صحيفة المثقف

جيل دولوز: ما هو الأدب الثانوي؟ (2-2)

3212 ديلوزبقلم: جيل دولوز و فيليكس غوتاري

ترجمة: صالح الرزوق


 المفكرات، 1921: “المسخ واحد من الأشياء التي تبعث بي اليأس من الأدب”.

يقتل كافكا عمدا الاستعارة والرموز والدلالة والتعيينات. والمسخ تسير بعكس الاستعارة. وليس هناك أي معنى ملموس أو حساسية مجازية، إنما توزيع للحالات التي هي جزء من النطاق الخاص بالكلمة. وما تبقى ليس أي شيء باستثناء أنه تكثيفات (وشدة) يداهمها صوت خارج أرضه أو كلمات تتبع خط هروبها. وهي لم تعد قضية تشابه بين مكونات حيوان وإنسان. بل هي أقل من قضية تلاعب بالكلمات. أو سلوك للحيوان وآخر للبشر. إنها مشكلة أدنى من لعبة كلام عادية. ليس هناك حيوان أو إنسان، باعتبار أن كلا منهما يطرد الآخر من أرضه، وبحركة متواصلة، وشدات عكوسة ومتدرجة. لقد أصبحت القضية هي أن يكون الفرق الأقصى وكأنه فرق في الشدة، عبور للحاجز، ارتفاع أو انخفاض، انحناء أو انتصاب، لهجة في الكلام. فالحيوان لا يتكلم “مثل” إنسان ولكنه يجر من اللغة أصواتا ملحنة تفتقر للمعنى. والكلمات ذاتها ليست “مثل” الحيوانات ولكنها بطريقتها الخاصة تصعد، وتعوي وتتجول، تكون كلابا أو حشرات أو فئرانا ألسنية متطورة (14).

لتجعل السلسلة حية، ولتفتح الكلمة على شدات داخلية غير متوقعة - باختصار استعمال مكثف للغة د-الة. كما أنه لم يعد هناك فاعل للنطق، ولا فاعل للعبارة. لم يعد فاعل الكلام هو الكلب، حينما يكون فاعل النطق مستمرا “مثل” إنسان. ولا فاعل النطق هو “مثل” خنفساء، ولكن يبقى فاعل العبارة إنسانا. وعليه هناك دورة من الحالات التي تشكل صيرورة مشتركة، في داخل الحزمة المركبة أو التراكمية بالضرورة. لنتصور وضع اللغة الألمانية في براغ - مفردات ذابلة، ونحو غير صحيح - يشارك، بشكل عام، في هذه الاستعمالات، وهو ما يمكن أن ندعوه العناصر الألسنية، حتى لو أنها مختلفة، وذلك للتعبير عن “الشدة الداخلية في اللغة ”. وبهذا المعنى يقول الألسني فيدال سيفا Vidal Sephiha “أي أداة ألسنية تسمح بالانتقال إلى حدود فكرة أو تتجاوزها” تدل على حركة لغوية باتجاه أقصى مجال لها، باتجاه لاحق أو سابق لكنه عكوس (15). وقد بين سيفا بشكل جيد تنوع هذه العناصر والتي يمكن أن تكون كل أنواع وأشكال الكلمات والأفعال أو حروف الجر الأساسية، التي تفترض كل أنواع المعاني. ما قبل الإسمية أو الأفعال الكثيفة فقط كما هو الحال في العبرية، وظروف وتعجب وأحوال، ومصطلحات تتضمن معنى الألم (16).

ويمكن للمرء أن ينظر بالتساوي إلى اللهجات التي تتشكل داخل الكلمات، ولوظائفها المنفصلة عنها. ويبدو أن اللغة في الأدب الثانوي طورت، على وجه الخصوص، التوترين أو هذه الشدات. وقد ذكر فاغينباخ، في الصفحات الجميلة التي حلل بها اللغة الألمانية في براغ الواقعة تحت تأثير اللغة بالتشيكية، سمات هذا الاتجاه من الألمانية، والاستعمال الخاطئ لحروف الجر. وسوء استعمال الضمائر، وتوظيف الأفعال المرنة (مثل Giben والتي تستعمل في سلسلة مثل “put, sit, place, take away” لتكون مكثفة). وهذا يدل على تضاعف وتوالي الأحوال، واستعمال الظروف المؤلمة، وأهمية اللهجة لتكون شدة داخلية في الكلمة، وتوزيع حروف العلة والحروف الصامتة كجزء من انقطاع داخلي. ويلح فاغينباخ على هذه النقطة فيقول: كل هذه علامات على فقر اللغة، وتظهر في أعمال كافكا، ولكن تتستر بالاستعمالات الإبداعية من أجل أن تكون متماسكة بشكل جديد، وتعبيرية، وذات مرونة جديدة، وكثافة جديدة (17). “تقريبا كل كلمة كتبتها تقف بطريق ما يليها، وأسمع الحروف الصامتة وهي تحتك ببعضها البعض، وحروف العلة وهي تغني معا مثل زنوج في عرض ديني” (18). وهكذا تتوقف اللغة عن أن تكون تمثيلية وعند حدودها القصوى أو حدودها المقيدة. ويرافق هذا التحول ما يدل على الألم، مثلما يحصل في الكلمات التي صارت همهمة مؤلمة على فم غريغور، أو في صيحة فرانز “المعزول والذي لا يعود لسالف وضعه”. وفكر باستعمال الفرنسية كلغة محكية في أفلام غودارد. هناك أيضا تراكم للأحوال النمطية وظروف الزمان التي تشكل قاعدة لكل العبارات - وهذا تقتير غريب يحول الفرنسية إلى لغة ثانوية ضمن الفرنسية، وهي آلية إبداعية تربط مباشرة الكلمة بالصورة، وتقنية تخرج في نهاية السلسلة وتكون مرتبطة بشدة الحدود “هذا يكفي، يكفي، وصل لكفايته”. وهو تكثيف شمولي، يوازي صورة عامة، حيث الكاميرا تتنقل باتزان دون أن تغادر بقعتها، وتجعل المشهد حيا وممتلئا.

وربما كانت دراسات الصور المقارنة أقل لفتا للاهتمام من دراسة وظائف اللغة التي يمكن أن تنشط في نفس المجموعة من اللغات المختلفة - ثنائية اللغة أو متعددة اللغات. لأن دراسة الوظائف في لغات معينة يمكنه وحده أن يكون مسؤولا عن العوامل الاجتماعية، وعلاقات القوة، ومراكز السلطة المختلفة، فهو يهرب من الأساطير “الإخبارية” لكي يقدر النظام الطبقي والحاسم في اللغة ويكون مصدرا للتحول في الترتيب، وتطبيقا للقوة أو مجالا لمقاومة هذا التطبيق. وبتبني بحوث فيرغسون وغومبيرز، اقترح هنري يوبارد نموذجا ألسنيا رباعيا: المحكي أو الأمومي أو اللغات المحلية المستعملة في المجتمعات الريفية أو ذات الأصول الريفية، المركبة والمدينية والحكومية واللغات العالمية، لغة الأعمال، والتبادل التجاري، والبعثات البيروقراطية، وهكذا. وهي لغات خارج أرضها ومن نمط أول. واللغة المرجعية، لغة معنى وثقافة، وتتضمن عودة توطين اللغة ثقافيا. واللغة الأسطورية، وتكون على تخوم الثقافات، ويتخللها توطين لغوى روحي أو ديني. وتختلف الفئات الزمن/ كانية في هذه اللغات على نحو حاسم: اللغة المحكية هنا، واللغة الناقلة في كل مكان. واللغة المرجعية هناك. واللغة الأسطورية في الخلف. ولكن علاوة على كل ذلك يختلف توزيع هذه اللغات من جماعة لما يليها، وضمن الجماعة الواحدة، من حقبة لما بعدها (ولفترة طويلة في أوروبا كانت اللاتينية هي اللغة الناقلة قبل أن تصبح مرجعية، ثم أسطورية. وتحولت اللغة الإنكليزية للغة وسيطة في العالم المعاصر)(19). وما يمكن أن تقوله في لغة واحدة لا يمكن أن تقوله بغيرها، ومجموع ما يمكن وما لا يمكن أن يقال يختلف بالضرورة في كل لغة وفي أي ارتباط بين هذه اللغات (20). ويكون لهذه العوامل أطراف غامضة، وحدود متبدلة، وهي تختلف من مادة لأخرى. يمكن لإحدى اللغات أن تقوم بوظيفة معينة لمادة معينة ووظيفة أخرى لمادة أخرى. وكل وظيفة لغوية تنقسم بدورها وتحمل معها مراكز قوة متعددة. طيف لغات، وليس نظام لغات على الإطلاق. ويمكن أن نفهم خزي وعار الشموليين الذين يبكون حينما نتلو صلواتنا بالفرنسية، وهذا دليل برأيهم على السطو على الوظيفة الأسطورية للغة اللاتينية. ويبدي الكلاسيكيون تخلفا مشينا ويتباكون لأن اللاتينية تعرضت للتجريد من وظيفتها الثقافية المرجعية. ويعربون عن أسفهم بهذه الطريقة حيال الأشكال التعليمية والدينية المتسلطة التي مارستها هذه اللغة والتي استبدلت حاليا بأشكال مختلفة. وتوجد أمثلة جادة لعبور الحدود بين الجماعات. منها إحياء المناطقية، وذلك بإعادة توطين اللغة باللهجة أو بالكلام العامي، اللغة المحيكة - كيف يمكن أن يخدم ذلك التكنوقراط العابر للقوميات أو العالمي؟. وكيف يمكن أن يرفد الحركات الثورية، باعتبار أنها ممتلئة أيضا بأحفوريات تحاول تغيير الحساسية المعاصرة؟. وذلك منذ سيرفان سكريبنير وحتى الشاعر بريتون وصولا للمغني الكندي. وليس بهذه الطريقة تنقسم الحدود فعليا، لأن المغني الكندي يمكنه أن يقوم بإعادة توطين ثورية وأوديبية، آه ماما، آه يا وطني، يا كوخي، يا أيامي القديمة، القديمة”. يمكن أن نسمي ذلك تعمية، وتاريخا مختلطا، وموقفا سياسيا، ولكن الألسنيين لا يعرفون شيئا عن ذلك، ولا يريدون أن يعرفوا، باعتبار أن الألسنيين هم “قياميون”، علماء أتقياء مخلصون للعلوم الساكنة. لكن شومسكي عوض عن منهجه العلمي غير السياسي بصراع جسور ضد الحرب في فيتنام. دعونا نرجع إلى حالة إمبراطورية هابسبورغ. كان تفكك وسقوط الإمبراطورية يضاعف الكارثة، ويحرض في كل مكان على التدهور والانحلال، وفتح الباب لكل أشكال التوطين - الأثري، الأسطوري، أو الرموزي. وبشكل عشوائي يمكن أن نضع في عداد معاصري كافكا كلا من: آينشتاين الذي طرد لغة تمثيل الكون من أرضها (قام آينشتاين بالتعليم في براغ، واشترك الفيزيائي فيليب فرانك في مؤتمرات هناك بحضور كافكا). ويمكن أن نضع أيضا: الموسيقيين النمساويين (موسيقيي الاثنتي عشرة نغمة) الذين طردوا اللغة الموسيقية التمثيلية من أرضها (نحيب موت ماري في ووجيك، أو موت لولو، أو صدى سي الذي يبدو لنا كأنه يتبع لحنا موسيقيا يشبه بطرق مؤكدة ما كان يفعله كافكا). وسينما التعبيريين وحركتها المضاعفة: خروج الصورة وإعادة توطينها (روبيرت فيين، الذي له خلفيات تشيكية، فريتز لانغ، المولود في فيينا، بول فاغنر وتوظيفه لموضوعات براغ). وطبعا علينا أن نذكر مدرسة فيينا في التحليل النفسي ومدرسة براغ الألسنية (21).

ما هو الوضع الخاص ليهود براغ من وجهة نظر “اللغات الأربعة”؟.

اللغة التشكية هي لغة محكية يتكلم بها هؤلاء اليهود القادمون من الريف، ولكن اللغة التشيكية أصبحت محل النسيان والكبت، أما بالنسبة لليديش، فغالبا ما كتب عليها أن تكون محط الشبهات - إنها مرعبة كما يقول كافكا. واللغة الألمانية هي لغة التوصيل في البلدات المسكونة، لغة بيروقراطيي الدولة، لغة التبادل التجاري (مع أن الإنكليزية بدأت تحل محلها لهذا الهدف). أما الألمانية - ألمانية غوتة - فلها وظيفة ثقافية ومرجعية (وكذلك الفرنسية لدرجة أقل). وتبقى العبرية، لغة أسطورية، فقد ارتبطت منذ البداية بالصهيونية واستمرت بامتلاك صفة خاصة عن حلم نشيط. وتوجب علينا أن نحدد لكل لغة من تلك اللغات درجة توطينها، وخروجها من أرضها، وإعادة توطينها. أما حالة كافكا شخصيا: فهو واحد من الأقلية اليهودية التي تكتب في براغ وتتكلم وتفهم التشيكية (وهذه اللغة سيكون لها أهمية كبيرة خلال علاقته مع ميلينا).

تلعب الألمانية بدقة الدور المزدوج لكل من لغة التوصيل والثقافة، علما أن غوتة دائما موجود في الأفق (كان كافكا يعرف الفرنسية أيضا، والإيطالية، وربما القليل من الإنكليزية). ولكنه لن يتعلم العبرية إلا في وقت لاحق. والشيء المعقد هنا هو علاقة كافكا بالييديش. وكان ينظر إليها كنوع من أرض ألسنية لليهود في أضيق الحدود، وليس كلغة بدو رحل يفقدون أراضيهم ويعيدون استلهام طرق التواصل من الألمانية. وما فتنه في الييديش هو أنها أقل من لغة لجماعة دينية لو قارنتها مع لغة المسرح الشعبي (وسيكون متحمسا ومروجا للمسرح النقال الذي مثله إسحاق لوي)(22). والطريقة التي قدم بها كافكا، في اجتماع شعبي، الييديش لجمهور من البورجوازيين اليهود المعادين، يستحق الاهتمام لحد كبير: الييديش لغة ترعب أكثر مما تمثل العجز ” فالخوف يختلط مع النفور الأصولي”. إنها لغة ينقصها النحو وحافلة بكلمات طافية، ومعبأة، ومهاجرة، ومتحولة لظاهرة بدوية تضغط “علاقات القوة” إلى الداخل. وهي لغة مطعمة على لغة أعلى الطبقة المتوسطة في ألمانيا والتي تعيد تفعيل اللغة الألمانية من الداخل بحيث لا يمكن ترجمتها إلى لغة ألمانية دون تحطيمها. ويمكن للمرء فهم الييديش من خلال “الشعور بها” قلبيا. باختصار إنها لغة يحملك الاستعمال الثانوي فيها بعيدا عنها: “ثم ستشعر بالوحدة الحقيقية لليديش وبقوة ستسبب لك الخوف منها، غير أنه ليس خوفا من اليديش ولكن على نفسك. استمتع بهذه الثقة بالذات قدر ما يمكنك”(23). ولم يكن كافكا يبحث عن إعادة توطين بوساطة اللغة التشكية. ولا باتباع استعمالات ثقافية واسعة للألمانية ذات التحليقات الأحادية أو الرمزية أوالأسطورية (وحتى المعبرنة أيضا)، كما هو حال مدرسة براغ. ولا بالاقتراب من الييديش الشفاهية والشعبية. عوضا عن ذلك استعمل الممر الذي فتحته الييديش له، فقد تبناها بطريقة حولها بها إلى شكل متفرد ومعزول من أشكال الكتابة. وباعتبار أن الألمانية في براغ خارج أراضيها بعدة درجات، سيحملها دائما لمسافة أبعد، ولدرجة كثافة أكبر، ولكن باتجاه جمود جديد، وتطوير غير متوقع وجديد، وإصلاح لا يدعو للشفقة، ويقود لرفع الرأس. إنه تهذيب ذهاني، وحالة سكر سببه الماء (24). وسيدفع اللغة الألمانية إلى الابتعاد على طريق الهروب. وسيغذي نفسه بالامتناع. وسيعقم ألمانية براغ من كل الصفات النوعية للتخلف الذي تعب من التواري، وسيجعلها تنوح بعناد كبير وبصياح مسموع يصم الأذن. وسيعصر منها نباح الكلب، وسعال القرد، وفحيح الخنفساء. وسوف يحول القواعد إلى صيحة تتضمن القواعد الصلبة للغة الألمانية الجافة هذه. وسيدفعها إلى الأمام للخروج من أرضها وهو ما لا يمكن الاحتفاظ به بواسطة الثقافة أو الأسطورة، وسيكون طردا مطلقا، حتى لو أنه بطيء، ولزج، ومتجلط. وأن تحمل اللغة ببطء وباستمرار إلى الصحراء. وأن تستعمل القواعد لتعول، وأن تسلم القواعد للعويل. ليس هناك شيء أساسي أو ثوري باستثناء الثانوي. وأن تبغض كل لغات السادة. وافتتان كافكا بالخدم والموظفين (نفس الشيء في أعمال بروست فيما يتعلق بالخدم ولغاتهم). وأكثر ما يثير اهتمامه هو احتمال استنتاج وظائف ثانوية من لغته - على فرض أنها متميزة، وأنها لغة أساسية أو كانت كذلك. أن يكون غريبا لحد ما ضمن لغته نفسها، وهذا هو حال سباح كافكا العظيم (25).

وحتى وهي متميزة، تبقى اللغة مزيجا، خلطة شيزوفرانية، أو زيا استعمله هارليكوين (*مهرج). وله دور لغوي مختلف جدا ويتضمن مراكز قوة واضحة، يقلل من وضوح ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله، وهذه وظيفة لن تكون جاهزة لتتخلص بها من الآخر، وفي نفس الوقت معها ستبدأ كل درجات التسيد والطرد النسبي. ولكن حينما تكون أساسية يتم إتاحة اللغة لوظيفة مكثفة تسهل عليها الهروب والتحليق على طول الإبداع الهارب من نفسه، ومهما كان هذا بطيئا، ومهما كان حذرا، يمكنه أن يشكل لغة خارج مجالها على نحو مطلق. كل هذه التجديدات والاختراعات، لا تقتصر على المفردات فقط، باعتبار أنها أقل أهمية، ولكن أيضا الإبداع القواعدي، وذلك ببساطة لتكتب مثل كلب (مع أن الكلب لا يكتب - بالضبط، بالضبط). وهو ما فعله أرتو بصوت فرنسا، بشهيقها، وما فعله سيلين باللغة الفرنسية، متبعا خطا آخر، خطا عجيبا لأقصى درجة.

وقد انتقلت تطورات قواعد سيلين من “رحلة إلى الموت ” وفق “خطة معتمدة”، ثم من “الموت وفق خطة معتمدة” إلى “فرقة غويغنول” (وبعد ذلك لم يكن لدى سيلين شيء يتكلم عنه باستثناء سوء حظه. بكلمات أخرى لم يكن لديه مزيد من الرغبة بالكتابة، ولكن فقط الشعور بالحاجة للنقود. وكانت النهاية دائما عند خطوط اللغة الجاهزة للهروب: صمت، القطيعة، اللانهائي، وربما ما هو أسوأ.

ولكن بعد تلك النقطة، يبدأ الإبداع الجنوني، آلة الكتابة العجيبة!. تلقى سيلين الاستحسان الشديد على “رحلة” قطع بها شوطا أبعد من “موت بخطة مدبرة” ولاحقا في “فرقة غويغنول” الهامة وفيها كانت اللغة مجرد تكثيف وحسب. كان كلامه يشبه “الموسيقا الثانوية”. كافكا أيضا لديه موسيقا ثانوية، مختلفة، ولكنها دائما مكونة من أصوات خارج أراضيها، وهي لغة تهرول بسرعة ولمسافات بعيدة. هؤلاء هم المؤلفون الثانويون الحقيقيون. منفذ خلاص للغة، والموسيقا، والكتابة. وهو ما نسميه الظاهرة الشعبية - موسيقا شعبية، فلسفة شعبية، كتابة شعبية - هروب الكلمة Worterflucht. لتستفيد من مضاعفات لسان لغة معينة، لتستعملها بشكل ثانوي أو مكثف، لتعارض الصفة المكبوتة في هذه اللغة بصفة أخرى لكن قامعة، ولتجد نقاط ارتكاز لا ثقافية ومتخلفة، مناطق عالم ثالث ألسنية وبها يمكن للغة أن تهرب، أن تكون حيوانا يدخل في الأشياء، وجماعة تدخل في مسرحية. كم من الأساليب أو الأنواع أو الحركات الأدبية، حتى الصغيرة جدا منها، يكون لديها حلم واحد: أن تقوم بوظيفة أساسية في اللغة، أن تقدم نفسها بشكل لغة دولة، لغة رسمية (على سبيل المثال التحليل النفس اليوم، والذي يود أن يكون متحكما بالدال، والاستعارة، والتورية). وأن تخلق الحلم المعاكس: تعلم كيف تصنع شيئا في صيرورة ثانوية (هل هناك أمل للفسلفة، والتي كانت لفترة طويلة رسمية، ونوعا مرجعيا؟. دعونا نغتنم هذه اللحظة والتي تحاول فيها عكس الفلسفة أن تكون لغة السلطة).

 

....................

* هذه هي تتمة الترجمة الأولية للفصل الثالث من: كافكا نحو أدب ثانوي لدولوز وغوتاري. بالاعتماد على نسخة دانا بولان. منشورات جامعة مينيسوتا.

هوامش المؤلفين:

14- انظر على سبيل المثال، رسالة إلى بولاك. في كافكا. شباط 1902. 1-2.

15- انظر هـ فيدال سبيها “مقدمة في أحوال الكثافة”. في اللغة. 18 (حزيران 1970): 104-20. نأخذ المصطلح “شدة” من ج. ف. ليوتار الذي استعمله للدلالة على العلاقة بين الشدة والليبيدو.

16- سبيها. المقدمة. 107. (“يمكننا تصور أي عبارة تنقل فكرة سلبية عن الألم، والشر، والخوف، والعنف يمكن أن تنتهي من الفكرة لتحتفظ بما لا يزيد على حدودها - وهو “القيمة المكثفة”: على سبيل المثال الكلمة الألمانية sehr التي جاءت من الألمانية فوق المتوسطة Ser تعني مؤلم.

17- فاغينباخ. فرانز كافكا. 78-88.

18- كافكا. المذكرات. 1910. 33.

19- هنري غوبارد “تراكيب اللغة الإنكليزية”. اللغات الحديثة _كانون الثاني 1972) (والألسنيات الاغترابية: تحليل رباعي tetraglossique) باريس: فلاماريون. 1976.

20- يصر ميشيل فوكو على أهمية التوزيع بين ما يمكن أن يقال في اللغة في لحظة معينة وما لا يمكن أن يقال (حتى لو أمكننا ذلك). جورج ديفروإكس (مرجع مذكور في ه. غودارد) حلل حالة الشاب الموهافي الهندي الذي يتكلم عن الجنس بسهولة فائقة بلغة محكية ولكنه غير قادر على ذلك بلغة التراكيب الإنكليزية. وهذا ليس لأن معلم اللغة الإنكليزية يفرض وظائف قمعية، ولكن لوجود مشكلة في اللغات (انظر: مقالات التحليل النفسي الإثني العام) باريس: غاليمار. 1970. 125-26.

21- عن حلقة براغ ودورها في الألسنيات، انظر “تبدل” عدد 3- (1969). وعدد 10 (1972). (من المؤكد أن حلقة براغ تشكلت في عام 1925. ولكن في عام 1920 حاء ياكوبسون إلى براغ وكانت هناك حركة شيكية يقودها ماثيوس. وقد ارتبط مع أنتون مارتي الذي يدرس حسب نظام الجامعات الألمانية. ومنذ 1902 وحتى 1905 تابع كافكا الحصص التي قدمها مارتي، تلميذ برينتانو، وشارك في اجتماعات بيرناتون).

22- عن ارتباط كافكا بلوي ومسرح الييديش، انظر: برود، فرانز كافكا. 110-16. وفاغينباخ، فرانز كافكا. 163-67. وفي مسرح الإيماءات هذا، ستجد العديد من الرؤوس المحنية والرؤوس المرفوعة.

23- مقدمة لكلام في لغة الييديش. ترجمة إرنست كيسر وإيثين ويلكينز في فرانز كافكا، الأب العزيز نيويورك: شوكين بوكس، 1954. 381-86.

24- سيعلن محرر مجلة أن لنثر كافكا “لمسة نظافة تجدها في طفل يعتني بنفسه” (انظر فاغينباخ، فرانز كافكا. 82).

25- “السباح العظيم” هي واحدة من أكثر نصوص كافكا شبها ببيكيت: “علي أن أعترف بصراحة أنني في بلدي، وأنه رغم كل جهودي، لا أفهم كلمة من اللغة التي أنت تتحدث بها”.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم