صحيفة المثقف

جيل دولوز: ما هو الأدب الثانوي؟ (1-2)

3177 دوليزبقلم: جيل دولوز وفليكس غوتاري

ترجمة: صالح الرزوق


 حتى الآن تكلمنا عن ما يتجاوز المحتويات وأشكالها قليلا: الرأس المحني - الرأس المرفوع، وخطوط مثلث الهروب. ومن المؤكد أنه في فضاء التعبير، يرتبط الرأس المحني بالصورة الفوتوغرافية، والرأس المنتصب بالصوت. ولكن بما أننا لم نتناول الشكل والتدهور أو التعبير المجرد، لا توجد طريقة فعلية للخروج، وهذا صحيح حتى في مجال المحتوى. غير أن التعبير وحده هو الذي يقترح علينا الطريقة. ولم يتابع كافكا مشكلة التعبير بطراز تجريدي وكوني، ولكن بالعلاقة مع تلك الآداب التي ننظر إليها على أنها ثانوية، على سبيل المثال، الأدب اليهودي في وارسو وبراغ. والأدب الثانوي لا يأتي من لغة ثانوية، ولكنه الذي تتكون ثانويته داخل لغة أساسية.

أول صفة للأدب الثانوي، في أية حال، أنه لغة تأثرت لدرجة عالية بالخروج من أرضها. وبهذا المعنى، يحدد كافكا الاختناق الذي يمنع قبول يهود براغ في مجال الكتابة، ويحول أدبهم إلى شيء مستحيل - استحالة أن لا تكتب، استحالة أن تكتب باللغة الألمانية، واستحالة أن تكتب بلغات غيرها (1).

واستحالة أن لا تكتب سببها الوعي الوطني، وسواء كان غير متيقن أو مكبوتا، هو موجود من خلال الأدب (“الصراع الأدبي له مبرراته الفعلية في أعلى مستويات ممكنة”). واستحالة الكتابة بغير الألمانية،  بالنسبة ليهود براغ، يعني الشعور بالمسافة غير القابلة للاختزال في أراضي شيكيا الأصلية.

واستحالة الكتابة باللغة الألمانية يعني خروج الجمهور الألماني نفسه من أراضيه، حيث أن أقلية متسلطة تتكلم لغة مفصولة عن الجماهير، مثل “لغة ورق” أو لغة صناعية. وهذا صحيح تماما بالنسبة للألمان الذين هم بنفس الوقت جزء من هذه الأقلية واستثناء منها، مثل “غجر سرقوا طفلا ألمانيا من مهده”.       

باختصار الألمانية في براغ هي لغة في غير أرضها/ خارجية، ومناسبة للاستعمالات الغريبة والثانوية (ويمكن مقارنة ذلك في سياق آخر بما يمكن للسود اليوم أن يفعلوا في أمريكا باللغة الإنكليزية).

والصفة الثانية للآداب الثانوية في أن كل شيء فيها سياسي. وبالمقارنة مع الآداب الأساسية يشترك الهم الفردي (العائلي، الزوجي، وهكذا) مع اهتمامات أخرى لا تقل فردانية، وتعمل البيئة الاجتماعية كبيئة فقط أو خلفية. وفي هذه الحالة لا يوجد أي من العناصر الأوديبية في حالة تمكين أو ضرورة مطلقة، وتصبح كلها واحدا في فضاء واسع.

الأدب الثانوي مختلف كليا. وفضاؤه المزدحم يجبر كل عنصر استقبال على التداخل مباشرة مع السياسة. والهم المستقل يصبح، بالنتيجة، ضرورة كلية، ولا استغناء عنه، ومجسما، لأن قصة تامة أخرى تتحرك داخله. وبهذه الطريقة، يرتبط المثلث العائلي بمثلثات أخرى - تجاري واقتصادي وبيروقراطي وقانوني - وهو ما يحدد قيمته. وحينما أشار كافكا أن أحد أهداف الأدب الثانوي هو “تنقية المعضلة التي تعارض الأب والابن وإمكانية حل تلك المشكلة بالحوار”، وهذا ليس جزءا من التوهم الأوديبي، ولكنه جزء من البرنامج السياسي. “حتى لو أننا غالبا فكرنا بشيء ما بهدوء، لا يمكن للإنسان أن يبلغ الحدود التي ترتبط بأشياء متماثلة، والإنسان يبلغ الحدود بواسطة السياسة بشكل أسرع، فعلا، ويجاهد الإنسان لرؤيتها قبل أن تكون هي هناك، وغالبا ما يرى هذه الحدود المحددة في كل مكان... وما يهبط للأسف في الأدب العظيم، يؤلف ليس قبوا لا بد منه في البنية، ولكنه يأخذ هنا مكانا في رابعة النهار، وما تجده هناك هو عبارة عن اهتمامات عابرة للقلة، أما هنا فهي تمتصك وتصبح موضوع حياة أو موت” (2).

الصفة الثالثة للأدب الثانوي أن كل شيء فيه ينحو لتكون له قيمة تراكمية. وفعلا هذا لأن الموهبة ليست كثيرة الحضور في الأدب الثانوي، ولا توجد احتمالات لتلفظ أو نطق فردي يمكن أن يحيل إلى هذا “المعلم” أو ذاك، ويمكن عزله عن النطق التراكمي العام. وندرة الموهبة، عمليا، هي في الحقيقة مفيدة وتسمح لتبلور شيء ما غير العبقرية الأدبية. وكل شيء يقوله الكاتب بذاته يتضمن بالضرورة فعلا عاما، والأقوال والأفعال هي بالضرورة سياسية، حتى لو لم يتفق معك الآخرون. والمجال السياسي يلوث كل عبارة 'e'nonce. فالوعي الوطني والتراكمي هو “غالبا غير نشيط في الحياة الخارجية ودائما تتخلله آلية التفكيك”، وهكذا يجد الأدب نفسه مشحونا بشحنة على نحو موجب وله دور ووظيفة النطق التراكمي، وأيضا الثوري. إنه الأدب الذي ينتج التضامن الفعال رغم الشك. وإذا كان الكاتب على الهوامش أو خارج المجتمع الهش تماما، فإن هذا الوضع يسمح للكاتب بإمكانية التعبير عن مجتمع ممكن آخر، وليزور الوسائط التي تقود إلى وعي آخر وحساسية أخرى، مثلما كان كلب “التحري” يدعو في عزلته لموضوع علم آخر. وعليه تصبح الآلة الأدبية مخططا لآلة ثورية ستظهر لاحقا، ليس لأسباب إيديولوجية، ولكن لأن الآلة الأدبية وحدها قد عزمت أن تملأ ظروف النطق التراكمي التي لا تجدها في مكان آخر ضمن هذه البيئة: فالأدب هو شاغل الشعب (3). 

من المؤكد أنه بضوء هذه الشروط نظر كافكا للمشكلة. والرسالة لا تشير إلى فاعل ناطق سيكون هو موضوع الرسالة، ولن يحيل إلى موضوع - سوجيت - الرسالة (sujet d'enonce) والذي سيمثل أثرها. ودون أي شك، ولبعض الوقت، اعتقد كافكا حسب هذه التصنيفات التقليدية التي صنفت الاثنين، المؤلف والبطل، الراوي والشخصيات، الحالم ومن نحلم به (4). ولكنه سيرفض حالا دور السارد، مثلما سوف يرفض أدب الكاتب أو المعلم، على الرغم من إعجابه بغوتة.

وقد تخلت الفأرة جوزفين عن الفعل الفردي - الغناء - لتذوب في النطق الجماعي التراكمي الذي تمثله “الحشود الهائلة من أبطال شعبهـ”ـا””. وهذه نقلة من حيوان مفرد باتجاه الجماعة أو الكثرة التراكمية - سبعة كلاب موسيقيين. وفي “تحريات كلب” كان كلام الباحث المعزول يتحول إلى تجميع النطق التراكمي للكلاب حتى لو أن هذا التراكم لم يتحقق أو أنه لم يئن أوانه. لا يوجد ذات، ولكن هناك تجمع تراكمي فقط للملفوظ، ويعبر الأدب عن هذه الأفعال كما لو أنها بلا مرجعية، وبالتالي كما لو أنها موجودة بشكل قوة إبليسية قادمة على الطريق، أو قوة ثورية ستظهر لاحقا. وتفتح العزلة كافكا وتجعله متاحا لكل شيء يجري حوله في تاريخ عصره الراهن.

والحرف “ك" لم يعد يدل على سارد أو شخصية ولكن على حزمة أصبحت تشبه آلة، أو وسيط أصبح أقرب ما يكون للتراكم والجماعة لأن الفرد محبوس فيها وضمن عزلته/ها (ولكنه مرتبط فقط بذات، وهو شيء منفرد وسيكون قابلا للعزل عن الجماعة وسيباشر ويتحكم بحياته الخاصة).  والصفات الثلاثة للأدب الثانوي هي إخراج اللغة من أرضها، وترابط المفرد مع حالة سياسية مباشرة، والتجميع التراكمي للألفاظ. ويمكننا أن نقول أيضا أن الثانوي لا يعين بعد الآن الآداب النوعية ولكن الظروف الثورية الخاصة بكل أدب ضمن جوهر ما يدعى أدب عظيم (أو متحقق وموجود). وحتى الذي شاء سوء حظه أن يولد في بلد الأدب العظيم عليه أن يكتب بلغته الخاصة، مثلما يكتب التشيكي اليهودي بالألمانية، أو الأوزبيكي بالروسية. الكتابة مثل كلب ينبش في حفرة، وجرذ يحفر جحره. ولكي يفعل ذ لك يعني أن يجد مغزاه غير المنتهي، ومنصته، وعالمه الثالث، وصحراءه. وهناك نقاشات كثيرة للرد على السؤال التالي:”ما هو الأدب الهامشي؟”، و“ما هو الأدب الشعبي، والأدب البروليتاري؟”. وإرساء المعايير صعب بشكل واضح إن لم يبدأ الإنسان من مفهوم موضوعي - يعبر عن الأدب الثانوي. وإمكانية تأسيس آلية ثانوية بلغة أساسية ومن داخل التجربة يسمح للإنسان بتعريف الأدب الشعبي، والأدب الهامشي، وهكذا (5). 

وبهذه الطريقة فقط يمكن للأدب فعلا أن يكون آلة تعبير جماعية ويمكنه فعلا أن يتحرك ويطور مضامينه.

يقول كافكا بحماس إن الأدب الثانوي قادر بجدارة على العمل على مادته (6). 

لماذا هذه الآلة التعبيرية، وما هي؟.

نحن نعلم أنه لدينا أمثلة عن الحالة المركبة لأرض خارج أرضها، ومنهم اليهود الذين استغنوا عن اللغة التشيكية وفي نفس الوقت عن البيئة الريفية، ولكن هذا أيضا هو حال اللغة الألمانية لو نظرنا إليها على أنها “لغة ورق”. حسنا، يمكن للإنسان أن يذهب لشوط أبعد، يمكنه أن يدفع هذه الحركة الخاصة بطرد التعبير من أرضه لمسافة أطول. ولكن لدينا طريقتان لتحقيق ذلك.

طريقة تتلخص بإغناء هذه اللغة الألمانية بممارسات غير طبيعية، أن تمددها عبر كل المصادر الرمزية، المصادر الشمولية، الحساسية الباطنية esoteric، والدال المستتر. وهذه هي المقاربة التي تبنتها مدرسة براغ، وغوستاف ميرينك وآخرون عديدون، من ضمنهم ماكس برود (7). 

ولكن هذه المحاولة تتضمن محاولة يائسة للتمكين الرموزي لهذه اللغة في أرضها، وهو ما يقوم أو يستند على الأنماط البدئية والقبالا والخيمياء، وبذلك يضع النقاط على الحروف بما يخص انفصالها عن الناس وستجد النتيجة السياسية المرجوة في الصهيونية وأشياء من قبيل “الحلم بصهيون”. ولكن كافكا سيختار سريعا الاتجاه الآخر، أو بالأحرى، سيخترع طريقا آخر.

وسيميل إلى اللغة الألمانية الخاصة بمجتمع براغ كما هي، ورغم فقرها وبساطتها المفجعة. وسيذهب دائما لما هو أبعد باتجاه لغة خارج الأرض، ولدرجة العناد. وبما أن اللغة جافة، فهو يضفي عليها كثافة جديدة حية. ويعارض الاستعمال اللغوي الكثيف بالرموزية أو حتى أنه يجعله دالا أو ببساطه يوظفه في استعمالات دالة. ويصل إلى تعبير مثالي ولكنه غير متشكل، تعبير مشدود ومكثف ماديا. (بالنسبة لهذين الاتجاهين المحتملين، ألا يمكننا أن نجد البدائل نفسها، تحت ظروف أخرى، عند جويس وبيكيت؟. فهما رجلان إيرلنديان، وعاشا ضمن ظروف منتمية للأدب الثانوي. وهذا هو مجد هذا النوع من الأدب الثانوي - أن تكون قوة ثورية في الأدب. استعمال اللغة الإنكليزية وكل لغة أخرى في عمل جويس. واستعمال الإنكليزية والفرنسية في عمل بيكيت. ولكن السابق لم يتوقف عن العمل الدؤوب وبإصرار وحقق كل أنواع تمكين اللغة في أرضها عالميا.  وتابع الآخر بالاقتصاد والعناد والعوز الاختياري، ليدفع طرد اللغة من أرضها لدرجة قصوى لا يبقى معها شيء سوى التكثيف والشدة). كم عدد الناس الذين يعيشون اليوم في لغة هي ليست لغتهم؟. أو لم تعد لغتهم، أو أنها ليست ذلك حتى الآن، مع أنهم يعرفون لغتهم ويعرفون بأضيق الحدود اللغة الأساسية التي أجبروا على خدمتها؟. هذا هو حال المهاجرين، ولا سيما أطفالهم، ومشكلة الأقليات، ومشكلة الأدب الثانوي، ولكنها أيضا مشكلة تواجهنا جميعا: كيف ننتزع أدبا ثانويا من لغته الخاصة، ونسمح له بتحدي اللغة ونجبره على اتباع ممر ثوري صعب؟. كيف يمكننا أن نكون مع لغتنا نوعا من البدو والمهاجرين والغجر؟.

يرد كافكا قائلا: اسرق الطفل من مهده، وسر على السلك المشدود. سواء كنت غنيا أو فقيرا كل لغة تتضمن دائما طردا للفم من أرضه، وكذلك اللسان والأسنان. الفم واللسان والأسنان تجد أرضها البدائية في الطعام. وبالاستسلام لنطق الأصوات يتخلى الفم واللسان والأسنان عن أرضهم. ولذلك تجد فصلا معروفا بين الأكل والكلام، وفوق ذلك، ورغم كل الظواهر، بين الأكل والكتابة.

وبلا أي شك، يمكن للمرء أن يكتب وهو يأكل بسهولة أكبر من أن يتكلم وهو يأكل، ولكن الكتابة تذهب لشوط أبعد في تحويل الكلمات إلى أشياء يمكنها أن تنافس الطعام. الفصل بين المضمون والتعبير. يمكن أن تتكلم وأن تكتب بسرعة. وكافكا يبدي بامتياز هوسا دائما بالطعام وشكل الطعام. بكلمات أخرى، الحيوان أو اللحوم - هوس بالفم والأسنان وبالأسنان الكبيرة غير الصحية أو المغلفة بالذهب (8). وهذه واحدة من المشاكل الأساسية لكافكا مع فيليس.

الصيام كذلك موضوع دائم في كتابات كافكا.  وكتاباته تاريخ طويل من الصوم. “الفنان الجائع” يتعرض لمراقبة من الجزارين، وينهي مشواره المهني بجوار وحوش تأكل اللحم غير المطهو، ويضع زواره أمام اختيار محرج. والكلاب تحاول أن تسيطر على فم الكلب المحقق وتملأه بالطعام كي لا يتمكن من إلقاء الأسئلة، وهذا أيضا اختيار محرج آخر: “كان الأفضل لهم لو طردوني ورفضوا الإصغاء لأسئلتي. كلا، لم يرغبوا بهذا، وكذلك لم يرغبوا بالاستماع لأسئلتي، ولكن لأنني سألت هذه الأسئلة لم يريدوا أن يردوني على أعقابي”. والكلب المحقق يتأرجح بين علمين، أحدهما الغذاء - علم له علاقة بالتربة والرأس المنكس (“متى أنتجت الأرض هذه الأطعمة؟”) - وآخر له علاقة بالموسيقا وهو علم متعلق بالهواء والرأس المنصوب، مثلما يبدو من الكلاب الموسيقيين السبعة في الافتتاحية، والكلاب المغنين في الخاتمة. لكن بين الاثنين هناك شيء مشترك، بما أن الطعام يأتي من أعلى وعلم التغذية يمكن أن يتطور بالصوم، تكون الموسيقا صامتة على نحو مستغرب. بالعادة، في الواقع، اللغة تعوض الابتعاد عن أرضها بواسطة تمكينها من أرضها بمجال حاسة واحدة. وأن تمتنع أن تكون عضوا لحاسة من الحواس، تصبح أداة لواحدة من الحواس (حاسة). والحاسة، الحاسة الصحيحة، هي التي تعلو على تعيينات الأصوات (الشيء أو حالة الأشياء التي تعينها الكلمة) والحاسة التصويرية تعلو على عاطفة الصور والاستعارات (تلك الأشياء الأخرى التي تقررها الكلمات في حالات أو ظروف معينة).         

وعليه ليس هناك استبعاد روحي من الأرض فقط، بمعنى من المعاني، ولكن فيزيائي أيضا. وبالمثل توجد اللغة فقط من خلال تمييز واستحسان فاعل الملفوظات، وهو بدوره على علاقة مع المعنى، وموضوع المقولة، وهو على علاقة، مباشرة أو استعارية مع الشيء المتعين. ويمكن تسمية هذا النوع من الاستعمال العادي للغة إنه استعمال استنفاذي أو تمثيلي - وظيفة إعادة توطين اللغة (والكلب المغني في نهاية “التحريات” يجبر البطل على إبطال صيامه، وهو سلوك تكرار الأودبة).

وبذلك نكون أمام شيء ما يحدث: وهكذا إن حالة اللغة الألمانية في شيكوسلوفاكيا، باعتبار أنها لغة سائلة متداخلة مع التشيكية واليديش، ستسمح لكافكا بإمكانية الإبداع. وبما أن الأشياء هي ما هي عليه (“هي كما هي، هي كما هي”، وهذه صيغة عزيزة على قلب كافكا، وتؤشر لحالة من الحقائق)، سيبتعد عن المعنى، وسيعدله ليكون ضمنيا. وسيحتفظ فقط بهيكل المعنى، أو بقصاصة منه. بما أن الصوت المنطوق كان صخبا خارج أراضيه ولكنه سيعاد توطينه في المعنى، هو حاليا ينطق ذاته وسيحرم من أرضه دون عودة وبشكل مطلق. والصوت أو الكلمة التي تتجاوز الخسارة الجديدة لأرضها لا ينتمي بعد الآن للغة المعنى، ومع ذلك يشتق منها، ولا هو -أي الصوت- موسيقا منظمة أو أغنية، ولكن يمكنه أن يبدو كذلك. وقد انتبهنا لتأتأة غريغوري، والطريقة التي يقسر بها كلامه الغامض، صفير الفأرة، وسعال القرد، وعازف البيانو الذي لا يعزف، والمطربة التي لا تشدو وتكون أغنياتها من هرائها، والكلاب الموسيقيون وهم موسيقيون في طبقات الأعماق، لأنه لا ينبعث منهم أي موسيقا. وفي كل مكان الموسيقا المنظمة يتخللها خط نفي - مثل لغة معنى يتخللها خط هروب - بغاية تحرير كائن حي ومادة تعبيرية تعبر عن نفسها ولا تجد ضرورة لتكون شكلا (9). هذه اللغة مقتبسة بالقوة من معنى، وتحتل معنى، وتقودنا إلى تحييد معنوي فعال، ولا تجد قيمتها في أي شيء سوى تنقيط الكلمة، أو إجبارها: “أنا أحيا هنا فقط أو هناك في عالم صغير وحرف علة... وأفقد رأسي غير النافع لدقيقة من الوقت. وأول وآخر حرف هو بداية ونهاية عاطفتي التي تشبه الأسماك” (10).         

 ولدى الأطفال مهارة عالية بتكرار الكلمة، والتي لا تشعر بمعناها إلا قليلا، ولتجعلها حية وتدور حول نفسها (في مطلع القصر، يتكلم أولاد المدرسة بسرعة عالية ولا يفهم المرء ماذا يقولون). ويخبرنا كافكا كيف أنه في مرحلة الطفولة كان يردد واحدا من تعابير أبيه ليجبرها على التدحرج على طول خط لا معنى له:” في نهاية الشهر، نهاية الشهر” (11). والاسم الكامل، الذي لا معنى له بحد ذاته، يناسب هذا النوع من التجارب. وميلينا بلفظ مختلف لحرف “ي” تبدأ بالقول “إغريقي أو روماني ضاع في بوهيميا، واعتدى عليه تشيكي، خدعه بلهجته”. ثم بمقاربة أكثر حساسية، يقول “امرأة تحملها بيد واحدة من هذا العالم، من هذه النار” واللهجة هنا تدل على سقوط  محتمل أو العكس، “القفزة التي تقفزها شخصيا مع أثقالك” (12).  ويبدو لنا أنه هناك فرق معين، وحتى لو أنه هراء نسبي أو كلي، بين القولين حول اسم ميلينا: أحدهما يربط نفسه بمشهد مكثف وتصويري من نوع تخيلي. الثاني أكثر كثافة ويشير لسقطة أو قفزة باعتبار أن عتبة التكثيف متضمنة داخل الاسم نفسه.  في الحقيقة لدينا هنا ما يجري حينما يتم تحييد الحاسة. وكما قال فاغينباخ: ” الكلمة سيد، وهي مباشرة التي تلد الصورة”. ولكن كيف يمكن تعريف آلية المعنى مع أنه لا يبقى هناك إلا ما يكفي لتوجيه خطوط الهرب. فالتعيين لم يعد موجودا بواسطة تسمية أسماء تامة، ولا إطلاق استعارات بواسطة معنى مجازي. ولكن مثل الصور، الشيء لا يشكل أي شيء سوى سياق من الحالات المكثفة، سلم أو دارة من الشدة والتي يمكن للمرء أن يجري حولها بمعنى أو آخر. من المرتفع للمنخفض، أو من المنخفض للمرتفع.  والصور هي هذا السباق نفسه. إنها تصبح صيرورة - الكلب المنتظر المتشكل من إنسان والرجل المتوقع المتشكل من كلب، والقرد المنتظر أو الخنفساء المتحولة من إنسان والعكس صحيح. لم نعد في وضع لغة غنية وعادية حيث أن كلمة كلب، على سبيل المثال، ستحدد مباشرة حيوانا وستطبق بواسطة الاستعارة على أشياء أخرى (ليمكن للإنسان أن يقول “مثل كلب”)(13).

***

........................

هوامش الكاتبين:

 

 

1- انظر رسالة إلى ماكس برود، كافكا، الرسائل، حزيران 1991، 289، وتععقيبات في فاغينباخ، فرانز كافكا، 84.

2- كافكا. المذكرات. 25 كانون الأول. 1911.194.

3- مرجع سابق. 193: “اهتمام الأدب بالتاريخ الأدبي أقل من اهتمامه بالناس”.

4- انظر “تحضير عرس في الريف”. كافكا، القصص الكاملة: “ما دمت تقول الواحد عوضا عن أنا، فأنت لم ترتكب شيئا”. (ص53). ويظهر الفاعلان بعد عدة صفحات: “أنا لست بحاجة حتى للذهاب إلى الريف بنفسي، هذا غير ضروري. وسأرسل من يرتدي ثيابي”، فيما الراوي يبقى في السرير مثل حشرة أو خنفساء (ص55). بلا شك هذه الحركة واحدة من بدايات ظهور الحشرة غريغور في “المسخ”.  (وبنفس الطريقة سييأس كافكا من الذهاب للقاء فيليس وسيفضل أن ينتظر في السرير). ولكن في “المسخ” يكون الحيوان قد حقق نفسه فعلا ولم يعد لديه شيء من طبيعة الذات الناطقة. 

5- انظر مشيل راغون، تاريخ أدب البروليتاريا في فرنسا (باريس: ألبين ميشيل، 1974). عن مصاعب المعيار وحول الحاجة لتطبيق مفهوم عن “أدب المنطقة الثانوية”.

6- كافكا. كانون الأول 1911. 193: “ذاكرة الأمة الصغيرة ليست أصغر من ذاكرة الأمة الكبيرة ولذلك يمكن أن تهضم المادة الموجودة بشكل أعمق”.

7- انظر الفصل الممتاز بعنوان “براغ في منعطف القرن” في كتاب فاغينباخ: فرانز كافكا، وفيه نقاش لوضع اللغة الألمانية في شيكوسلوفاكيا ونقاش عن مدرسة براغ.

8- تكرار موضوع الأسنان عند كافكا. حفيدة الجزار، ثقافة شوارع في حانوت الجزار، وفكا فيليس الاثنان، رفض أكل اللحوم إلا حينما ينام مع فيليس في سرير ماريين. انظر مقالة ميشيل كورنو”من لديه أسنان كبيرة” في النوفيل أوبزيرفاتير، 17 نيسان 1972. وهو أفضل نص عن كافكا. ويمكن أن تجد تعارضا بين الأكل والكلام في لويس كارول، وهروبا مشابها من المعنى إلى اللامعنى.

9- فرانز كافكا. القضية. ترجمة ويلا وإدوين موير. (نيويورك: شوكين بوكس، 1956). :”لاحظ أنهم كانوا يتكلمون إليه، ولكنه لم يفهم ماذا يقولون له، ولم يسمع شيئا سوى طنين ملأ المكان كله، وبدا له أن نغمة رتيبة وثاقبة تشبه جرس إنذار ترن في أرجاء المكان”.

10-  كافكا. المذكرات. 20 آب 1911. 61-62.

11- كافكا. المذكرات:”دون كسب حاسة، عبارة ’نهاية الفم’ تحتوي على سر مرعب بالنسبة لي” لا سيما لأنها تتكرر شهريا - كافكا نفسه يقترح إذا كان هذا التعبير يدل على حاسة،  فهذا بسبب كسل و“اضول الضعيف”. “التفسير السلبي يشير لعجز أو ضمور القوة، كما يرى فاغينباخ. ومن المعروف أن كافكا يقدم هذه الأفكار السلبية ليصور أو ليستر موضوعات عاطفته.

12- كافكا. رسائل إلأى ميلينا. 58. افتتان كافكا بالأسماء الكاملة، بدءا بتلك التي وضعها: انظر كافكا. المذكرات. 11 شباط 1913 (افتراض الأسماء في الحكم).

13- دارسو كافكا يكونون في أسوأ حال بهذا الخصوص حينما يحكمون على كل شيء بالاستعارة. ولذلك تذكرما مارثا روبيرت أن اليهود مثل الكلاب. ولو أخذنا مثالا آخر “منذ أن أصبح الفنان شخصا معرضا للجوع حتى الموت صوره كافكا بشكل فنان جائع، وحينما أصبح بمثابة طفيلي، صوره كافكا بشكل حشرة عملاقة”. الأعمال الأدبية الكاملة. دائرة الأدباء الخالدين. 5:311). ويبدو لنا أن هذا مفهوما مبسطا عن الآلة الأدبية - التي أصر روب غرييه على تحطيم كل استعاراتها الواردة في أعمال كافكا.

*هذه ترجمة أولية لمقتطفات من الفصل الثالث من كتاب دولوز وغوتاري عن كافكا.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم