صحيفة المثقف
رحاب عوض: دراسة نقديّة في رواية وكر السَّلمان (2)
ــ كيف تحوَّرت الشخصية المركزية في الرواية إلى الإجراميّة؟
إذا كانت ظاهرة الجريمة تمتد إلى بداية الماضي السحيق القدم بل إلى بداية الوجود الإنساني، حيث ثنائية الضحية والجلاد فإن شخصية نعمان القادمة من هناك مرت بالمنذر بن نعمان وتناسخت عنها حتى قد وصلت إلى هذا الزمن ...
يسافر بنا الكاتب من خلال ذلك النفق ذي البعد التاريخي لا المادي ليقف بنا عند ملوك الحيرة الذين اشتهروا بمجالس الخمرة والشرب حين كان يبلغ الشرب بابن المنذر ذروة الثمالة و ذهاب الوعي و العقل والصواب فيأمر بقتل أصدقائه و شعرائه، ممن لم يرُق له شعرهم وبعد أن يصحو يتألم ألماً بالغاً لما فعل، فيبني صومعتين على قبريهما ويقتل كل من يمر من بينهما وإن مر حيوان ذبحه وجعل دمه طلاء للضحيتين فتُقدَّمُ لهما النذور.
إذا حدا الكأسُ بالمنذر لقتل أصدقائه وحدت ظروف الحرب وإعاقة نعمان به إلى تسلسل الجريمة فهل سيكون كل شاربٍ وكل معوقٍ مشروعاً مضموناً لسفك دماء من حوله؟
أم أن الثمالة وغياب العقل وجه مشترك بينهما والاختلاف بكأسيهما الأول بالشراب والثاني بحنظل الإعاقة وفي النهاية كل منهما تقيأ ما في قعر داخله؟!
ــ كرؤيا تحليلية: أول ما قدمه بهذا الخصوص على سواه كان من إفادات علم النفس مما استذكره نعمان في بداية العرض من حوارات مطولة جرت بينه وبين زملائه في الكلية تضمنت نقاشات ضخَّت خلاصات فكرية بصيغة تقريرية لم تنطو على ديناميكية الحوار القائم على الجدل والجدال والاختلاف في وجهات النظر، كانت خزيناً معرفياً مكتسباً استعرضه على ألسنة الزملاء، وحمَّله مواقفه الشخصية وآراءه ، وأول ما آثر الكاتب تقديمه في مستهل النص:
أـــ استذكار نعمان لقول أستاذ علم الإجرام في الجريمة :" انقسم علماء النفس بآرائهم حول هذا الموضوع بعضهم قال :إنها عامل جيني وراثي والبعض قال هو خلل عقلي وآخرون أجمعوا على أنها مران لسلوك منحرف أنتج عادة لا يمكن تخطيها" .
ب ـــ ثم أورده ما جاء في كتاب " الإنسان المجرم" في نظرية لامبروزو التي تعتبر: أن المجرمين معروفون بأشكالهم وصفاتهم وكل من تنطبق عليهم تلك الصفات التكوينية يزجون في السجن و التي حددها من طول أو قصر غير مألوف ورأس صغير ووجه كبير وخط شعر متراجع ووجه وعر أو عميق التجاويف كثير البثور وأنف مسطح أو شبيه بالمنقار وخط فك حاد وشفاه ممتلئة وحواجب غزيرة وضربات في مؤخرة الرأس وحول الأذن ووشم الجسد ..إلخ ". والتي خالفها الكاتب بروايته واعتبرها نظرية مجحفة مغلوطة فيما جاءت به بهذا الخصوص لا يؤخذ بها في جميع الأحوال ولا تنطبق على جميع المجرمين ولا على نعمان إلا بما يتعلق السمات النفسية.
ت ـــ ثم نراه يلقي اللوم على الحرب وأوزارها حيث لسان حاله يقول :" لأن الحرب هي التي كبلته بقيود الوجع فعطلت الحياة وشيطنت الفطرة، حولت الإنسان من كائن وديع إلى قاتل مفترس جردته من ثوب إنسانيته، الحرب تغرس شجر العداء وتوقد نار البغضاء فتبث صراخ الفناء في نفوس البشر وتقتلع فسائل الحب من الجذور، فلولا هذه الحرب القذرة لما آل مصيره إلى هذا التدني والانحطاط."
ث ـــ ومن استرجاع ذاكرة نعمان لمشهد دموي منطبع في تلافيفها من معركة شرق البصرة:" كان حصاد الأرواح يتجلى فيها عياناً، وكانت الأرض تمطر موتاً فمطر الفناء يتساقط من السماء ولا عاصم إلا لمن حصنته يدر القدر وحفظته الرحمة الأزلية، يتساقط قتلاً كما يتساقط الزرع بمنجل الحاصود، فهنا يد مبتورة وهناك ساق مرمية وهناك رأس مقطوع يتدحرج لصديق كان قبل قليل يغني أغنية حسين رحمة "يا حريمة"
ج ـــ ثم قوله: " أنا إنسان آخر أرادته الحرب أن يكون مأزوماً فاقد الأهلية فاغتالت رجولته، أتدرين يا سناء إنني رجل لكنني لست ذكراً فرمان الحرب اللعينة صدر بقتل ذكورتي ليتني مت ألف مرة ولم تحدث لي هذه المأساة"
ح ـــ وما تذكرته سناء من رأي لوالدها في نعمان حين تقدم لخطبتها : " بعض هؤلاء الناس تجري أنفاس البداوة في أعماقهم وتغلف قلوبهم القسوة فيعشقون الرحيل الدائم ، لم تهجنهم الحضارة ولا يجيدون غير الثأر والولاء للقبيلة ومهما تأقلموا في حياتهم الجديدة فلا بد لهم أن يعودوا لأصولهم الدموية الزاخرة النار التي غذتها عادات وتقاليد عنيفة تميل إلى التوحش"
خ ـــ أو حين حاول أن يلتمس له تفسيراً واضعاً أمام قارئه تحليلاته واحتمالاته وتساؤلاته لمزيد من تحريك ذهنه وإعمال مخيلته وإشراكه في تفسير هذه الظاهرة النفسية: "فربما هو قد ورث صلف الصحراء وقساوتها وعنفها، أو هي لعنة السجن امتدت إليه وتلبسته بشرورها وإلا كيف يجرؤ إنسان سوي درس القانون أن يقتل أحبابه إلا إذا كان مختلاً عقلياً أو مصاباً بمرضٍ نفسي ؟":
د ـــ وما أورده في تعقيب يشير إلى ما يمكن أن ينجم عن الأوبئة المجتمعية الممثَّلة بالتعصب والتطرف الديني والاجتماعي والسياسي : " فلا غرو أن يكون متطرفاً في كل شيء في حبه وكرهه في كرمه وبخله في إيمانه وكفره في عنفه وتسامحه في حربه وسلامه في هدوئه وثورته في عدله و تعسفه..و في أحيان كثيرة نجده متطرفاً في أشعاره وثقافته"
ذ ـــ أو ما جاء في مونولوج داخلي متشظٍ بالندم والألم لنعمان :" هل هناك مِن نهاية أيها المغرم بالموت ورائحة الدم ؟ متى تستفيق؟ متى تغادر هذا الوكر الذي علمك القتل؟ وتعقيب الكاتب عليه بصيغة الغائب : " حينما يشم رائحة الدم يهدأ كأنما نسيم من طمأنينة طاف روحه ثم يبدأ عمله الشاق والمضني بدفن الجثة في ذلك النفق ".
ر ـــ وقول أم نعمان :" يا بني هنا جذرك فداوم على سقيه بالمكرمات كي يبقى المنبت كريماً ومخضوضراً بنقاء المحبة وصلة الرحم وحب الوطن، فمن هذا المكان جئت أنت وأبوك وجدك، فاحفظ وفاءك للمكان ولا تدعه يتلوث بعهر الغباء وموت الأحلام وتغلغل الحقد وسقطات الجريمة....، يا بني : اسمع كل كلمة قالها والدك، صنها وصية خالدة وعلقها تميمة في عنق وجدانك..."
زـــ ثم يستدعي في موقع آخر قول باولو كريلو: " إن الكثبان تتغير بفعل الرياح لكن الصحراء تبقى دائماً نفسها "هذه المقتطفات مثيرة للتأمل والتفكير ... تمضي بنا إلى حيث تضع بين أيدينا الظواهر والعلائق والدوافع والمرجعيات التي تقودنا إلى تفسير ظاهرة الجريمة عند "نعمان" بصورة خاصة و قبل الدخول في عناصر و أسلوبيات وآليات الرواية.
** سأتأبط أحد المفاتيح المتمثل بقول المفكر باولو كريلو : "تذكروا أن المفتاح الأخير في حاملة المفاتيح هو الذي يفتح الباب دوماً". لكني سأقوم بخلاف ما يدعو إليه، سأتجاهل وأستبعد ذاك الأخير لأحاور وأجادل البقية، وإن لم تفِ بغرض الإقناع سأحاصر ذاك الأخيروالذي سيكون كفيلاً بفتح مغاليق النص.
إذا ما وقفنا على تلك المتقطفات نجد أن الكاتب يدين فعل الحرب في تغيير تركيبة البشر وصنع المجرمين ، فهي لم تطَل مَن في ميدانها فحسب وإنما امتدت تداعياتها إلى الآمنين منهم ، يدين مفرزات التخلف من التعصب للنزعة القبلية والعشائرية وما نتج عنها من مخلفات والصحراء وما بُذر في رمالها من أفكار أورثت عادات وتقاليد وعادات قاسية، ثم يشير إلى سجن نقرة السلمان الذي كان يُزَجُّ الأحرارُ من الوطنيين والمفكرين فيه ويلقون أقسى أنواع التعذيب والموت، فيضع تساؤلاً فيما إن كانت لعنته قد امتدت إلى نعمان، وهذا تصور مستبعد لبعده عن الواقعية، فهل تطال اللعنة من كان مناصراً ضمنياً للأحرار وإن كان يتجنب الإفصاح؟.
ويسترسل الكاتب وصولاً إلى أن يستشهد بقول كريلو المجازي العميق التجسيد التصويري التمثيلي والمتسم ببلاغة البيان، "الكثبان" وترمز كاستخدام مجازي "للبشر" جامعهما الحركة والتنقل ، من الممكن أن تتغير بعض سلوكياتهم وآرائهم وميولهم بفعل عوامل التحضر ومظاهر الحضارة والاحتكاك بالحياة المدنية والدراسة في جامعاتها وسوى ذلك .. كحال نعمان، لكن يبقى الأصل واللب ثابتاً طاغياً باقياً... وفاعلاً في لحظة ما.
هذا ولا نغفل ما أشار الكاتب إليه من البيئة الصالحة التي غرست بذور الطيبة والأخلاق لتثمر واقعاً مهللاً بأحلامها بارتقاء ابنها الوحيد بعلمه وثقافته، وصونه لإرث الجدود من خصال الوفاء والإخلاص للوطن، كما عرَّج على منبته ومسقط رأسه الأول في السلمان و متاخمة أراضي جدوده للسعودية والعلاقات التجارية بينهم.
هل جثوم مشاهد الحرب وتداعياتها سبب كاف لجعل كل مصاب بعاهة مجرماً مرعباً يحمل الموت لكل من حوله؟ أوليس من الطبيعي أن تترك الحياة الحضرية التي عاشها نعمان تأثيرها في تهذيب و ترقية النفس؟
وأما تلك الثقافة والدراسة في الحقوق والقانون ومخالطة طلبة العلم في الجامعة أليس حرياً بها أن تشذبها وتصقلها وتروض الوحشية المكتسبة من صلافة وقسوة الصحراء؟ و تلك البيئة الكريمة التي بثت فيه التربية الحسنة التي تلقاها عن أبوين رفيعَي الخلق والتي أسهمت في التكوين النفسي والاجتماعي الإيجابي والسليم ... أين ذهب ذلك؟ وأي رياح هوجاء عصفت به؟ بل أين آثار وتأثير ذلك كله. لماذا انقلب إلى النقيض؟؟
ما يحدو بنا إلى مواصلة البحث عن الحلقة الضائعة في استكمال العوامل ويضعنا على شرفة من تساؤلات :
لو كانت عاهة نعمان في يده أو قدمه أو وجهه، هل كان ليتحول إلى مفترس لا يهدأ إلا بعد نحر ضحيته وشم رائحة الدم على حد ما ذكر الكاتب؟ .
هل اختلاف درجة الإعاقة وتعاظمها مبرر كاف للشروع بالقتل المتسلسل؟
إذا كانت الحرب بمفردها بما تلحقه بالإنسان من إعاقة على اختلاف صورتها، ستتسبب بارتكاب كل مصاب لجملةً من المجازر بحق الأبرياء، لباتوا مبعث رعب وتوجس و لحذرهم كلُّ من حولهم و نؤوا بأرواحهم بعيداً عنهم، ربما لحدا الأمرُ بالدولة لأن تقصيهم عن الناس في عيشهم.
تختلف استجابات الأفراد لصدمة الإصابة في الحرب وتقع على مستويات فمنهم من تنال من بنيانهم النفسي بالاكتئاب الدائم لكونها إصابة بالغة في نرجسية حبهم لأنفسهم وذواتهم وصورتهم الطبيعية منذ الطفولة المبكرة.
إلا أنهم يتعايشون على مضد دون أن يلحقوا الأذى أو الموت بغيرهم، أما نعمان فإنه يتبع المستوى الآخر المرتبط بعظم درجة الإعاقة و بالاستعداد المسبق والتاريخ الشخصي، فما كان ذلك الحادث سوى المفجر المنشط لدافع القتل وما كانت صدمةُ الإعاقة التي تعرض لها والمحدثة لطعنة في لب رجولته، سوى دوسة على لغم مطميٍ تحت الرمال حفزت الاستعداد وطاقة الإجرام الداخلية وأيقظت الجينات الوراثية ومحتوياتٍ كامنة غافية في قعر بنائه النفسي، فأثارت إعصاراً ، واندفعت في صخر صدمته نصالها المثلَّمة بفعل مؤثرات التحضر والثقافة والاحتكاك بالحياة المدنية لتستعيد مجدداً حدتها وتنبعث فيها شهوة استنشاق الدم ففعلت فعلها فيمن حوله من أصدقائه دون أقربائه أو أعدائه.
فانتصر الاستعداد حين أيقظته تلك الظروف الخارجية و أسفر عن خلل نفسي وفقدان التوازن العقلي مما يمكن مقاربته من الفصام أو الذهانية فكثيراً ما كان الكاتب يُورِد عن نعمان : " كان يهذي ويقول ..."
الدافع قوة نفسية تبنى عليها النية في الإجرام فطرية كانت أو مكتسبة والتي بدورها توجه الإرادة نحو الفعل، ويقظة الأنانية مع الدافع المشحون بمصدَّرات التطرف كانت محفز نعمان لقتل حبيبته، فهو يخشى أن تتركه وهو يعشقها عشقاً لا حدود له فتذهب إلى سواه.
وبناء على ما أورده الكاتب عن التعصب و صور تطرف الإنسان العراقي كتطرفه في حبه وكرهه، فإن ذلك سيضيف إلى الدعائم التي قامت عليها الجريمة دعامة لا يُستهان بها، جعلت ذلك الحب العميق يتحول إلى حقد أعمى البصيرة يسفك دم الورد بوازع شرِّ يمضي به بلا رادع وبلا هوادة ويهوي به في قيعان الضلالة والكفر، لتدفعه النقطة الأعمق في داخله والأشد نحراً إلى تحطيم المرآة التي ستبقى مدى الحياة تعكس له صورة عجزه وتجعلها ماثلة أمام ناظريه متمثلة بسناء، والتي ستكون طعنة مضاعفة في نرجسية اعتداده برجولته.
فهو لم يكترث لكلامها من أن الحب الروحي سيبقى يجمعهما، ولم تشفع لها توسلاتها ومناشدتها للمروءة والنخوة التي تشهد لها وتتحدث عنها الرمال، وتذيعها في عُرف الشعوب حين تبعثرها الرياح:
"أستجدي نخوتك و أستصرخك أن تنقذني من هذا الخطر، دعني أرحل وأعطيك عهد الله أن هذا الذي دار بيننا سيبقى سراً .. وما أكبر أملي فيك يا رجل، ثم إنك عربي ومن شيم العربي حماية الدخيل، أنا لست ضيفتك. دخيلة عندك. فماذا تقول لمن يستجير بك؟"
فالقيم والمبادئ المكتسبة كلها لم تفلح في إنقاذ الحب وهدايته وثنيه عن قراره، هذا وقد ذكر الكاتب بين زخم السرد الوصفي أنها كانت سافرة بوقار لكنها ليست متبرجة.
وإلا فكيف يقود الحب العميق إلى قتل الحبيبة والسكينة والارتياح لاشتمام رائحة دمها والحب رحمة وحنان وإيثار وعطاء؟!
ثمة مفارقة بين العاشقين و ظروفيهما أيضاً، محمود أحب سناء فأخذها القدر إلى غيره، حضر الحفل وبارك لهما بخطبتهما والأقرب إلى الواقعية عدم احتماله الحضور لكونه أحبها حتى أنه حين اختفت وبدأ البحث في أمر اختفائها وتعممت صورتها في محافظات العراق كلها تذكرها بألم وحزن وحسرة.
أن يكون مراد الكاتب في حضوره الحفل دفع عتب و محاولة مواراة خسارة، أفضل من أن يكون محاولة في إضفاء السلوك المثالي على الموقف إلى حد مبالغ فيه. فنعمان أحبها وعلى إثر إعاقته قتلها!
النص يشرع الأبواب أمامنا الكثير من المنعطفات والتساؤلات والغموض يتمدد في الفراغ، لو كانت الإصابة في غير ما هي عليه هنا، هل كان نعمان ليتحول إلى قاتل؟ مع الأخذ بالحسبان أن الكاتب بنى العقدة الثانيةَ الترتيبِ في السرد على نقطة الإعاقة هذي؟ هل كل من تعرض إلى مثل هذا العوق والعجز سيشكل مصيدة للآخرين ؟ لو ذهبت سناء إلى غير نعمان بينما هو معافى هل كانت العواقب لتكون على شاكلة ما آلت عليه؟
بلا شك ستكون صدمة لكنها ستتلاشى مع الزمن شأنه في ذلك شأن كثير من العشاق ممن لم تجمعهم الأقدار .. تتمثل في هذا التساؤل مفارقة قوامها التناقض من أن فقدان فعل الغريزة الحيوانية في الإنسان يمكن أن يفقده إنسانيته ويحوله إلى حيوان مفترس في حين أن فقدان العقل في الحيوان هو ما يجعله حيواناً.
ذكر الكاتب: " كل ما فيك يصرخ : كفى. لقد تعبت. لماذا اختزلت كل رؤاك في القتل؟ ولماذا يتناسل فيك البغض، فيلد أجيالاً من الكراهية؟ "
قوله" تعبت" إنما التعب حصيلة تصارع قوتي الخير والشر في كيانه المتحرك و رفضه لطغيان الثانية، وقوله يتناسل فيك البغض فيلد أجيالاً من الكراهية" إنما فيه ترجيح للعامل الوراثي في اكتساب الصفات النفسية. ، فلو اعتبرها الكاتب حالة عرضية نافرة تسببت بها الحرب لتوقف الأمر عند حدِّ نعمان، ولَمَا استشرفَ الكاتب استمرارها لأجيال وتناسلها لعقود زمنية ...
فسلوك نعمان الإجرامي لا يمكن إرجاعه إلى عامل محدد وإنما نتيجة تضافر العوامل الخارجية مع الداخلية، والحرب تستثمر كافة العلل المبثوثة المرسخة التي يصدرها الجهل والتخلف وتنجب الكثير من القتلة والمجرمين، تدأب في توجيه دفتها نحو ما يخدم أهدافها ومصالحها من تضارب وتنافر الأفكار المجتمعية والطائفية والعنصرية والروح القبلية والعشائرية التي تهيئ التربة الصالحة لدوام النزاع والتصادم والصراع واستمرار عمل رحاها في الطحن و تفشي الجريمة والقتل ليكون نعمان أحد ضحاياها التي ألحقت بدورها الموت بمن حولها.
وعلى ذلك كله فإن نظرية لومبروزو فيما أتت به مما يخص الصفات البيولوجية لم تنطبق على نعمان، لكن النسخة منها والتي نصت على الارتداد الخلقي والاندفاع إلى بدائية الإنسان بفعل عارض مؤثر لامست بعضاً من جوانب شخصيته .
فيكون مختزل الحدث : الحرب قتلت ذكورته وحبه للحياة فأنامت عقله وصوابه وأيقظت دافعاً كامناً حفزه على قتل حبيبته وزجَّه في هوة من العذاب، وهو ذاته ما تعاظم على إثر فقدها وجعله يواصل ويتابع المضي إلى حيث يقتل أقرانه وأصدقاءه المقربين إلى قلبه دون أعداءه..
لكن يبقى السؤال حائراً يبحث عن إجابة حييّة قد تكون متوارية خلف ظلال المعنى و راسبة في ختام الرواية: إذا كانت العاهة قد فجرت دافع الأنانية في تملُّك الحبيبة ليوجهه إلى قتلها ، فما هو دافعه لاستكمال حلقات سلسة القتل من بين أصدقائه دون أقربائه أو أعدائه؟!
قد يجد هذا السؤال صدى جوابٍ فيما لو أمسك بيد نظيره الآخر وواصلا البحث معاً : لماذا اختار الكاتب الشخصية المنتمية إلى الأصول الصحراوية ولم يخترها من الأصول المتمدنة الحضرية.؟
إذ أنه ليس من الصواب مطلقاً تجاهل القارئ وجود هذي الثغرة وأخذها على محمل الصدفة والقبول على ما أتت عليه من شاكلة، والاكتفاء بالمضي مع كاتب وضع بين يديه نصاً يسكب محتواه في قالب خياله وتفكيره فيقف عند حد قراءته والاستمتاع بما أملى به عليه، بينما يضعك النص أمام تساؤلات أثارها كاتب صاغ الحدث بفطنة ودراية ،وليس من الصواب في الأمر أن يقتنع هذا القارئ بفكرة قتل الأصدقاء بعد قتل حبيبة تسكن لب الروح، دون شكه بوجود حلقة مفقودة، إطارها بلا شك موجود في السرد، من الممكن أن يكون إيحاء أو جملة غير مكتملة مثلاً أفرغت من مباشرة معناها.
أشار الكاتب إشارة واهية إلى أن القطة قد نظرت في إثر جاسم وقالت في قراره نفسها: "وهي تموء محركة ذنبها كأنها مستغربة هذا التغير المفاجئ في وضع صاحبها و بين حين وآخر تلتفت نحو جاسم وهي تموء، كأنها تقول له ارحل فلقد نجوت من شيطان النفق."
برغم إيراد الكاتب لهذا الحدث إلا أني استبعدته، أن يفكر نعمان بابن عمه جاسم كمشروع ضحية. ليس لأنه ضابط مسلح في مكافحة الإجرام فمن الممكن الغدر به من الخلف في النفق. وإنما صلة الرحم والقرابة موجب كاف لردع نعمان عن الشروع حتى بالتفكير بذلك. سألتمس المثل العربي المعروف : " أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب" هذا وإنه وحيد لا أخ له، ويجد في ابن عمه ما افتقده من غياب أخوة له منذ الطفولة فيتحقق له شيء من التوازن النفسي في حياته ولهذا فإن قتله له بمثابة قتل الأخ للأخ.
ثم لماذا لم يقع اختياره عليه فسارع إلى قتله مذ رآه أمام منزل أحد ضحاياه" ناصر" أيان كان يخطط لسوقها إلى النفق؟ وكان جاسم قد استوقفه آنذاك وسأله عما يفعله هناك، وبالتالي سيكون مستقبلاً شاهداً على تردد نعمان على منزل الضحية عندما تختفي.
ومن جهة أخرى كيف له أن يقتل من يمكن أن يكون من ضمن الأوصياء على قطة تمثل روح أمه. وهذا ما حدث فعلاً فيما بعد ، فهو قبل انتحاره كان قد ترك له وصية بها. ما يضع على منبر البيان أن جاسم يقع في مصاف الأخ الموصَّى بأم له، في ظل كونه وحيد أبويه.
كان الجدال بينهما شجاراً ذا حدة، لكنه لم يكن يوحي بخطورة يستشعر القارئ عواقبها كما حدث في مواقف الضحايا السابقة، فلو نوى ذلك لاحتقن وكظم غيظه ولمَا غضب و أخبره بما يضمره من بغض للجميع، فهو لطالما ساق ضحاياه خداعاً على عميٍ من بصيرتها بالقادم . فكل ما في المشهد لم يكن يزرع في وجدان القارئ توجساً أو ارتياباً. وإن جارينا ما أتى به الكاتب في الوصية من أن جاسم قد نعم بالأمن والسلامة، إنما كان الأمر تجلياً لتواطؤ صدفة قدوم ناهض مع العقل الباطن لدى حقيقة داخل نعمان الذي لم يكن يوماً ليفكر أو يسعى لإيذائه أو يقدم على التهور في سفك دمه من جهة ، و بالتالي تسيير قناعة الكاتب في الحقيقة وتسييره للحدث بحيث يقصيه و ينحيه عن السوء ليسلم فما كان ذلك إلا انطلاقاً من واقعية رؤياه للأمر. وإِلّا لمَ جعل الأصدقاء يقعون في براثن المصيدة ويكون الوحيد الذي يسلم بينهم قريبه؟! فما رأيت في سوق الفكرة سوى ضرباً من المواراة والمناورة لقناعات القارئ، والتماس الحذر خشية التعرض للوم ، فهو لمرات كرَّر :" بعض أبناء البداوة ، بعض هؤلاء من أهل الصحراء ، .. " في محاولة استثناء فئة لا ينطبق عليها الكلام المذكور خشية الوقوع في شائكة الإثبات بالتعميم. فسوق الكاتب لهاجس القطة المتوجس والمطمئن فيما بعد :" تلتفت نحو جاسم وتموء كأنها تقول له لقد نجوت من شيطان النفق" لا يخرج عن كونه ارتداداً لا شعورياَ من الكاتب إلى خيالات عوالم روحية بعيدة تسبح فيها مخاوف أم متوفاة في عالم آخر تخشى أن يتهور ابنها في إيذاء ابن عمه، استحضر موقفها عبر قطة أليفة سوداء كعباءة أمه كانت ترافق نعمان وترمز لها ما أضفى على المشهد ظلالاً درامية فحواها أن الأرواح تبقى على اتصال وتواصل روحاني مع أحبَّتِها بعد الممات.
لنمضِ مع السرد ولنقل: إذا كانت له حجته المدعمة المقنعة في أنه سبق وأشار إلى مفعول التطرف في ارتداد المشاعر إلى النقيض والصورة المعاكسة، و بالتالي ارتداد الحب الكبير إلى الحقد الكبير الذي يجرد الإنسان من إنسانيته ويحوله إلى أداة قتل. وحقيقةً فإن نعمان لم يقتل إلا من أحبهم، لكن من أحبهم من أصدقائه فحسب، وماذا عمن أحبهم من أقربائه؟ أو ماذا عن أعدائه؟
أوما كان انتقامه من عدو لينطوي على شيء من الإقناع؟ أم أن أصدقاءه في عمق المرجعية هم من يمثلون أعداءه؟!
يحب ابن خاله محسن لماذا لم يفكر بقتله، مثلاً ؟ وبينهما احتكاك. ليس لأنه يدير أموال عائلة نعمان فهو غني عن خدماته، إيراد جاسم ضرب من التورية، و محمود شريكه في حب سناء، لماذا لم يكن من ضمن قائمة اختياراته؟ هل في اسمه شيء من الدلالة؟ وفي الوقت ذاته نقول أنه لم يُشر إلى ألوان وأطياف ضحاياه ولم يوظف أسماءها في هذا الغرض فتفضي إلى وضوح سوى ناصر ابن الناصرية " ناصر ناظم مهند وشرطيان " رغم تقديمه لها على منبر من التعريف والإيضاح.
ما يتضح أن الدافع اللاشعوري كان متجهاً نحو من كانوا خارج زمرته من أحبابه وأصدقائه المخلصين الذين لا تربطه بهم صلة القرابة، حتى أن الكاتب تعمد ألا يوظف دلالة الأسماء في الحدث بطريقة تضيء المضمر، وإلا لن تكون هنالك فجوة يشتغل بها الذهن، فتسلِّم الرواية نفسها للقارئ بسهولة.
إلا أنه أسقط جملة في وصف سناء لم تأت عن عبث وَهَتْ في زخم من التوصيفات والصور في جمالها ورقتها وأنوثتها وذكائها ونسبها ورقيها ..إلخ : " لم تكن سافرة متبرجة لكنها كانت سافرة بوقار ورزانة شأنها شأن بنات جيلها .."
في التعبير تمييز بين السافرة المتبرجة، والسافرة بوقار بلا تبرج ، فـ "لكنّ" تفيد الاستدراك، فحين ذكر الكاتب الشقّ الأول من الكلام استدرك نفسه في الأمر وأتى بعد "لكنّ" بما بدا كمبررٍ يضعه أمام القارئ لغرض بيان أن سفورها إنما كان باتزان، ثم أردف ملتمساً لها المبرر الآخر لسفورها، بأنها تجاري أترابها من حولها في محيطها. دون أن يتطرق إلى انتماء يتيح لها ذلك.
هل يمكن أن تنطوي هذه الجملة على المفتاح الأخير في الحاملة. من يطاوعه قلبه على قتل من كانت أقرب إنسانة إلى قلبه وروحه لن يتورَّع عن فعله فيمن هم أقل قرباً من القلب!
ثم إن نعمان كان يختار ضحاياه حين يستذكرهم ولم تكن صدفة اللقاء هي ما تجمعهم، ما يعني أن قتله واع في انتقائه واختياراته ضالٌّ في مبعثه اللاشعوري الموجه، فهو لم يقسو أو يؤذِ القطة التي كانت حين تهيج و تثورو تهجم عليه بمخالبها وتتعلق برجليه لتمنعه وهو في جحيم الجريمة حيث يتطاير شرر الشرِّ من عينيه، لتمثُّل روحُ أمه فيها.
ثم هل يعقل أن يكون ابن وحفيد الصحراء متطرفاً في مشاعره وأفكاره دون أن يكون متطرفاً في ثقافته ومعتقداته وعقائده الدينية؟!!
إنما ينبع التطرف من القانون الأول والأصل والمرجعية الأولى التي تحقن باطن الإنسان بثوابتها ومملياتها، والتطرف مفرز التخلف القائم على الفكر الأعمى الموبوء الذي يزرع في الإنسان الضدين، وقد أشار الكاتب إلى تفشيه في المكان: "فلا غرو أن يكون متطرفاً في كل شيء في حبه وكرهه في كرمه وبخله في إيمانه وكفره في عنفه وتسامحه في حربه وسلامه .."
هل انبجس مفرز التطرف بالدين والتطرف في الحب مع دافع الأنانية بتملك حبيبة وبالأحرى قتلها بعد أن ألحقت الحرب به إعاقة جسيمة وأحدثت خللاً في بنيانه النفسي والعقلي حتى انقلبت الأشياء و الموازين إلى نقيضها، وأسفرت عن الوجه الآخر، فأحالت الحب إلى بغض يوجه أنظار اختياراته نحو حبيبة و أصدقاء خارجين عن زمرة دمه....!
هل انتصرت الحرب في ميادين القتال ومرة أخرى في ميادين الحب والوئام .. بالورقة الرابحة ذاتها؟
كيف تتصارع القيم ويحتضر العدل والسلام في جلبة ومعمعة هذا الفضاء الروائي المُستنسخ عن الواقع دون أن يقف الدين خلفه...
نجح الكاتب وبقوة عبر أسلوب تصويري استنباطي ، في بناء شخصية كانت نقطة تمايز في مبنى الرواية بمكوناتها المتفردة، ومحاصرتها بالمروجات والاستعدادات والظروف المختلفة التي صلبتها على قارعة الجريمة لتؤدي دورها الفاعل في الحدث وتقدم للقارئ أنموذجاً لشخصية لا ترافق خيالاته ليس في القراءة فحسب، وإنما تصبح بما انطوت عليه من متناقضات صورة حية راسخة في ذهنه لشخصية متفردة في حيثياتها، فكانت ثمرة شوكية نتجت عن تضافر و اندغام العوامل الخارجية والداخلية في يباب الروح وخذلان الذات ، تلاقحتا فأنتجتا الجريمة، واستمرَّتا في تناسل أجيال تحمل طلائع الموت ...
يُتبع .....
رحاب عوض