صحيفة المثقف

محمود محمد علي: الجنون.. ظاهرة فلسفية (ميشل فوكو أنموذجا) (1)

محمود محمد عليلم تترك الفلسفة مجالا إنسانياً دون التطرق إليه ومحاولة توفير قاعدة فكرية (فلسفية) تعطي تفسيراً مقبولاً للظاهرة. لذلك نجد أن الفلسفة والعلوم مترابطان بقوة ويكمل احدهما الآخر، ضمن هذه المواضيع نجد أن الفلاسفة حاولوا ويحاولون تفسير ظاهرة الجنون، كظاهرة يتصرف فيها الإنسان بدون وعي.. بمعنى آخر بعض التصرفات يمكن أن توصف بجنون مؤقت، حين يقع الإنسان تحت تأثير حادث أو ظاهرة تجعله يتصرف بفقدان كامل للوعي.هذه الظاهرة كثيراً ما يجري استغلالها من رجال القانون للدفاع عن جرائم ارتكبها موكليهم (1).

ولئن كانت الفلسفة قد اهتمت بالعقل، وجعلته في مركز تفكيرها وبحثها وتأملاتها، وعملت على تكوين وتشكيل المفاهيم المتعلقة به، وانصرفت نحو دراسة نظرياته، فإن نقيض العقل، وهو ظاهرة الجنون، لم تجد من الفلاسفة الإغراء الكافي أو الشغف الذي يجعلهم يبحثون في عوالمه ومجاهله، فمنذ الانطلاقة الحقيقية للفلسفة في العصر اليوناني، كانت مسألة العقل والمنطق حاضرة بقوة إلى حد تعريف الإنسان من قبل الفيلسوف أرسطو بالحيوان الناطق، في حين صمتوا عن الجنون إلا من إشارات عابرة، على الرغم من أن كثيراً من هؤلاء الفلاسفة كانوا ضيوفاً على عيادات الأمراض النفسية (2)

ولذلك يعترف "أندريه لالاند" في كتابه المعجم الفلسفي أن الجنون "لفظ عام ومبهم جدا"، فهو مفهوم ضبابي غير واضح، ذي حدود غير مضبوطة بما أن الأمر لا يتعلق بتفسير ماهية الجنون بل بتقديمه بوصفه بديلا متاخما للعقل. إن الجنون، عند العديد من اليونانيين، هو الهوس (mania) الذي غالبا ما يكون مرتبطا مع عدة كلمات قديمة وبعواطف الروح التي غالبا ما ينظر إليها سلبيا: مينوس (menos)، باثوس (pathos)، باثيما (pathema)، إيبيثوميا (epithumia)، للحديث بالإغريقية، و إنسانيا (insania)، فورار (furere)، ديليروس (delirus)، اضطراب (perturbation)، أنيمي (animi)، أو كذلك الليبيدو (libido) للمصطلحات اللاتينية. كل واحدة من هذه الكلمات تفتح الكثير من الفروق التي كان يعالج الجنون من خلالها في العصور القديمة اليونانية والرومانية: مرض الروح، المعاناة، الإلهام الإلهي، العاطفة، الشر، الرغبة، الحركة، الارتجاج، تؤثر، شهوة وغيرها (3).

وهناك تنوعاً في الأبعاد والدلالات التي يمكن أن يأخذها الجنون عند فلاسفة اليونان القدامى. تارة ينظر إلى الجنون إيجابياً حينما يفتح للعلم بشكل خفي تنبؤات (présages)، وتارة أخرى ينظر إليه سلبيا عندما ينسب إلى أمراض الروح التي تورط في المغالاة (intempérance). (4).

وقد كان اليونانيون يعتقدون بأن من الجنون ما هو إلهي فيكرمون صاحبه اكرامهم بيتي الدلفية التي كان يهتف ابولون بفيها . ومنه ما هو شيطاني يمت صاخبه بصلة إلي الأرواح الخبيثة فينفرون منه وتعهدونه بأنواع العذاب والقتل . وهناك نوع ثالث وهم الأبرياء الذين مسهم الشيطان بضر فقد كان الكهان يتدبرونهم في الهياكل بأنواع الطقوس الدينية وغيرها (5)

ويظهر أن أول من عالج الجنون بالعقاقير عند اليونانيين "ملاينوس الارغومي" سنة 1526 ق.م فقد شفي بنات فيتوس ملك الارجيين بمعالجتهم بالخريف والاستحمام بالمياه الحارة، ثم جاء أروفي Orphee فعالج المجانين بالرقي والمخوسيقي . وعقبه شيرون Cheron ثم تلميذه اسقلبيوس Esculape الملقب بآله الطب 1143 ق. م الذي نحتت له التماثيل وشيدت الهياكل في كنيد وكوس ثم ابيدور (6).

ثم انتقل الطب إلي روما فظهر سنة 80 ق . م اسقليبدس Asclepiade فقسم الجنون إلي جنون حاد مع حمى اوفرانيطس وإلي جنون مزمن بلا حمى ومنه الماتيا والماليخوليا، وفرق ما بين الوهم Halluciuotion والتخيل Illusion، وفي سنة خمسة قبل الميلاد قال سلز Celese بتقييد المجانين بالسلاسل وقصاصهم . ثم ظهر غوليوس اوراليوس Coelius Aureliauus فاشتغل بمعالجة الأمراض النفسية بصورة خاصة ودعا إلى معاملة المجانين باللين والحسني . وأبلي في مقاومة الكفرة القائلة بغلهم وتعذيبهم ومعاملتهم بالشدة والقسوة بلاء حسناَ . وقد كان لا يجيز استعمال الربط إلا في حالات الهياج الشديد علي أن تكون من القماش اللين اللطيف وبصورة لا ينال بها جسم المريض أذي، وفي سنة 131 ق . م أتي جالينوس فلم يزد في طب النفس علي ماء به اسلافه شيئا يستدعي البحث أو الذكر (7).

وفي العصور الوسطي الإسلامية، وبالذات في القرن السابع الميلادي جاءت الشريعة الإسلامية ليكون لها فصل السبق علي سائر الشرائع القديمة والحديث بوضخ أخكام للمجانين جامعة مطابقة لروح العدل والعلم والاجتماع علي اختلاف الزمان والمكان، فهي تنزل المجنون في الحكم، وفي المعاملات منزلة الصغير غير المميز أحيانا حسب نوع جنونه ودرجته . وتقضي علي السفيه والفاسق اللذين يعدهما العلم الحديث من المنفوسين بالحجر محافظة علي أموالهم . وتحدد درجات المحجورين والمأذونين منهم وتعرفهم وتبين أنواعهم وتفصل أحكامهم بالنسبة لأنواع التصرفات مما لم تتوافق إليه الشرائع المدنية الحديثة إلا في القرن الأخير . فالمجنون في الشرع الإسلامي غير مكلف وهو محجور لذاته . وحكمه حكم الصغير غير المميز إذا كان جنونه مطبقا، وحكم الصغير المميز إذا كان جنونه قسميا، وتصرفات المجنون في حال إفاقته كتصرف العاقل، والسفيه المحجوز هو في المعاملات كالصغير اللميز ووليه الحاكم فقط . ويضمن المجنون الضرر والخسارة اللذين نشأ من فعله . ولا ينفذ حكم القتل علي من جن تنفيذ الحكم ويستند القاضي في إثبات الجنون إلي الخبير من الأطباء .. إلي غير ذلك من الأحكام الكلية المرعية اليوم عند أرقي الأمم حضارة وثقافة ومدنية (8) .

وإذا كان الطب النفسي يرفل في الممالك الإسلامية بأبهي الحلل كانت أوربا تائهة في ليل من الأضاليل، وقد شاع فيها الاعتقاد بالجنون الإلهي والشيطاني شأنه في القرون المتقدمة، فراحت تبجل المصابين بالهذيان الديني، وترمي بالكفر المبتلين بأنواع الهذيان المخالف للشرائع والمعتقدات، فيحكم عليهم بالسجن، والقتل، أو يقذف بهم في أعماق آبار روما الدقيمة، حيث يقضون نحبهم ضحية الجهل المطبق كالعته التام، والبلاهة الشديدة . وقد كان هؤلاء المرضي غير المسؤولين يرسلون إلي قرى وجزر غير آهلة ولا منبتة تخصص لهم صيانة للناس من أذاهم، والهولنديون هم أول من ابتدع هذه الطريقة في تجريد المجانين، وقد كانت هذه القرى ذات أسوار ضخمة مرتفعة وفي داخلها غرفة ذات سلاسل وقيود يقيد بها المجانين المحتدون ويظلون فيها إلي أن يقضوا نحبهم (9).. وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.............

هوامش المقال

1- نبيل عودة: فلسفة مبسطة: مفاهيم الجنون، https://www.ssrcaw.org - مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي، 2015 / 7 / 22.

2- علاء الدين محمود: الجنون والأدب، اليوبيل الذهبي للخليج، 11 يناير 2020 03:35 صباحا، 11 يناير 2020 03:35 صباحا.

3- لوكيلي حسين: في إنصاف الجنون، ضمن عدد الفلسفة الألمانية / الفكر العربي الإسلامي،، العدد 43، مخبر، 2021.

4-المرجع نفسه.

5- أسعد الحكيم : ماهية الجنون وتاريخه، مجلة المجمع العلمي العربي، المجمع العلمي العربي، مج 13 ,ج 4,3، 1933م، ص 131.

6- المرجع نفسه، ص 132.

7- المرجع نفسه، ص 133.

8- المرجع نفسه، ص 206.

9- المرجع نفسه، ص 209.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم