صحيفة المثقف

أ. س. بايات: عن رواية "الجرس" لآيريس مردوك

3271 Byatبقلم: أ. س. بايات

ترجمة: صالح الرزوق


 أتذكر أول مرة قرأت فيها “الجرس” بوضوح تام. حصل ذلك عام 1958. وكنت حينها طالبة جامعة شقية في أكسفورد، وأعمل على بحث حول المجاز الديني في القرن السابع عشر. ونويت أن أكتب رواية - كنت أكتبها - وخشيت أن لا تكون ناجحة، أو أن لا أستكمل هذه المحاولة. وقبل هذا التاريخ حينما كنت في كامبريدج قدم لي صديق سابق رواية “تحت الشبكة” لأنه اعتقد أنها من النوع المفضل عندي. وقد أعجبتني وشغلت تفكيري، ولكن لم أكن مرتاحة لها، وتشكل عندي قناعة أنني لا أفهم مغزاها تماما، ولا لماذا اختارت الأسلوب الذي هي عليه. بالمقابل غرقت في “الجرس” وانجذبت إليها وتعمقت بها، وغلبني شعور، لا شك فيه، أنه لا يجب على الروايات أن تكون مقروءة وجادة وعلى هذه الدرجة من الكمال والحسم. لقد بدلت رؤيتي حول مستقبل الرواية المكتوبة باللغة الإنكليزية. وفتحت أمامي السبل والمساحات. وكنت بحاجة سنوات طويلة لأجد الجواب على الأسئلة التي تبدأ بكيف ولماذا.

قرأت “الجرس” عدة مرات

بالنسبة لأول روايتين أوروبيتين كتبتهما مردوك هما “تحت الشبكة” و“الهروب من الساحر”. “تحت الشبكة” عمل إيرلندي فرنسي، ويدين شكل الرواية لريموند كوينو، وهو من أهدته الروائية كتابها، ولكن هناك جزء من المؤثرات تعود لمورفي الذي ظهر في بواكير أعمال صموئيل بيكيت. وهي في الحقيقة مشاحنة فلسفية تقريبا مع “الغثيان” لسارتر. وفي النهاية يمكن القول إنها عمل مدهش ومجدد.

أما ثالث رواية لمردوك وهي “قلعة الرمال” فلم يحالفها النجاح. ولم تتابع فيها بأسلوب واقعي مشاكل وشخصيات من “عموم الناس” - وتدخلت فيها عناصر من المجلات النسائية الرومنسية، مع لمسات غامضة. غير أن “الجرس” كانت محاولة أقوى خلقت بها علما مكثفا وحقيقيا يهتم بالمشاعر والسلوك وليس له علاقة بنمط أول روايتين. فقد كانتا أشبه برقصة نمطية. لا يمكن القول إن “الجرس” رواية أفكار. وكان أحد أهم اهتمامات مردوك هو “تشيؤ” العالم الأخلاقي والمادي المعقد الذي لا يمكن وصفه بسهولة. وهو ما يمكن تقديمه فنيا بطريقة أكثر تعقيدا وليس من خلال خطاب تحليلي. ومن الأفضل أن تقول إن “الجرس” رواية عن أشخاص لديهم أفكار، أشخاص يفكرون، أشخاص بدلت أفكارهم أسلوب حياتهم وكذلك اندفاعاتهم ومشاعرهم. (وهذا يتضمن دورا التي لا تتوقف عن التفكير إلا في وقت متأخر).

إنها رواية عن ما هو جيد، عن الحياة الطيبة، والسلطة، والخشونة، والدين. وهي أيضا مرحة وحزينة ومؤثرة. ذكرت مردوك في كتابها الناجح عن سارتر إنه “قليل الصبر، وهذا شيء قاتل للروائي الناجح، إذا تعلق الأمر بأشياء عن الحياة البشرية”. وكانت رغبتها في تكوين عالم يتقمص فيه الوعي ويتجسد في أشياء، مقتبسة بالظاهر من جورج إليوت، التي كتبت بلغة عاطفية عن الرغبة باختلاق صور، وليس مخططات، “كي تقتنع أن بعض الأفكار يمكن أن تكون ضمنية ومتقمصة”.

وإليوت، مثل مردوك، مثقفة أوروبية لديها شعور مباشر بالجسم البشري والمصادفات والعبث. وهما تشتركان باهتمام واحد يحده التعقيد الشكلي وتصميم العمل الفني من طرف، والحاجة لمنح الشخصيات والفضاء حريات واسعة من طرف آخر، كي تكون هذه الشخصيات أناسا عاديين، وليسوا تمثيلات لأفكار وطبقات. وربما اعتقدت مردوك أن إليوت فاشلة. وقد سألتني مرة: ما هي أعظم رواية إنكليزية باعتقادي. قلت: ميدل مارش. استغربت، ونظرت لي باستنكار، وقالت أخيرا: إنها افترضت إنه من الصعب تحديد الرواية الأهم بين أعمال ديكنز. لكن من المؤكد أنه أعظم روائي... لكن إليوت دأبت، بلغة إنكليزية، على ابتكار نمط أنيق من الاستعارة. وتؤمن مردوك أن الروائيين هم جوهريا وأولا حكواتيون، لكنهم يسقطون في مثل هذا الفخ. مثلا نيتشة نظر إلى محاورات أفلاطون على أنها أول شكل للرواية. ويوجد إحساس أن كل أعمال آيريس مردوك، تتضمن حواريات أفلاطونية، وفيها تتطور إشكالات معقدة عن طبيعة الحقيقة والخير والجمال.

خذ على سبيل المثال جيمس ومايكل فهما زعيمان من مجتمع تابع إلى مجمع الأديرة في إمبر، ويمثلان موقفين مختلفين من الأخلاق والحياة الروحية.  ينظر جيمس لها على أنها مجرد واجبات بسيطة، والتزام بالقوانين، وتطبيق عملي لمبدأ الخير. وينظر لها مايكل على أنها مجرد تخيل ورغبات رومنسية.

وكلاهما يقدم قضية مقنعة ضمن إطار احتفالي، وكلاهما يعتمد على جوانب متباينة من رمزية “الجرس” والذي يفترض تعليقه في مجمع الأديرة. ومايكل، مثل عدد آخر من معظم أبطال مردوك الذين يتمتعون بجاذبية، يعمل على تحويل غريزة الحياة إلى حب أرضي غير محدود ولاحقا إلى حكمة روحية. وفي مقالتها “الوجوديون والمتصوفة” (1970) تقارن مردوك البطل الوجودي - “القوي والمعتد بذاته” - بالبطل المتصوف - “رجل غاضب يحاول أن يعاقب أو يطلق أو يلغي نفسه”. “والوهم الأساسي في الشكل الأول هو الأنانية، وفي الشكل الثاني هو المازوشية”. كانت مردوك مفتونة بما تدعوه باستمرار “آلية” وصف فرويد للسلوك الإنساني، وهو ما عالجته باحترام يشوبه الشك. فهو يعرفنا كما تقول في “عن الله والخير” (1969) بـ “صورة واقعية ومفصلة على الإنسان الساقط، صورة ينظر من خلالها فرويد للطبيعة الإنسانية بتشاؤم. فهو يرى النفس جهازا مركزيا وعقلانيا يتعامل مع طاقة ميكانيكية، وغالبا يحددها تاريخها الفردي، والذي تكون ارتباطاته الطبيعية جنسية وغامضة ويصعب على الذات فهمها أو التحكم بها. والتمحيص يكشف عن النسيج العميق للدافع الغامض، ولذلك تصبح الفانتازيا قوة أعظم من العقل.  وعليه إن الموضوعية واللاأنانية ليستا من الصفات الطبيعية في الكائنات البشرية”.

في أماكن أخرى قالت إن وصف فرويد لطريقة عمل المازوشية تؤكد كيف أن الفانتازيا تنتج تقليدا أو محاكاة لإنكار النفس روحيا وبأعلى مستوى. وكان مايكل ميد يمثل أول دراسة مفصلة للمازوشية الروحية وما لها من آثار يصعب التنبؤ بها. فقد سرد على نفسه حكايات عن الحياة الروحية (الفانتازيا)، وتعلم من كبيرة الراهبات من وراء الماء درسا فهمه وأدركه عدد كبير من شخصيات مردوك، ومفاده أن الحياة الروحية الحقيقة ليس لها حكاية وهي غير تراجيدية.

رواية “الجرس” عن الدين والجنس، والعلاقة بين الطرفين. وواحدة من أعظم تجليات مردوك الروائية هو في قدرتها على توصيل الإلحاح الجنسي بكل عقده الحساسة والمهينة والمحيرة والمدفوعة* (ما يتم تحريضه واستثارته). والجنس جزء من شيئية العالم، وكذلك جزء من الآلة المخفية للنفس البشرية. تقول في “وجوديون ومتصوفة” إن “الفن” لا يمكن الإخلال بقيمته إن فهمنا أنه يتأسس على، وجزئيا يتضمن، الحفل البشري العادي والفوضى والصدفة والجنس. (مع أن الجنس يقدم أشكالا - فكرية عظيمة، وهو جماعي جوهريا: حتى الروليت ليست عشوائية مثله). ووصف الجنس في هذه الرواية، كما هو عند نك ومايكل وتوبي وبول ودورا، عبثي وفظيع معا، منضبط ولا يمكن التنبؤ به أبدا. وسيكون أفظع وأكثر تأثيرا لأنه يجري أمام مستودع القوة على الطرف الثاني من المياه، حيث النظام الصارم للراهبات والذي توجب على كاثرين أن تدخل إليه. وهو يعصف بقيم إنكار الذات. ويمكن لمردوك أن تكتب عن الجسم، والمذكر، والمؤنث، ومذاق ذلك وبنيته، رائحته ورطوبته، بطريقة لا يتصورها أحد غيرها. والحوار الأفلاطوني وهو عمود فقري للرواية كان عن الجنس، ولكن علاقة القارئ ستكون فورية وعاطفية.

والواقع المباشر في هذه الرواية يعتمد أيضا على علاقات مباشرة عاطفية - إنكليزية جدا - مثل البيت الريفي المتواضع، وغزارة الغطاء النباتي، ورائحة وتماسك البستان، الغابة، وماء البحيرة، بما تتضمنه من أعشاب ضارة وتيارات. وهو ما يمكن رؤيته أولا بعيون دورا، “من سكان البلدة العاديين، ويبدو لها الريف دائما غير حقيقي إلى حد ما، وفرط بالرفاهية، ومليء بالتماثيل وأخضر أكثر مما يجب”.

وإن كان المجتمع هو كوميديا اجتماعية ملحوظة (وروح) الرواية الإنكليزية التقليدية، إن الروائية كما أراها في “الجرس” هي على طراز هنري جيمس، حيث أن الريف دائما يفرض وضعا فردوسيا، مع أن واجهته الحالمة والأنيقة تخفي وراءها الشياطين. وهناك توازن سهل في هذه الرواية بين تنميط الفن الواعي ومباشرة الخبرات الخاصة. على سبيل المثال ضع بحسابك المجال الكامل للتجارب الموسيقية والغناء، ابتداء من شدو العصافير البسيط وحتى الجاز، ومن عزف باخ بتسجيلات الغراموفون لما تسميه مردوك (مثل جيمس في “الأمريكيون”) النقاء “الشرير” حتى ترانيم الراهبات. بيتر توبغلاس يحاكي شدو الطيور، وهناك غناء كاثرين لألحان “البجعة الفضية”، ودورا تقلد العصفور الأسود وهي تسترق السمع على الهاتف من لندن.

(قالت آيريس مردوك إن احترام كانت لغناء الطيور هو مثال على “الجمال الحر” - “غناء الطيور، والذي لا يمكن اختزاله لدور موسيقي، يبدو أنه يحتمل درجة أكبر من الحرية، ولذلك هو أقرب للتذوق، بالمقارنة مع الصوت البشري الذي يغني باتباع كل القواعد التي وضعها فن الموسيقا”).

هناك صوت الجرس ذاته، والذي تسببت دورا بانطلاقه. وكنت أعتقد أن للجرس نفسه وزنا كبيرا من وزن حبكة القصة، وإن اكتشافه وقدره يعوض بطريقة من الطرق الوظيفة الرمزية للواحد “الحقيقي” الذي يشغل دورا مركزيا في الحكاية. ولكن أعتقد الآن أننا جميعا كنا (ولا نزال) سطحيين جدا وبسطنا فكرة التعارض بين الواقعية والأسطورة - الفانتازية. وفي حالتي كان هذا على الأقل نتيجة لردة فعل متحمسة على المقالة المتألقة لآيريس مردوك والتي ظهرت عام 1961 بعنوان “ضد الجفاف”.

“ضد الجفاف” نقد مقنع وعميق لحالة الرواية في منتصف القرن العشرين. كانت مردوك تقتنع أن رواية القرن التاسع عشر، أفضل نوعيا وأقوى من رواية القرن العشرين، جزئيا لأسباب تاريخية وسياسية وهو ما تكلمت عنه مردوك بشيء من الحدة. كان من الممكن لأدباء من نوع تولستوي وإليوت، كما قالت، أن “يستعملوا صورة موسعة بشكل جوهري للفضائل المتعددة التي تحكم الإنسان والمجتمع”، وأن “تنظر للإنسان وخلفه القيم والوقائع التي تسمو به” بطريقة لم تعد ممكنة أو أنها اصبحت مستحيلة. وأكدت أن نجاح الليبرالية، ووصول دولة الرفاه، قد تخلت عن مبادرات سياسية وفكرت بالكائن البشري وكأنه “أفراد حقيقيون مختلفون يتصارعون داخل المجتمع”. وتضيف قائلة: بالنسبة لروائيي القرن التاسع عشر، وتقتبس ذلك من ماركس، كان من الممكن أن تنظر للشخصيات على أنها نماذج وأفراد بحالة اندماج. وكان الناس في ذلك العالم عبارة عن وسطاء أحرار جزئيا - وقد تفاعلوا مع عالم أخلاق معقدة وعليهم أن يتعلموا الكثير منه. بالمقابل إن الكتاب المحدثين فكروا بمصطلحات “الظرف البشري”، وصوروا الكائنات الإنسانية بشكل عام على أنها “عقلانية وحرة بالكامل”. أما الرواية في القرن العشرين، كما قالت بلغة مفهومة وواضحة ويمكن اقتباسها دون مصاعب، كانت “إما متبلورة أو صحفية”. الرواية المتبلورة كانت شيئا تاما وبسيطا مثل قصيدة، “مجازية”. أما الرواية الصحافية كانت “شيئا وثائقيا بلا شكل لحد كبير” وتخبرنا عن “قصة مباشرة ومستقيمة مسكونة بالحقائق التجريبية”.

وأي قارئ، وأي كاتب لديه طموح، يمكنه تمييز العدالة التقريبية وإمكانية تسلل هذه المواصفات للداخل.

ويمكن أيضا الاستجابة لعلاجها المقترح: أن نكون ضد أشكال التعزية والتهدئة، والعمل المتبلور النظيف، والأسطورة الفانتازية المبسطة، ولذلك يجب الآن دفن السلطات الهدامة فيما يتعلق بتجسيد أفكار طبيعانية وغير جذابة. واحترامها للروس - “أولئك المعلمون العظام الذي درسنا الصدفة على أيديهم” - وإحساسها بشيء مفقود ويضمحل، ردد صدى مشاعر وأفكار آنا وولف، البطلة الروائية في “الدفتر الذهبي” لدوريس ليسنغ، والذي ظهر أيضا عام 1961.

لقد أسفت وولف أيضا لأنها لم تكتب أبدا رواية “فلسفية” مثل تولستوي أو توماس مان. كانت وولف تشعر أيضا أن الرواية الواقعية أصبحت “نتاجا للصحافة”. وشك وولف في ميولها التحليل نفسية التي جعلتها تشعر أن الأحلام التي قدمت لنا موتيفات يونغ الأسطورية لم تفعل أي شيء لحل الفوضى البشرية التي تتخبط فيها، ويمكن أن نربط ذلك بإصرار مردوك على الاشتباه بالبساطة التي كانت تصنع بها وبسهولة أساطير - فنتازياها.

أما رواية “الأمير الأسود”، وتعتبر من الدرجة الثانية، فقد صاغت “مصلا مدهشا ومضطربا لمس بشيء من الضعف “حكايات عرقية” بمعونة من رمزية ليس لها وسيط ولم تحصل على الدعم الكامل”. وإن تأكيد مردوك أن قاموس مفرداتنا الأخلاقية فقير وناقص فيمكن ربطه بالتجارب الفظيعة المسموعة التي ترددت في “الدفتر الذهبي”، وفيها كانت مفكرات آنا السياسية، وفانتازيا أحلام يقظة صديقها الشيوعي، وقصاصات الصحف، هي مروية روائية ضمن رواية عادية عن عمد وتحرص على وصف الإحساس بالخسارة دون تقديم شكل متماسك. لقد أكدت ليسنغ، على غرار أنغوس ولسون ووليام غولدنغ ومردوك ذاتها، أن الرواية في ذلك العصر، بالرغم من الحرب المباشرة والمحرقة، عانت من مشكلة في تصور الشر الكامل. “قدرتنا على تصور الشر هو نتيجة صور سطحية ودراماتيكية، ورغم أنف هتلر، هي متفائلة ونتصور بها أنفسنا التي نعيش بها” (“ضد الجفاف”). ويبدو أن مردوك تريد أن تقول: لقد شاهدنا كل شيء، بسهولة مفرطة من داخل أنفسنا. وإحساسنا بالقيمة قد تعرض للشحن من خلال حكمنا على “إخلاصنا”. وبعبارة أخرى لا يمكن أن أنساها، وهو ما بدل طريقة نظري للأشياء.

كتبت تقول: “من أجل فكرة حقيقية صلبة استبدلنا فكرة الإخلاص السطحية”. وطبعا لا يمكن أن تكون لديك فكرة صلبة عن الحقيقة إن كان لديك إيمان ضعيف بقدرة البشر على استيعاب أو وصف العالم. ومن دواعي الاهتمام الشديد أن تكون الطرز والقيادات الثقافية الراهنة قد أدت بنا لمساءلة كل افتراضاتنا، ومساءلة قدرة اللغة على وصف العالم، والشك بقدراتنا على معرفة اللغة أو العالم أو كيف تنشأ العلاقة بينهما. وعلى ما أعتقد إن المياه الأرضية العميقة الراهنة التي تحرض اهتمامنا بالعلم، والتفكير العلمي، هي نتيجة حاجتنا لفكرة قاسية عن الحقيقة في جيلين لم يسيئا لفكرة مفادها أن المفهوم شيء له معنى. على الأقل الحقيقة التجريبية العلمية كانت تعمل في عالم ملموس وصلب. وهما تتعارضان مع التمحور حول الذات solipsism. تفوقت مردوك في فهم نقطة لم يدركها كل الآخرين الذين اطلعت عليهم. هذه النقطة هي إحساسنا بكياناتنا الأخلاقية، والميول والموانع التي رغبنا بها، أو لنقل اتفاقنا على البنية الدينية التي فقد مجتمعنا بشكل عام إيمانه بها.

“الجرس” هي أول رواية دينية لها بشكل مباشر. والرصيد الأخلاقي لمجتمع أمبير (كلمة مشتقة بالتأكيد من umber، umbra، ظلال أو خيالات) ترتكز على الحقيقة الروحية لبيت القوة المتضمن في مجمع الأديرة. كانت حياة جيمس تايبير بيس أبسط من حياة مايكل، لأنه مقتنع بكل من حقائق دينه والقواعد المشتقة منها والصادرة عنها. دين مايكل شخصاني، ولكن كانت دورا بلا دين، باستثناء نوايا غامضة ورؤية هامة جدا عن “واقعية” دور الفن في المتحف الوطني. وفي روايات تالية هناك سلسلة من الشخصيات، وهم رجال طيبون، يكافحون مثل مردوك نفسها، لاستنتاج فكرة طيبة (فكرة الخير) في عالم دون دين. وبنفس الوقت يفهون ببطء فقط وبصعوبة مقدار إحساسهم بالخير (تاريخيا وبأشكال مجتمعانية لا نزال نعيشها) وهو ما يشتقونه من دين لا يؤمنون به. (ماركوس في “عصر الملائكة”، روبيرت في “هزيمة مشرفة بحق”). “عصر الملائكة” مكتوبة في وقت انتشرت به فكرة “موت الله” على يد نيتشة وألتزير،فقد اعتدت بشكل غريب على الكنيسة حين أكدت أن الله انسحب، وهو غير معروف، وهو غائب عن ما خلقه. والعنوان يأتي من فكرة تقول: حينما انسحب الله تجزأ العالم لشظايا، وآخر تشكيل لأمبير في عالم الأديرة كان قد سبق مثل هذا الانفصال. “الأشخاص الحقيقيون يحطمون الأسطورة، ولكن الصدفة تحكم الفانتازيا وتفتح طريقا للخيال. فكر بالروس أسياد الصدفة. طبعا الكثير من الأحداث العارضة قد تحول الفن إلى صحافة. ولكن بما أن الواقع غير مكتمل على الفن أن يخشى من النقصان. وعلى الأدب باستمرار أن يمثل معركة بين الناس الحقيقيين والتصورات. وما نطلبه الآن هو مفهوم أقوى وأكثر تعقيدا من سابقه”. وهذه هي الفقرة الأخيرة من “ضد الجفاف”. وربما كانت تلك النقاط العلام قوية جدا وأيضا غامضة ومغوية.

ودائما كان نقاد آيريس مردوك يعيبون عليها أنها تقصر بحق “وصفاتها” الشخصية. فقد كتبت عن “العزاء في الأشكال” كما لو أن الأشكال العاجزة بذاتها وغير الـ “واقعية” تماما والتي لم تتشكل وتتصف بالقسوة، تتحلى بالمصداقية مع “ما هو ناقص”.

والحقيقة إن القارئ الدقيق والحساس الذي يتابع رواياتها، أو أي قارئ آخر، لا يشعر بمثل هذا التعارض الفظ والمباشر. وهناك مخاطر تجدها في صيغ مردوك القوية، ومفادها أن أفكارها يمكن أن ترتبط بأسطورة حديثة سائدة وهو ما يضر بالنقد والسرد معا - أسطورة أولوية “العشوائي”. الكثير من الروايات تهمل الحبكة والحكاية والقوام الشكلي، وتتابع بحكمة هذه الحساسية “الأصيلة” الخاصة بالعشوائي والنهايات المفتوحة.

لقد أسأنا فهم العمل الرائع لإيان ماك إيوان وهو “الحب الأبدي” ولم يعدل معه لا الصحافة ولا قضاة البوكر، لأنه على ما يبدو كان “متحذلقا” وكتب حبكة مسبقة وكان يعاني، في الشكل الذي اختاره، من اختناقات وضيق - مع أنه اهتم بنوع من أنواع الجنون الذي يهتم بالقدر والأهداف الدينية والجنسية غير الموجودة. وبالتالي التي يتوجب عليه اختراعها. لقد عثر على الشكل الملائم للطبيعة المنقادة التي تتمثل بموضوعه. وأعتقد، دون أن أمتنع عن الاهتمام بنداء آيريس للعناية بالشخصيات والصدفة، أنه علينا الإعجاب بتنوع أشكال رواياتها، ومن ضمنها التي سبق تصميمها.

لو نظر أحدنا إلى أي رواية، بمجهر روائية تعرف عملها، ابتداء من الحرب والسلم حتى مالون يموت، ومن الأخوان حتى القلعة، نلاحظ وجود تركيز على أشياء دقيقة مثل مكونات الوصف، عدد الاستعارات، عدد الشخصيات في المشهد، أو في الفصل، أو في كل العمل. ومعها نلاحظ  تحولا سرديا، وأشياء يمكن الإشارة لها لكن تم حذفها، وها يقدم صورة معقدة بالمقارنة مع أي مقارنة بسيطة بين الواقعي والأسطوري، والفانتازي، أو المنبط والمتحكم به رسميا.

وهناك انطباع عام، وهو ليس غير دقيق، عن “عالم” روايات مردوك، أنه يقدم حوارا متسرعا وعاصفا، ومناقشات للأفكار الأخلاقية (أحيانا باستعمال حروف مائلة للتأكيد)، ومشاكل غير متوقعة عن آلات أو لحظة غرق وشيك، وكلاب، ومخلوقات أخرى هي جزء من بنية العاطفة، وحوادث ضاربة، وألغاز...وألوان مؤثرة براقة، وغرف محددة وأشياء هامة، وزجاجات حليب أو أعمال فنية. ولكنها تقنيا تختلف بطريقة أعمق مما نتوهم وهي ليست كما يبدو سهلة في التعرف عليها.

ولا يجب أن ننسى أول عنصرين، الفانتازيا الدينية بإطار إيرلندي قوطي وأفلاطوني في رواية “حصان وحيد القرن”، والخرافة النتشوية في “عصر الملائكة”، حيث الطبيعة الرمزية للعالم تبني حكاية مدهشة، ومع ذلك، يكون الناس فيها كائنات فانية، وليسوا وهما.

هناك عدة أنواع من الواقعية - في “الرأس المقطوع” تدمج رقصة في صالة للرسم على نمط وايلد أو شو مع خيوط أنثروبولوجية ماكرة تبطنها، بينما في “وردة غير رسمية” وفي “الرائع والجيد” تصنع فضاء رحبا في طريقة سردها، وهو فضاء “إنكليزي” مثل جين أوستن إذا تقاطع مع مارغري ألينغهام.

هناك فروقات، يمكن متابعتها بأدوات مهنية شيقة، جملة بعد جملة، وهي فروقات بين روايات يتحكم بها سارد عليم - مذكر - كما هو حال “الرأس المقطوع”، و“ابن الكلمة”، و“الأمير الأسود” - وروايات عادية، حيث أن أصوات السارد تنظر للعالم الروائي من خلال وعي متعدد، مثلا رواية “الجرس” عاشت في عقول مايكل ودورا وتوبي، ولكن لم تنظر في عقل بول أو نك أو كاثرين، الذين، وسأستعمل كلمة أستعيرها من مردوك، استمروا “بلا شفافية”.

واحد من دروس مردوك هو صعوبة وضرورة تخيل الناس الآخرين، مع وجود مراكز للوعي الحقيقي مثلنا، ولكن مختلفة عنا. هذا الدرس المستمر يتمثل دراميا بشكل مختلف من خلال عيون السارد الأول الذي يفشل بفهم الدرس، فهو يراه من خلال صور بشرية فضفاضة. وهناك فروقات، في الحكاية التي يمكن سردها، وفي مهنة تشكيل الشخصيات، بين كتاب يتحرك فيه ثلاثة شخوص، وكتاب أبطاله خمس عشرة أو عشرون شخصية.

عليك أن تكتفي بذكر ما هو أقل لو عندك ما هو أكثر - المهارة تكون في الإشارة والتفاصيل. المشهد الواسع، والتكرار وفروقات السلوك، ضرورية لكل من عالم مردوك الأخلاقي ولشكلها الواقعي بنسخه المتعددة. وقد قالت مرارا إنها تحب أن تتخيل نفسها تعيد سرد قصصها من وجهة نظر شخصياتها الهامشية، وهذه مسألة نقدرها لها - ولا سيما إذا فكر الإنسان كيف أن عددا محدودا من الكلمات، وكيف أن فقرات محدودة العدد، تكفي لصياغة الشخصيات الهامشية وإضافتها للمشهد - وهذا يعني أنه من الممكن أن نتخيل كيف يمكن الانتهاء من ذلك وإنجازه. حتى السيدة مارك، في “الجرس”، وهي نموذج واضح وطيب لشخص معطاء غير مستعد لتقديم الهبات، وله تاريخ شخصي، ومتزوج، وغامض.

وكلما قويت شوكة مردوك وجرأتها، كانت تنتقل بإحساس واحد لمسافة أبعد، من عالم “ممكن” تحكمه واقعية تقليدية، إلى عالم لعوب، يحكمه الحظ، ورقصة النوع البشري. وكانت تقول: الفن “حكايات عن مغامرات” وكانت تتخلى عن شكها البيوريتاني بالمدهش، لأنها أدركت كيف أن الحقائق الإنسانية متضمنة في أنماط غير حقيقية من الكوميديا والرومنسيات الشكسبيرية، وكذلك في تراجيديات من النوع الشكسبيري.

واعتادت أن تعلن أن الرواية هي شكل ساخر - فالتراجيديا يمكن فهمها جماعيا بالدراما، ولكن عالم الرواية الخاص هو شكل مختلط، شكل ناقص لم يكتمل.

يمكنها أن تقول لي ببهجة إنها رأت أنه بمقدورك أن تضع أي شيء وكل الأشياء في رواية ما، ولا يحد من طموحاتك غير طول العمل وعدد الصفحات. ويمكن القول إن وحوشها المتأخرين الكبار انهزموا بسبب طموحاتهم هذه ونتيجة مشكلة الطول.  ولكن ما بعد الحداثة أعادت اكتشاف بهجة سرد الحكاية وأيضا إحساس مردوك أن أي شيء يزول لو كانت الأمور على ما يرام. لقد خلقت شخصيات مدهشة، ولكن على وجه الإجمال الشخصيات التي هي ذوات أو هويات أو أرواح لا تكون جذابة، ولا تستأثر باهتمام ذاتها ولا قرائها. و“فكرة الشخصية الطبيعانية غير الجذابة الآن” لا تزال غير جذابة، ولكن ليس بنفس الطريقة ولا لنفس الأسباب (مركز الاهتمام في مجال آخر. وذلك موضوع مختلف).

إن إعادة قراءة “الجرس”، أو روايات أقسى بأخلاقياتها مثل “هزيمة مشرفة”، لم يغير من إحساسي الأصلي تجاه الناس واختياراتهم المحرجة، سواء كانت سخيفة أو فظيعة، فإحساسي هو طبيعي وغير مشروع بنفس الوقت. اعتادت آيريس أن تقول إن “الجرس” رواية “محظوظة”، بمعنى أن كل شيء فيها مترابط، ولعب دوره. هناك انسجام وتوازن والأفكار قوية وتقمصية في آن واحد. وفي النهاية بقي مايكل تحت شعور محدد: أن جمع المصلين موجود، وهو موجود بقربه. وهذا “لا يعزينا، ولا يرفع من معنوياتنا، ولكنه بطريقة من الطرق حقيقي”. وهو شيء تديني، في عالم “يحكمه إله لكن أنا لا أعتقد به”. وهذا ضمن وخارج نمط شكل الرواية. وهناك أشياء لا يمكن للروايات أن تتضمنها. ولكن بوسعها الإشارة لها. من ناحية من النواحي هذه الرواية هي بشكل جوهري لم تكتمل، كما أعلنت كاتبتها في بعض المناسبات.

 

......................

* ملاحظة من المترجم:

1- ظهر اسم الكاتبة “آيريس مردوخ” في سلسلة ترجمات نشرتها دار الآداب لفؤاد كامل. ومع أن ترجمته لا يرقى لها الشك لكن فضلت أن ألفظ اسمها “آيريس مردوك” كما تلفظه البرامج الثقافية في قناة BBC.

2- ليس لآيريس مردوك أي خطة وجودية لحبكة رواياتها. إلا إذا اعتبرنا تجارب الأفراد مع الواقع وإدراك علاقة الإنسان بالبيئة التي حوله اتجاها وجوديا. حتى أن رواية “الجرس”، وترجمها عفيف دمشقية بعنوان “الأجراس”، لا تهتم بقضايا الوجود، ولكن بمشاكل التعليم الديني في بيئة معزولة ومغلقة. في حين أنها في رواية “حلم برونو” تتابع أفكار كهل مريض يحتضر، ثم تقيّم خلاصة تجربته مع غرامياته السابقة، وتعاليه عليها، والإنطواء على الذات، والاهتمام بأسرار الطبيعة. وعموما برأيي لم يكتب أي فيلسوف وجودي رواية وجودية. وكانت النظرية تذهب باتجاه والعمل الفني يذهب باتجاه مغاير.ويمكن بسهولة أن تجد هذه التعارضات إن قارنت “الوجود والعدم” لسارتر مع روايته المعروفة “دروب الحرية”. فهي تتعامل مع الإلتزام على أنه موقف للعاطفة الواعية، وليس تعبيرا عن إرادة مطلقة بالتحرر.

 * أ. س. بايات A. S. Byatt: روائية وقاصة. حازت على البوكر عن روايتها “امتلاك”. ومن أهم أعمالها “حكاية كاتب السيرة” و“المرأة التي تصفر”، و“سكر وقصص أخرى”، وقصص ماتيس”، و“الجني في عين الطير المغرد” وغيرها...

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم