنها الطريقة التي يُفكر بها الإنسان وتتسبب في تكون اعتقادات وأفكار خاطئة، تدفعه إلى التفاعل الاجتماعي بشكل خاطئ.

حوار البراغيث؛ عندما أحدثك عن (أ) فتقفز إلى (ب)!

حتى عهد قريب كان هناك نوعان من القرّاء؛ نوع يختار ما يقرأ من خلال اسم الكاتب، وقارئ مبتدئ يقرأ من المقالات ما يعجبه عناوينها، ولكن تدهور بنا الحال حتى وصلنا إلى قارئ يكتفي بقراءة العنوان!

كثير من العرب المعاصرين يكتفون بما يمكن وصفه بـ "ثقافة العناوين"، فيتصورون أنهم فهموا ما يريد الكاتب قوله في مقاله من خلال العنوان وحسب! ثم هم بعد ذلك -ولأنهم لا يقرأون ما كُتب- يكونون انطباعًا عمّا يتصوروه مكتوبًا بالمقال، ثم يعلقون -على وسائل التواصل الاجتماعي- بناءً على تصورهم وانطباعهم لا عن حقيقة ما في المقال!

وحُق لي أن أستغرب من رغبة كثيرين عن القراءة ورغبتهم المعاكسة في التعليق! فهم لا يفوتون منشورًا دون أن يعلقوا عليه، وكأن موقع الفيسبوك يعطيهم مالًا نظيرًا للتعليقات!

وبعض القراء يكتفي بقراءة جزء من المقال، وأحيانًا جزء من السلسلة، فهناك مقالات تكون مطولة بحيث تتم تجزئة كل منها للنشر في سلسلة، مع التنويه الدائم من الكاتب على أن الأجزاء التالية من المقال ستتناول كيت وكيت، ومع بداية كل جزء جديد ينوه على أنه سبق أن تحدثنا في الجزء (أ) عن كذا وفي الجزء (ب) عن كذا، ولكن هيهات أن يتفاعل هؤلاء القراء بالتعليق المناسب تحت المحتوى المنشور في كل جزء من السلسلة؛ فأجدني أتحدث عن (أ) لأُناقش في (ب) و (ج) و (د)! وهي الأجزاء التي لم تُنشر بعد، أو أجد تعليقًا تحت جزء (ج) يسأل عن محتوى جزء (أ) ومن الواضح أن من كتب التعليق لم يقرأ هذا الجزء القديم رغم التنويه عن الأجزاء السابقة في بداية المقال الجديد، وأحيانًا مع وضع رابطها!

وهذا أسلوب تفكير عجيب غير منظم يذكرني بنوع من الحلوى المصرية المعروفة بالمشبك، حيث يتم صب العجين بأسلوب عشوائي يجعل القطعة الواحدة تتشابك جميع أجزائها بطريقة معقدة متداخلة يستحيل فصلها إلا بتهشيمها!

وكمثال ليتضح الأمر، فمن الشائع بالنسبة لي عند مناقشة من يؤمنون بنظرية التطور أنني عندما أتحدث عن المغالطات المنطقية المستخدمة في شرح نظرية التطور يحولون الحديث إلى الحفريات، وعندما يأتي دور الحفريات يتركون ردي عليهم لينقلونا إلى الحديث عن نماذج تراكمية تطورية أو غيرها! ولهذا فقد عزفت منذ زمن عن النقاش معهم، وصرت أكتب فقط ردودًا على ما يطرحونه، لأنه ليس من المنطقي أن أكتب في (أ) لأتناقش في (غ)، وعندما يأتي دور هذه (غ) فجأة يصيرون مغرمين بنقاش (و)! كما أنه لا مانع من حشر دوران الأرض في النقاش! وإدخالنا في مغالطة عدم ترابط!

وفي أحد مقالاتي الفكرية ناقشت الأفكار الإلحادية المضمنة في نظرية التطور، تلك التي يدسها من ينتسبون للإسلام ويؤمنون بالتطور، ولهم رءوس معروفون، وهم يرددون الأفكار التي ذكرتها ورددت عليها في مقالي، وأراها أفكارًا إلحادية، مع عدم طعني في أصحابها وإحسان الظن بهم. وإذا بالتعليقات في وادٍ والمقال في وادٍ آخر، فاكتفيت بالتعليق قائلة: "إن كان هناك من يرى من المؤمنين أن تلك الأفكار ليست إلحادًا، ولديه إضافة في هذا الصدد، فهذا هو محتوى المقال المطروح للنقاش، وليس أي شيء آخر، وقطعًا لا علاقة للملحدين بأمثال هذا النقاش!".

وفي مقال عن "خصائص التعليم المختلط"، ولم يخل من ردود على النقاط التي طرحها معارضوه! أشرت في نهاية المقال إلى أنني في اليوم التالي مباشرة سأنشر مقالًا آخر عن "خصائص التعليم منفصل الجنس"، فجاءت جميع التعليقات تحت مقال الاختلاط -وبلا استثناء- عن خصائص التعليم المنفصل! فما كان مني إلا أن رددت بأن "إن أردت معرفة خصائص التعليم منفصل الجنس ومزاياه كما يسوق له أنصاره، فلتنتظر المقال التالي الذي أشرت إليه في نهاية هذا المقال!".

ويبدو أنها عادة عربية أصيلة في التعليق على المقالات، وهي حشر المعلقين لنقاط غير ذات صلة بمحتوى المقال في تعليقاتهم ‏لجرجرة الكاتب للرد عليهم بمحتوى مقال سابق أو لاحق له! وعدم مناقشة المحتوى ذاته الوارد في المقال، أو أن يسوقوا كلامًا مبهمًا لا معنى حقيقي له للاعتراض، كذلك التعبير الذي ذكره أحد المعلقين بأنني "أسوق للاختلاط" لأنني خصصت مقالًا لمناقشة خصائصه!

والأمر يكاد يكون تكرر بعينه في مقال آخر عن "عقيدة السلفية" نُشر على ثلاثة أجزاء، فالتعليقات على الجزء الثالث منها لو كلف أي معلق منهم نفسه عناء قراءة الجزء الأول ما كتبها!

وكذا في سلسلة مقالات عن "عقيدة المعتزلة"، فدائمًا يأتي التعليق تحت كل مقال في السلسلة التي تتكون من خمسة أجزاء بما لا يتناسب مطلقًا مع المحتوى في هذا الجزء، وكأن خطأً برمجيًا في الموقع خلط التعليقات على مقالات السلسلة كلها!

لذا فأحيانًا –ومهما كان طول المقال- فأنا أختار نشره كاملًا متكاملًا منعًا لهذا الهراء، وهو ما كان اختياري في مقال "فلسفة العلم عند كارل بوبر"، لذا لم يُكتب تحته أي تعليق!

العربة أمام الحصان

نواجه أثناء الحوارات بمن يرفض الإقرار بخسارة نقطة لأن الاستنتاج جاهز لديه سلفًا، وهو يُعاكس ما أوصله إليه المنطق.

بينما من المعروف أن الاستقراء كأسلوب استدلال عقلي يتم جزئيًا نقطة فنقطة وصولًا إلى نتيجة كلية، ولا يتم بأن يُصادَر على الملاحظات والمعلومات المتجمعة لصالح نتيجة بعينها قد تكون صحيحة أو خاطئة، ولكن المؤكد أن الأسلوب المُتبع خاطئ.

كذلك يمكن أن يُقال في الاستنباط كأسلوب استدلال عقلي آخر أن استخدام مقدمات دون فحصها، واعتبارها مسلمات ليست بحاجة إلى فحص وتحقق، ثم البناء عليها، حتمًا يقود إلى استنتاج خاطئ.

ودومًا أقول إنه عندما تجد استنتاجًا غير متسق مع المعلومات والمقدمات تأكد أن هناك عمليات وسيطة بينهما هي التي أدت إلى هذا القدر من عدم التطابق.

ولنأخذ على سبيل المثال قضية وجود أثر من الكحول في العصائر والمياه الغازية وعلاقتها بتحريم المشروبات والتي يدعيها بعضهم، فنجد هؤلاء لا يحرمون المشروبات وفقًا للقاعدة الفقهية "ما أسكر كثيره فقليله حرام"، ولكنهم يفترضون معادلة -لا أصل لها في الدين- بأن عدم وجود كحول نهائيًا = ليس مسكرًا! وهو ما يستحيل تحقيقه لأن الخمائر توجد في البيئة من حولنا، وأي عصير فاكهة طبيعي أو محلول سكري سيحدث له ما يُعرف بالتخمر الكحولي بمجرد تحضيره، ولكن سيكون الكحول بنسبة تافهة لا يمكن أن تتسبب في سُكر إنسان وإن شرب ملء معدته، ولن يتحول إلى مُسكِر إلا عند تركه فترة طويلة في ظروف تسمح بالتخمر.

والحقيقة أن الأمر بالنسبة لمن قرر التحريم هنا لا يعدو أن الاستنتاج مقرر لديه سلفًا، وأن العملية الاستدلالية تتم بأثر رجعي لمحاولة التوصل إلى قدر من المواءمة بين الاستنتاج المراد وما لدينا من معلومات وبيانات.

فرض الرأي باسم حرية التعبير عن الرأي!

ذكرنا في مقالات سابقة أن المتطرف لا يدرك الفرق بين ‏الرأي والحقيقة، ولا يعي أن الأحمق وحده من يتعامل مع الأفكار والآراء على أنها حقائق، حتى وإن كان من ‏طرحها علماء، فنجد أن بعضهم عند نقاش نظرية علمية وضعت لتفسير ظاهرة ما يدعي أنها حقيقة علمية هكذا من رأسه، لمجرد ‏أنه لا يميز بين النموذج التفسيري وبين الحقيقة العلمية المثبتة التي تجاوزت التفسير إلى إمكانية الخروج ‏منها بتنبؤات وتطبيقات!‏

كما أن هناك فرقًا كبيرًا بين إبداء الرأي والإكراه على الجدل، فمن لا يكتفي بإبداء رأيه بإزاء رأيك ويصر على الجدل العقيم هو في حقيقة الأمر لا يتعامل مع رأيه باعتباره رأيًا، بل باعتباره حقيقة ينبغي إقناع الجميع بها ‏ورفض أي رأي آخر لك أو لغيرك!

فحقيقة الأمر أن الرغبة الملحة في الجدل والنقاش مع المخالفين علامة على عدم احترام حرية الرأي؛ لذا ‏نجد في القرآن الكريم نهي واضح عن الجدل إلا بالتي هي أحسن، وجدل عام عن الجدال مع أهل الكتاب إلا الذين ظلموا منهم. ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏‏﴾ [العنكبوت: 46]. ولكننا نجد أحدهم يبدأ ‏الجدل ثم يدعي أنه اضطر إليه!‏

ومن إضاعة الوقت –الذي سيُسأل عنه العبد يوم القيامة- أن يقضي الواحد منا الساعات الطوال يرد على سفيه يجادل بغير علم في التعليقات تحت أحد منشورات الفيسبوك، ولا يكتفي بأنه أبدى رأيه الذي لا يظهر ندفة من علم.

يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا ‏كِبْرٌ مَا هُمْ ‏بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [غافر: 56]‏

وقد اتفق علماء المسلمين على تفسير الآية على أنها أمر من الله تعالى لنبيه بالاستجارة بالله ‏من ‏شر هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة. ولطالما قلت وأقول: ‏إن الأمر بالاستعاذة من هؤلاء ‏المجادلين بغير علم دليل على أن من هذه صفتهم هم من شياطين ‏الإنس، فالأمر بالاستعاذة لا يكون إلا من ‏الشياطين، كما أن الكِبر يملأ صدورهم -بنص الآية- وهي أظهر صفات إبليس.

وكان كبار علماء الأمة لا يسمحون لأنفسهم بالجدل مع السفهاء. من ذلك ما ذكر المؤرخون كابن ‏كثير في "البداية والنهاية" والذهبي في "السير"، أن الحنابلة كانوا ‏يترصدون بجوار بيت الإمام ابن جرير الطبري ‏يتكلمون في حقه ليمنعوا طلبة العلم من الدخول ‏عليه. ‏لكن للسبكي رأي آخر في القصة أورده في ‏ترجمة ‏الطبري في "طبقات الشافعية" (ج3، ‏ص124-125) وهي أنه "لم يكن عدم ظهوره ناشئًا من أنه ‏مُنع، ولا كانت للحنابلة شوكة ‏تقتضي ذلك، ‏وكان مقدار ابن جرير أرفع من أن يقدروا على منعه، وإنما ‏ابن جرير نفسه كان ‏قد جمع نفسه عن مثل ‏الأراذل المتعرضين إلى عرضه، فلم يكن يأذن فى الاجتماع به ‏إلا لمن ‏يختاره، ويعرف أنه على السُنة، ‏وكان الوارد من البلاد لا يُدرى حقيقة حاله، فربما أصغى إلى ‏كلام ‏من يتكلم فيه ‏لجهله بأمره فامتنع عن الاجتماع به"أهـ.‏

وأقول: إن رأي السُبكي في قصة الطبري أكثر ‏مقبولية، وقد ذكرته كمثال واضح من حياة ‏عالم من ‏أكابر علماء المسلمين كان يرفض الجدال مع السفهاء، ولا يرى فيه خيرًا، فلا يعطيهم ‏الفرصة لمحاورته ‏باسم حرية التعبير عن الرأي. فماذا عساه يستفيد الإمام من تصديع رأسه مع ‏سفيه، هو أساسًا يجادل ‏بجهل، ولا يعرف كوعه من بوعه، وفوق ذلك يتفذلك على من هو أعلم ‏منه، آملًا في إقناعه، ظانًا في نفسه ‏حيازة العلم! ولنا في الطبري أسوة حسنة.‏

ومما اشتُهر عن الإمام علي بن أبي طالب أنه كان يقول: لو خاطبني ألف عالم لغلبتهم، ‏ولو ‏خاطبني جاهل واحد لغلبني. فقيل له: كيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: العلماء لو أتيت ‏لهم بالحجة ‏والبرهان اقتنعوا، أما الجاهل كلما أتيت له بحجة غالطني لجهله.‏

كما يُحكى عن الجاحظ أنه سُئل عن الإنسان العاقل فقال: هو الذي يعرف متى يتكلم، ‏وكيف يتكلم، ‏ومع من يتكلم!‏

ولعله من أجمل ما قرأت "النقاش مع العقول المستحمرة كالضغط على رأس زجاجة عطر فارغة، مهما ‏اجتهدت في ضغطه لا يخرج لك سوى الهواء ويؤلم إصبعك لا أكثر".

ومعلوم أن هذا النوع المحدث من الاتصال على مواقع التواصل الاجتماعي قد يتم رغم عدم تفاعل الطرفين، بمعنى أن يكون أحد ‏الطرفين غائبًا بينما الآخر يكتب أفكاره، ويأتي الآخر ليرد في وقت لاحق قد لا يكون الأول ‏فيه موجودًا، بل يقرأ الرد عندما يكون متوفرًا، وهذا أغرب ما في التواصل عبر هذه الوسائط.‏

ورغم أن وسائط الاتصال بين البشر في مواقف التفاعل الاجتماعي الحقيقية هي لفظية وغير لفظية ‏معًا، وعلماء النفس والاجتماع يعطون نسبة أكبر لقيمة الوسائط غير اللفظية في تحديد التواصل -وإن ‏كنت لا أتفق مع هذه الرؤية-، إلا أنه في العالم الافتراضي الذي نعيشه على شبكة الانترنت ‏يكون للاتصال اللفظي النسبة الأكبر من التأثير؛ كونه الوسيلة المستخدمة غالبًا بين الأفراد، ‏وكثيرًا ما يغيب ما عداها. ومن ثم فإنه غالبًا لا أثر لتعبيرات الوجه وطبقة الصوت والمسافات بين ‏الأشخاص وغيرها من الوسائط غير اللفظية في التأثير في الاتصال.‏

وهذه الملحوظة الأخيرة لها أهميتها وتأثيرها الخطير في التفاعل لأن الإنسان يمكنه من ‏خلال الوسائط غير اللفظية أن يضع حدودًا للشخص المتحاور معه يمنعه من تجاوزها، ولكن ‏في غياب تلك الوسائط كما هو الحادث على الشبكة العنكبوتية فإن كثيرين يتجاوزون حدودهم ‏وفقًا لما ينبغي أن تسمح به علاقتهم بالشخص المتحاور، والإجراء الوحيد المتاح لمنع التواصل مطلقًا هو الحظر.

وغني عن البيان أن من المهارات الاجتماعية الرئيسية التي يحتاج البشر اكتسابها معرفة حدودهم من الآخرين، فتوقف الآخرين عند حدهم فلا يتدخلوا في حياتك، وتقف أنت عند حدك فلا تتدخل في حيواتهم، لكن هناك من لا يراعون هذه الحدود على مواقع التواصل الاجتماعي مثلما هو الحال في الحياة.

وقد صارت وسائط التواصل الاجتماعي مسرحًا متجددًا للحوارات السخيفة، وهناك فئة يعطون لأنفسهم حق ‏التواصل مع غيرهم هكذا لمجرد أنه موجود معهم في العالم الافتراضي نفسه وغير محجوب ‏عنهم، فمن وجهة نظرهم فإن مشاركتك بالتعليق على منشور على أي صفحة من صفحات الفيسبوك تعني أنك قبلت الدعوة إلى تلك الحفلة الكونية، ومن يحضر الحفل عليه أن يكون مستعدًا للتعرف على الجميع. لكن انتبه فالأمر غالبًا يتجاوز حدود إبداء الرأي والرأي الآخر إلى الجدل العقيم، فهم في ‏الحقيقة لا يريدون أن يحاوروك بل يريدون أن يخضعوك لرأيهم! باعتباره الرأي الصواب من ‏وجهة نظر جماعتهم، ويرون أن من حقهم أن يخبروك ما الذي يجب أن تعتقده وما ‏الذي يجب أن تكتبه!‏

ولعل من عجائب الزمان ما حدث معي منذ سنوات عندما تطفل عليّ شخص أعلم من خلال مشاركاتي في المجموعات على موقع الفيسبوك أنه جاهل مكفر، فرفضت النقاش معه، ‏ورأى في رفضي التحاور معه إقصاءً للآخر! فمن حقهم أن يكفروا الناس وليس من حقك أن ‏تحتقرهم لهذا السبب، ويرونك ترفض الآخر لأنك ترفض تكفيرهم للبشر!!‏ ومن مساخر الأمور أن يتحدث متطرف عن إقصاء الآخر لأن هذا الآخر كره فيه ‏تطرفه وتكفيره!

من ثم فإن المشكلة أكبر من طرق المتطرفين الدينيين العجيبة في الاستدلالات الشرعية. المشكلة الأكبر ‏أنهم يعتبرون أنفسهم الشرطي الذي ينفذ القانون، وأنهم الوحيدون على حق، ويجب أن يقنعوا ‏باقي البشر بما يعتقدون حتى لو كانوا غير راغبين في التواصل والنقاش معهم بالأساس.‏ والأمر ذاته يُقال عن المتحزبين سياسيًا.

وأحيانًا تكون الرغبة في الجدل عن جهل لحداثة السن وليس تطرفًا، كذلك الطالب الذي كان لا زال لم ‏يكمل دراسته ‏الجامعية في تخصص لا علاقة له بتاتًا بالتاريخ الطبيعي، وأراد أن يتناظر معي ‏عن نظرية التطور ‏ككل! ومعرفته بنظرية التطور جاءته من خلال ‏محتوى ورقتين كانتا في كتاب مادة الأحياء في دراسته الثانوية!

وفي إطار محاولات فرض الرأي باسم حرية التعبير عن الرأي، فمن الأساليب المتبعة ‏لتحويل اتجاه القارئ عن أحد الموضوعات التي لا توافقهم، كتابة تعليقات منفرة عن الموضوع حتى لو ‏كانت لا تعبر عن حقيقة مضمونه، وأحيانًا كتابة ردودًا مستفزة على التعليقات المؤيدة للكاتب ‏وبشكل مستمر ومتعاقب قد تستمر شهرًا، لأن هذه النوعية من البشر التي لها اتجاه فكري ‏محدد تريد ألا تظهر أي معارضة لفكرها، وهم يوهمون أنفسهم بهذا قبل أن يوهموا الآخرين. وهم ‏يتساخفون على غيرهم لأن أغلب البشر الراقين على صفحات التواصل الاجتماعي يقومون بحذف ‏تعليقاتهم في حال كتابة ردود سيئة عليها، كما لا يكررون كثيرًا تجربة كتابة تعليقات مؤيدة لآراء معاكسة لآراء المتطرفين مكتفين بالمشاركة ‏أو إظهار الإعجاب، وكتابة ما شاءوا بعيدًا عن أعين السفهاء.‏

ونصيحتي لأصدقائي من مستخدمي وسائط التواصل الاجتماعي عدم التردد في استخدام الخيارات التي تتيحها المواقع والتي تتدرج من عدم المتابعة، ثم إلغاء الصداقة، ثم الحظر، للتخلص من كل من يوترونك. ومخطئ أنت إن ‏ظننت أنك ستغيرهم، لأنهم هم من سيستنزفونك عصبيًا وبدنيًا.‏

همج رعاع أتباع كل ناعق!

جاء في "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر (ج2، ص984) (رقم 1878) قال ‏علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم وجهه لكميل بن زياد النخعي: "الناس ثلاثة: فعالم ‏رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم ‏يلجأوا إلى ركن وثيق"أهـ.‏

وهؤلاء الهمج الرعاع أتباع كل ناعق سبب كثير من البلاء في عالمنا المعاصر، فهم يتبنون كل ما يروج له الناعقون مما يفهمونه أو لا يفهمونه!

نجد هؤلاء حاضرين فيما يُعرف باسم الهاشتاجات الرائجة على مواقع التواصل الاجتماعي، ويكفي أن يروج أي ناعق لأمر ويقنعهم أن فلانًا أو فلانة يسيئ إلى الدين أو خائن للوطن لتنطلق الجماهير!

وجميع الهمج ممن أعرفهم –وأحمد الله أنهم ليسوا أصدقائي- وقد شاركوا منذ فترة في حملة إساءة لأحدهم لأنه (قيل لهم) إنه أساء إلى صحيح الإمام البخاري، اكتشفت أن كلهم لا يمتلكون نسخة ورقية أو الكترونية من الصحيح، ولا يعرفون كيفية تبويبه أو ترقيمه، ولم يسبق لأي منهم أن خرّج حديثًا، ولا يفهمون من الأساس النقاش الذي كان دائرًا وقتها، ولا يعرفون ما هو الحديث الذي كان سبب الإشكالية وسبب الهجمة على من طعن فيه. وقاتل الله الجهل، وصدق من قال: لو سكت الجاهل لاستراح الناس!

ثم هم فوق ذلك ينقلون المنشورات التي تحوي فكرًا على صفحاتهم، فإن لم ينقلوا الكلام اكتفوا بنقل أفكار الكتاب ثم إعادة صياغتها، ولأجل هذا يصعب علينا فهم فكر كثير منهم، فهم ينقلون أي كلام مرتب أو أي فكرة ظريفة مرة من أقصى اليمين ومرة من أقصى الشمال، فتراهم مرة يساندون الشيوعية وتارة يمدحون الرأسمالية! ولعلها من البدهيات -التي لم يكن يلزم أن تُقال- إنه ينبغي أن يكون لكل شخص خط فكري واضح وليس أن يسير مع التيار، فيميل تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار لأن منشورًا أعجبه!

ولأستاذنا الدكتور سعيد إسماعيل علي تصنيف جميل عن منهجية المفكرين؛ فيقول إن منهم من يستخدم المنهج النملي؛ فيجمع الأشتات المتفقة ويضعها جانب بعضها فتتضح الرؤية، ومنهم من يستخدم المنهج النحلي فيكتب لتوليد أفكار جديدة إلى العالم وليس لاجترار ما سبق وإعادة لوكه مرارًا وتكرارًا دون إضافة، فيكون مثل النحلة التي تجمع رحيق الأزهار لتصنع منه العسل، وليس لأي زهرة منفردة أن تدعي إنها هي من صنعت هذا العسل.

ولكن هؤلاء النقلة الفيسبوكيين لا قاربوا النحل ولا حتى كانوا كالنمل، فيكتفون بأن يملأوا الأثير بكلام معاد مكرر نقلوه عن غيرهم، وليته يتجانس!

عدم التمييز بين إبداء الرأي والتقييم

وكما أن هناك فرقًا كبيرًا بين الرأي والحقيقة، فهناك فرق آخر كبير بين إبداء الرأي والتقييم.‏

إذ ينبغي التنويه إلى أن هناك ما يُعرف بالهرم المعرفي، فقاعدته التذكر، ثم يعلو درجة درجة فيأتي بعد التذكر الفهم ثم التطبيق ثم التحليل ثم الإبداع ثم التقييم؛ فالتقييم هو أعلى درجات الهرم المعرفي، وهو يختلف عن إبداء الرأي، فالتقييم لا يقوم به آحاد الناس.

فإن كنا نسمح للجميع في هذا العصر بأن يعبروا عن آرائهم –سواء كانت ذات قيمة أم لا-، فإن من السفاهة أن يتوهم من يفتقد المعرفة الأولية عن أحد العلوم أو المسائل في نفسه القدرة على التقييم!

التعصب والعور الفكري

سبق وخصصنا مقالًا عن الهوس بالتفرع الثنائي؛ بمعنى الحدية بين نعم ولا ، فكل شيء حكمه إما أن يكون صوابًا أو خطأ فقط، وكأن ليس هناك أي احتمال آخر كربما أو لا أعرف.

ومن مساوئ نسبة لا بأس بها من العرب المعاصرين المهووسين بالتفرع الثنائي أن من يسأل شخصًا عن آخر فيقول له: "لا أعرفه" يتصور غالبًا أن من سأل عنه شخص سيء، ما يدفع كثيرون للشهادة بالخير في حق أشخاص لا يعرفونهم عين المعرفة، وقد تكون النتيجة وبالًا إذا اعتمد السائل على هذا الرأي فقط، ولم يتحر مزيد تحرٍ عمن يسأل عنه، وتسوء الأمور أكثر إن كان يسأل لغرض تزويج أو شراكة من أي نوع، فالخسائر الحادثة قد تكون لها تبعات مستقبلية كثيرة في الحياة الشخصية والمهنية.

وكما أننا مبتلون بالهوس الحدي الثنائي فهناك ابتلاء آخر وهو العور الفكري، الذي يجعل أصحابه يرون بعين واحدة راضية، كائلين الاتهامات لمن لا يرون برأيهم؛ فمنظمة العفو الدولية إن انتقدت تركيا يفرح أنصار نظام السيسي في مصر كونهم يعادون نظام أردوغان، بينما يعلق الموالون لأردوغان مستنكرين  متهمين المنظمة أنها تغفل عن انتقاد نظام السيسي، والعكس يحدث عندما تنشر المنظمة نقدًا لنظام السيسي! ولا ينظر أي من الحزبين المعلقين في النقود ذاتها التي ساقتها المنظمة في المنشورين!

ومما يتصل بالعور الفكري ما لاحظته على أغلب أئمتنا من أهل السُنة أنه لا يأتي على سيرة سيدنا علي بن أبي طالب إلا وحشر معه سير غيره من الصحابة كساداتنا أبي بكر وعمر وعثمان، وإن كان المقام لا علاقة له بذكرهم، وأن هذا يحدث مع علي فقط، بينما قد يأتي أحدهم على سيرة سيدنا أبي بكر أو سيدنا عمر أو غيرهما من الصحابة ولا يعبأ بذكر عليّ إن لم يتسع المقام لذكره! ذلك أن خوارج العصر يسارعون في إلقاء الاتهامات بالباطل على من لا يعجبهم شيئًا من رأيه بأنه شيعي ويسب الصحابة وغيرها من السخافات والبلاهات، فيحترز الناس لأنفسهم بذكر جماعة من الصحابة كلما جاء ذكر علي!

وبالنسبة للتعصب الديني تحديدًا فهناك افتقاد لدى كثير من بيننا لفهم أن احترام حرية الآخر في الاختلاف لا تعني الانقياد للآخر أو السماح له بإهانة أفكارك ومعتقداتك، أو أنك لست مؤمنًا بدينك أو أنك تركن إلى أهل الكتاب وتواليهم وإن خالفوا معتقد المسلمين، كما يظن أغلب المتطرفين دينيًا.

ومشكلة من يرون بعين واحدة –وإن كان خطهم الفكري واضح ومحدد- هي أنهم غالبًا ما يرفضون الصواب في الجانب الآخر، ويثبتون على مواقفهم الخاطئة ولا يتحلون بالشجاعة الكافية لتغييرها ما ثبت لهم أنها خطأ، ويدعي هؤلاء على الشجعان القادرين على الاعتراف بأخطائهم أنهم يتناقضون.

 

د. منى زيتون

الجمعة 27 أغسطس 2021

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم