قراءات نقدية

حسني التهامي: شعرية الهايكو في ديوان "وثالثهما الريح" للهايجن "لبنى منان"

يحتوى ديوان "وثالثهما الريح" على بعض خصائص الهايكو المتعارف عليها كالمشهدية الحسية والاختزال والموسمية والتنحي وغيرها من سمات الهايكو، بيد أن بعض النصوص أحيانا تجنح إلى الأنسنة واستخدام اللغة المجازية والخيال مما يجعلها قصائد سنريو. إن توفر تلك الخصائص في نصوص الهايجن لبنى منان ووجود بنية متماسكة نتيجة تجاور المشاهد المستقاة من عناصر الطبيعة في أغلب الأحيان وصياغة تلك النصوص بلغة بسيطة يعكس وعي الهايجن باشتراطات هذا الفن الجديد على الساحة الشعرية العربية. في ذات الآن هناك محاولات في بعض النصوص تحاول الهايكست من خلالها التفلت من تلك الاشتراطات لتبقي بذلك على روح الهايكو، وهذا التجريب، لا شك، هو مسعى كثير من المبدعين لوضع بصمة إبداعية خاصة ومختلفة، بعد فهم أسس واشتراطات هذا الفن الوافد الجديد.

1- الاختزال والبساطة:

تعد قصيدة الهايكو أقصر نص كتب في تاريخ الأدب العالمي، فهي نص لا يزيد أمده عن "النفس الواحد". في اليابانية كان يتكون الهايكو من سبعة عشر مقطعا صوتيا، وفي الإنجليزية أحيانا لا يزيد عن عشرة مقاطع، أما في العربية فأحيانا يختزل النص إلى ست كلمات. تحدث ما لا تفعله النصوص الطويلة، مؤخرا تخلى الكثير من شعراء اليابان عن هذا التقليد والذي اعتبره "كواهيجاشي هيكيجودو" Kawahigashi) Hekigodo1873-1937 (، أحد تلاميذ "ماسوكا شيكي"، الشاعر والناقد الحداثي، هذا التقليد " قيودا من صنع الإنسان" واضاف قائلا : "إن أي محاولة اعتباطية لصياغة قصيدة تحتوي على نمط (5-7-5) ستنال من نضارة الانطباع وتقتل حيوية اللغة". إن الغاية من كتابة هايكو بأقل عدد من الكلمات، خال من الحشو والصنعة، أن تقدم تجربة فنية تتسم بالبساطة والعمق وفي نفس الوقت تتماشى مع روح العصر المتشابك والمتسارع الأحداث . تؤكد هذا الرأي مقولة د. بشرى البستاني، الشاعرة والناقدة العراقية "فليس ثمة حيزٌ لفعلٍ غير شعري لشدة الإيجاز اللغوي واقتصاده، وذلك يوجب على الشاعر الاختيار الدقيق لكل مفردة، وكل حرف والانتباه لمحوري الاختيار والتأليف معا انتباها بالغ الدقة ليكون المشهد المكثف التقاطة سريعة مكتنزة بفتنة البساطة"، على هذا الأساس فإن كل لفظة زائدة في النص تعمل على إفساد عنصر البساطة الذي يعد جوهر الهايكو. تقول لبنى منان:

مآرب أخرى،

عصا الراعي كثيرا ما

تهش على الفراغ

يتسم النص هنا بالإيجاز والتكثيف الشديد، بحيث لا يتجاوز التسع كلمات. وقد يعتقد القارئ للوهلة الأولى أن الشاعرة اعتمدت على التناص من الآية الكريمة "قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى " سورة طه الآية18، لتشكيل لوحتها. وربما يبدو هذا صحيحا، لكن الشاعرة استطاعت أن تستفز ذهن القارئ بإحداث فجوة توتر ناتجة عن إقحام مكونات غير متجانسة للأشياء و حدوث اللامتوقع (الهش على الفراغ وليس أغنام الراعي). ولو أن الشاعرة اختزلت نصها أكثر بحذف عبارة " كثيرا ما " التي جعلت حدث النص مطلقا لا يعبر عن لحظة آنية، لزادت من بهاء النص ولأصبح أكثر عمقا:

نسمةٌ باردةٌ

يُغني الجندب

بكلِ قواه

"كوباياشي إيسا"

2- المشهدية الحسية:

لا تسم خاصيتا الاختزال والبساطة قصيدة الهايكو فقط؛ فغالبا ما تشتمل الومضة والتوقيعة وغيرهما من الأشكال القصيرة الأخرى على عدد قليل من الكلمات مع بساطة لغتها. وكثير من الكتاب الذين لم يتقنوا خصائص فن الهايكو يقعون في شرك الومضة حين تفتقد كتاباتهم إلى بعض العناصر المهمة غير خاصيتي الاختزال والبساطة، كالمشهدية الحسية التي تبتعد عن التجريد والصور الخيالية، والتي أيضا تعد الخيط الفاصل بين إبداع الهايكو وغيره من الأشكال المختزلة الأخرى.

في ديوان "ثالثهما الريح" تقتنص الهايجن لبنى منان جُلَّ مشاهد نصوصها من الطبيعة ومن تفاصيل البهاء الكوني الفاتن؛ لذا نجد الكلمات الموسمية تسهم بشكل أساسي في تشكيل جزئيات الصورة. هذا الملمح الكلاسيكي المتمثل في تناول الطبيعة وتفاصيلها - والذي بدأه شعراء الزن الأوائل - يعكس ليس فقط الافتتان بسحر الطبيعة لكن أيضا أهمية هذا العالم الطبيعي كعنصر وجودي لا غنى عنه في حياة الهايجن:

حوض جيرانيوم،

قليلا منك يا مطر

لأحيا

يتكون هذا النص الشفيف من مشهدين متجاورين (تريوازة متجانسة البنية)، مأخوذين من العالم الطبيعي. يحدث هذا التجاور المفارقة التي تعد أساسا مهما للعمل الإبداعي ومصدرا تنبثق من خلاله شرارة الدهشة. يتضح هذا جليا في نهاية السطر الثاني؛ فمن الطبيعي أن تستجدي الهايجن القليل من المطر لأصيص الجيرانيوم كي يرتوي ويزهر، فإذا بهذا المطر المرتقب يُحيي روح الشاعرة التي سئمت وجودها وعالمها المادي البائس. ولربما ارتواء هذه النبتة التي شرفت على الذبول هو سقيا الروح المتماهية مع العالم الطبيعي الذي لا وجود إلا به:

دوْريُّ النّافذة،

بِرَفِيفِه

يُعيدُ تشْكيل الهَباءِ.

"سامح درويش – المغرب"

3- الآنية:

يصور نص الهايكو مشهدا من الطبيعة أو من جزئيات المحيط البيئي في لحظة آنية عابرة، وهذه اللحظة، من الطبيعي، أن تكون مسبوقة بحدث ومتبوعة بآخر. لكن الهايجن وقت التقاط المشهد يقع تحت تأثير لحظة آنية متشظية، فينقلها بشكل عفوي كما هي. تلك اللقطة التي يتم اقتناصها تمثل عقدة خيط ممتد من عبق الماضي ومستشرفٍ لأحداث مستقبلية، لذا فهي حدث عابر يستوقف الهايجن ويسترعي انتباهه في لحظة محمومة بالتوهج والدهشة. تعكس هذه الالتقاطة ومدى تفجرها وتوهجها خبرة الهايجن وعمقَ تجربتِه الإبداعية. تقول الهايجن لبنى منان:

قاب زهرتين

فراشة بكامل خفتها

تحط الرحال

في هذا النص تصور الهايجن لحظة آنية عابرة؛ حيث تحط الفراشة رحالها بخفة ودعة قاب زهرتين، ربما تكرر هذا المشهد أكثر من مرة في عمر الفراشة التي تحلق هنا وهناك بين الأزهر، وحتما ستقوم الفراشة بنفس الحدث أو بفعل أشياء أخرى بين الزهور طالما أنها طليقة في هذا العالم الجمالي الفسيح، بيد أن الشاعرة لحظة وقعت عيناها على الفراشة كانت تلك الحشرة الفاتنة تحط بخفة على الزهرتين:

الفراشة تعطر

أجنحتها، بعطر

نبتة.

"ماتسو باشو"

4- التنحي:

في الهايكو الخالص، أي هايكو الطبيعة، والذي فيه يترك الهايجن الطبيعة تتحدث عن ذاتها دون إقحام الذات أوالتغني بالمشاعر الإنسانية بشكل مباشر. تذوب ذات الهايجن في مشاهد الكون الآسرة بغية الكشف عن الأسرار الدفينة للأشياء والوصول إلى كنهها، وهذا البحث الدائم في أسرار الكون بتفاصيله اللامتناهية والذوبان في بهائه محاولة للوصول إلى الكمال الروحي في لحظة تأملية من الصفاء الذهني. في "وثالثهما الريح" تقول لبنى منان:

وجه بحيرة،

عصفور الدوري

وحيد مرتين

ليس هناك ملمح للذات الإنسانية في النص، فقط مشهدان متجاوران مأخوذان من عنصر واحد وهو الطبيعة: "وجه البحيرة" في السطر الأول، ثم تتبعه الهايجن بحدث أيضا يقوم بفعله كائن طبيعي "عصفور الدوري" الذي يبدو وحيدا للمرة الثانية. مع ذلك، لا يمكن محو ذات الشاعر أو إبعادها عن مسرح الحدث؛ فلولا إحساس الهايكست بالوحدة والغربة، لما تعاطفت مع هذا الطائر الوحيد؛ إنها حالة التماهي والانصهار بين الذات الشاعرة والكائنات المحيطة بها:

متوسدا ورقة عريضة

من شجرة الموز،

يتشبث الضفدع.

"كيكاكو"

***

حسني التهامي - مصر

في المثقف اليوم