صحيفة المثقف

"تلحيم المنقسم" في شعر سلمى بلحاج مبروك (2)

الرئيسي في شعر سلمى بلحاج مبروك هو مبدأ تلحيم المنقسم أو توحيد المنفصل. وإني لا أرى في علة المظهر الذي أخذه في هذه القصيدة ما يخالف علة تسريع الزمن في قصيدتها السابقة ( شقائق القمر). إذا تم تعيين السهر في هذا الليل، الذي يعج بالشعر والجمال السابح في فلك الخاطر بحثا عن الذات المستعدة لتقمصه لكي يصبح جسدا بروح بعد أن كان في عالم الأرواح بلا أجساد، فيبدو أن نفي هذا السحر  يستدعي نفي التعيين عن السهر مثلا بالنظر إلى التفاعل العميق الجوهري المحكوم بمبدأ تلحيم المنقسم. المخاطب يكفي أن يرتق ثوب السهر بعد أن مشط  عشب السحاب لأنه متشظي الماهية مقحم الحضور في كل أصقاع وتفاصيل الوجود. بيد أن حضوره، المؤثث بحضور الشاعرة الطافح كيله داخل القصيدة، قد جعل انسيابيته تتحدد بانسيابية الخيال الفني لدى الشاعرة. فكل ما توصل إليه خيالها الشعري يمكن أن يحتضن شظية من حضور المخاطب. بعد ذلك يجهض بريق الليل السرمدي فإذا بهذا الليل امتداد لثوب السهر الذي تم رتقه توافقا وتماشيا وتناغما مع إشكالية الحضور والتفاعل العاطفي  الموجه إلى المخاطب الذي مشط عشب السحاب ورتق ثوب السهر. وكأن الكائن الذي صاره في نفسية الشاعرة قد قام بهذه الحركات الهندامية مساهمة في خلق مزيد من الأرق لدى الشاعرة. النجوم عيون جاحظة دامعة لكن ما  ينسكب من مآقها ليس دموعا بل مناكب الظلمة. وإذا كانت الدمعة في العين تشوش الرؤية فإن الظلمة ضد الضوء عموما وليس النجوم فحسب.

"وافترقنا عند نقطة التقاء

وجه الثريا كان بدرا مستديرا

يقلب سره الحافي

الشراع

في هذه الكثبان من وهج العذاب

افترق اللقاء

غرقت صحراؤنا

توارت الذكرى كمارد يتسكع

في سحب متورمة بالضجر"

ينفجر هذا الجانب الدامس من الكون انفجارا شعريا فإذا الكثبان منفصلة عن الصحراء وإذا الصحراء غارقة بما تتضمنه من الإيحاءات المعكوسة. فبدل أن يغرق فيها الغارق الحي غرقت في إحساسه تماما كما افترق اللقاء بدل المفترقين قبل ذلك. عبر تناسخ الأرواح الشامل تتوارى الذكرى كمارد (بيولوجي) ولكن أين يتسكع؟ في سحب متورمة بالضجر. فها هو الضجر ينطبق على السحب بدل انطباقه على الشاعرة، وها هي الصحراء تغرق في بحر إحساسها بدل أن تغرق هي أو مخاطبها. كل هذا يدل على تبادل الأدوار الانفجارية بين الأحياء والجماد وبين المجردات والمعينات. ومن هنا يأتي تلحيم المنقسم، أي إذا كان المخاطب قد انفجر حضوره وتشظى عبر أصقاع وتفاصيل الكون كما رأينا أعلاه فإن الصحراء قد انفجر مفهومها بحيث أصبحت الكثبان تشكل شظية مفهومية بعيدة عما تبقى من المفهوم العام للصحراء وقس على ذلك في شأن تلحيم بين منقسم الفعل والفاعل الكامن في اكتفاء الشاعرة بإسناد فعل الافتراق إلى اللقاء عوض الملتقين ! فهذا يعني أنها وحدت بين الفعل والفاعل تماما كما وحدت بين الانفجار والتشظي الذي يطال المخاطب وبين الجماد وغيره مثل الصحراء الخ. ولا ننسى أن إسناد فعل الغرق إلى الصحراء يعتبر توحيدا بينها وبين الحي الغريق. وهذا ما أعنيه بتلحيم المنقسم. بعد ذلك تعود الشاعرة إلى محطتها النفسية لحظة استراحة وتقول:

 "اقترفنا اللقاء…

اقترفنا الفراق"

بهذا تعود الألفاظ إلى وضعيتها الطبيعية، وفق المد الفني وجزره، لتعود الشاعرة أيضا إلى وضعيتها الطبيعية وإذا بالمقولات تأخذ قسطا من الراحة كما تأخذ الشاعرة قسطا من الهدوء قبل استئنافها رحلة الغرق في عباب تلك اللحظة الشاعرية الضاجة بأكثر ما للطيف من ألوان وما للأجرام من أشكال هندسية فتقول معبرة عما انتهى إليه تفاعلها مع الأرق الناجم عن مناجاتها الأحادية للمخاطب الغارق في الغياب كما غرقت في الحضور أمام محكمة الليل الموقرة قائلة:

"أيها المدثر بالصقيع

يا من تخثرت في عروقه السماء

وغرف من صبابة الأحلام

لآلئ النور المغرد في المساء"

آخذ هذا المقطع برفق وأنا أحس بالخوف من أن يتسرب شيء من بين يدي فيضيع مني كما يضيع الماء بين كفين. كيف تخثرت السماء في عروق إنسان وهي سماء؟ إنه تعبير عن غزارة ما تلقاه المخاطب من الصقيع (البرودة). ومن المعلوم أن الصقيع يأتي من السماء، فإذا كثر بحيث أدى إلى تخثر أو تجمد العروق أصبح المصقوع وكأنه قد تلقى كل ما تنطوي عليه السماء من الصقيع. من هنا تكون السماء كناية عن كل الصقيع. الشاعرة سلمى متعِبة الفن الشعري. مرهِقة الحس الإبداعي. لا تكاد تلتقط أنفاسك من تسلق هملاياها وتلالها وتحدي حافاتها حتى تجد نفسك أمام أشد جبال انزياحها شهاقة ووعرة وخلابة. وهكذا تستمر في آهاتك إلى أن يغشى عليك في إحدى مصبات الشلالات الانزياحية الجمالية. ما إن تحاول الإمساك بلآلئ النور هذه، التي اغترفها المخاطب من صبابة الحلم، حتى تغرد بين يديك وتصبح طيورا يمكن أن تطير وتضيع منك في أية لحظة تهاون قرائي. وعندما نتساءل من أين استلهمت الشاعرة تغريدات اللآلئ؟ نجد أن الأمر يتعلق بالنجوم التي يشبه اصطفافها في السماء اصطفاف الطيور !! والأجمل من ذلك أن فعل التغريد مسند إلى النور وليس إلى النجوم. فالنور واحد حتى وإن كانت النجوم متعددة. وما دامت النجوم مضمرة فقط في اللآليء  و مستوحاة من السماء، التي هي أيضا جاءت كناية عن الصقيع، كان من المناسب أن تكون النجوم بعيدة عن مستوى الإشارة الصريحة إلى الطيور بأخذ التعدد بعين الاعتبار. هذا هو الانفجار الذي لا يمكن فهمه ما لم نفترضه شظايا في انتظار جمعها وتوحيد منفصلها. فعندما ندرك بأن الكثبان قد انفصلت عن الصحراء وأن اللقاء قد انفصل عن الملتقين، (وهو ما يعني تحليلا بأن الصحراء قد توحدت مع الإنسان داخل القصيدة في سديم المخيول كما أن اللقاء قد توحد مع هذا الإنسان بالنيابة الفعلية الموكولة إليه ) نكون مستعدين لمزيد من تلقي الشظايا وبالتالي نعرف أين نضهعا على سبيل إعادتها إلى مكانها الطبيعي وقد أخذنا منها رسالة الشاعرة. إذا كان الأمر كذلك فلا عجب أن نجد التغريدات قد انفصلت عما يحيل عليه التعدد النجومي من الطيور بالإضافة إلى غياب ذكر النجوم (بل تمت عن طريق استعارة من خلال قولها لآلئ النور). 

"يا من تغطت بعريه الأيام

وتنطعت فوق حاجبيه

غزارة الإبتداء…

غزارة الإنتهاء…"

الأيام تعج بصور المخاطب كما ولدته أمه. لا شريك له في القصيدة. تغطت الأيام بهذه الصور بحيث لم يعد هنا مجال لرؤية من تحويه تلك الأيام في طيتها من الأشياء سوى الشخص الموضوع. وإذا كانت هذه الأيام قد تغطت بصوره( عريه) فإن هذا الأخير بالعكس لم يعد هناك ما يحجب منه شيئا عن الذات الشاعرة نتيجة التعلق الوجداني به. وفوق حاجبيه ترتسم نقطة التقاء طرفي الدائرة التي تسبح فيها الأشياء معيدة نفسها ومكررة طبيعتها دون أن يتغير شيء من شأنه أن يفضي إلى تطور ما في جدوى التعلق الذي لم يفلح إلا في أن يتحول إلى الأرق. من هنا تنطلق البداية إلى أن يتعب المبتدئ فيرتطم بالنهاية التي ما هي إلا نقطة البداية من الصفر. وهكذا تكون هذه السلمى متقنة للكتابة حول اللاجدوى الذي لا فرق بين يمينه ويساره ولا تباين بين شرقه وغربه. ننتقل إلى قصيدتها بعنوان "غزة ...يا عروسة السماء"(3) حيث تقول:

"وضعوا على جبينك المكلل

بروائح الأنبياء والشهداء

جماجم الليل

حفروا في مائك المقدس

كل أصناف مؤامرات عمى الألوان

نفثوا عواء الظلمة

في مدينة الشفق الخرافي

ذات أصيل مكفهر الوجه

بزغت ظلمة شمس عابسة

انتشر ضوء ظلامها

في هشيم الصمت"

وتسير على نفس الإيقاع لبعض السطور قبل أن تدخل إيقاعا آخر كما سيأتي الحديث عنه لاحقا.  في هذا المقطع نجد الشاعرة تعبر عن حضور غزة في الزمن الراهن بآلامها وعذاباتها القائمة المشتعلة. وبالتالي فهي تصوغ هذه الآلام وتلك العذابات بصيغة تشاؤمية تكتفي بوصف ما حدث بلا حول ولا قوة. ولكن هذه القصيدة، كغيرها مما قرأت من شعر سلمى، خاضعة لمبدأ التأرجح القائم بين النقيضين والمتمثل هنا في تأرجحها بين الصيغة التشاؤمية لوضعية غزة المزرية والصيغة التفاؤلية التي تأتي بعد ذلك مباشرة. وهذا ما أشرت إليه بالإيقاع الآخر. لتوضيح هذه النقطة نأخذ مثالا من المقطع الموالي حيث تقول:

"يا غزة

يا مدينة بحجم اللامتناهي

ترقد

في حضن الله بسلام

رصيدها البنكي

دماء طرية بيضاء

تهطل من الأرض على السماء"

من الواضح أن الحديث هنا عن غزة قد أخذ صيغة تفاؤلية تقع في مقابل المقطع السابق. وعندما نعمق التحليل أكثر نجد أن التصوير يقوم هنا على قلب طوبوغرافي لما يربط الأرض بالسماء. فعندما تقول الشاعرة، في البيت الأول، الذي يتشكل منه العنوان،"غزة يا عروسة السماء" فهي تصور الوضعية السياسية التاريخية المقلوبة التي أفرزت كل هذا الخراب والتخريب. لاحظ أنها عندما تتحدث عن غزة باعتبارها عروس السماء تبدو كأنها جعلت السماء مكان الأرض. وبالتالي تكون الأرض فوق السماء. إذا تسألنا لماذا تقع الأرض، في هذا التصوير الفني، فوق السماء؟ يأتي الجواب أن الأرض تعبر عن وضعية (أرضية) البديل المتمنى والمتطلع إليه من خلال النص. ولهذا فإن الأرض (الوضعية) المرجوة أصبحت مكان السماء وأن الأرض (الوضعية المستعاذ بالله منها) موجودة بشكل مضمر في السماء التي أصبحت غزة عروسا لها (فيها). لهذا كان من طبيعة الفنية، المخضوع لنسجها في النص، أن تتهاطل الدماء  من الأرض على السماء وليس العكس ! لقد أعطتنا الشاعرة، من خلال هذا المقطع، لمحة حول حالتها النفسية وحضورها الوجداني في زمن التشكل الشعري الوارد في هذه القصيدة. وها هي تتحدث عن هطول الدماء من الأرض (البديل المضمر التطلع إلى نيله) على السماء التي أصبحت سماء سفلى. والتي ما هي إلا الأرضية التاريخية السياسية التي يتعذب فيها أبناء غزة. ومن أجل تحقيق دقة التمييز بين العناصر المقدر انتماؤها إلى الأرض، التي أصبحت مكان السماء وفق المبدأ الذي أشرت إليه، كان على الدماء ألا تكون حمراء من أجل تحقيق مبدأ تحول الأضداد المتمثل هنا في اللون الوارد. فإذا كان اللون الأحمر يعبر عن الموت فإن اللون المقابل هو الأبيض. ولهذا نرى هناك تحولا تم تحقيقه، في هذه الجزئية، وفق ما يمكن تسميته الاستصحاب، أي أن التحول الطوبوغرافي للأرض إلى السماء قد أنتج تحولا لا يقل تضادا في لون الدماء. وإذا كان تحول الأرض، المتهاطل منها الدماء، إلى السماء تعبيرا عن الوضعية المرجوة والبديل المتطلع إلى تحصيله من خلال القصيدة، يعبر عن استغلال المبدأ الطوبوغرافي لتصوير الأرض (الوضعية) المرجوة في الأعلى والأرض المستعاذ بالله من شرها المستطير في الأسفل، فإن الدماء تحولت، وفق نفس المبدأ، إلى اللون الأبيض تناغما مع وضعية الأرض المرجوة التي تهاطلت منها على الأرض المكروهة والتي وصفتها الشاعرة بالسماء. إذا تساءلنا لماذا تهاطلت هذه الدماء أصلا من تلك الأرض ما دامت تعبر عن البديل المحمود؟ يأتي الجواب أن العلو الذي وصفت به الأرض المحمودة يعبر بنفسه عن الوجهة التاريخية المتطلع إليها. لأن الشاعرة، حتى وهي غارقة في فضائها الوجداني الشاعري، تخضع مبدأ الخلاص لقواعد منطقية تاريخية نوعا ما قابلة للتحقيق على الأرض. ولهذا فهي تعبر، من خلال إعلاء الأرض وجعلها مكان السماء، عن زمن تاريخي يصبح فيه دم الشهداء الأبرياء، الذين يتم ذبحهم الآن، مفخرة لأهل غزة المستقلة والمحررة غدا. ولهذا تأتي الدماء بيضاء مجردة من علامة الخطر (اللون الأحمر) لأن هذه الدماء حينها سيصبح استعراض ذكرياتها مبعثا على الفخر والشعور بمزيد من قيمة الحرية التي تم  الفوز بها أخيرا. لا ننسى أن هذه الدماء تصبح رصيدا بنكيا! لنتابع وضعيتها في القصيدة  وقد أفضت بنا إلى زمن الحرية بحيث تحولت إلى مطر الغيث بموجب تحول الألم إلى أمل.

"غزيرة مدرار

عبيرها عطر الخلود"

بهذا نفهم جيدا لماذا كانت دماء بيضاء كما نفهم أكثر لماذا تم استغلال البعد الطوبوغرافي لتصوير أرض غزة. فها فهي الدماء (الأمطار) الغزيرة التي تتهاطل من الأرض (المستقبلية) على السماء (أرض الحاضر) تضيف إلى الصورة صبغة الخلود إضافة إلى حجم غزة الذي يساوي حجم اللامتناهي. كل هذا يؤكد بأن السماء التي صارت غزة عروسا لها (فيها) هي الوضعية السفلى التي أصبحت فيها غزة. وأن النزول بهذه السماء تم من أجل الصعود بتلك الأرض (المتطلع إليها) !

 

"غزة.... يا عروسة السماء

يا وشاحا مطرزا بصبر الأنبياء

...يا مدينة مستعصية

شفّرها الصمود

يا فاتنة الشهداء ...

متبرجة

بدماء

زكية مباركة

مزاجها كافور

تطهر الذنوب

اغسلي

بدماء ورودك البرية"

نبدأ من البيت الأخير حيث تتحدث الشاعرة عن غسل العروس. بعد أن لعبت الدماء دور المطر، من خلا هطولها السابق، ها هي تلعب دور الماء من خلال الحديث عن الغسل بها. لنبسط الأمور.الزمان عند الشاعرة يخضع لترددات عالية جدا وإذا أبطأناه كما نبطئ لقطة مسرعة على شاشة التلفيزيون من خلال "الريموت كنترول" نصل إلى التالي:  العروس، من خلال اللقطة الأولى، موجودة في أرض الحاضر التعيس. وبعد هذا ندخل بسرعة في مشهد  اللقطة الموالية وهي أن غزة (في أرض المستقبل) أصبح بإمكانها أن تغتسل بهذه الدماء (  تفتخر بها). فمن الملحوظ أن هذا المقطع يقوم على استغلال إيجابي متفائل لجحيم غزة وهذا كله جاء بفضل وقوع نفسية الشاعرة تحت الذبذبة الإيجابية للمشهد الشعري. عندما تستعرض صبر لأنبياء والشهداء بهذا الشكل فهي تفسر لنا أكثر المبدأ الرمزي الذي تحولت بموجبه الأرض إلى السماء وتحول اللون الطبيعي (الأحمر) للدماء إلى لون مصطنع (الأبيض). إذا كان هناك تقابل بين السماء والأرض ظاهر فهناك تقابل مضمر مواز بين الحاضر والمستقبل. ولكن ليس كل المستقبل بل المستقبل المرجو لغزة وأهلها. إنه مستقبل الخلاص الذي يوازي الأرض التي أصبحت تساوي السماء. من المعلوم أن الورود هنا استعارة تدل على الأبطال الذين ضحوا من أجل الحق في غزة.

وإذا كان في الذكريات ما يؤلم فإن الشاعرة قد دخلت في تصويره كالتالي:

"أدفني موتهم الأبدي

في مقبرة الليل بلا عنوان

حلي عليهم لعنة الغسق

أتركي زهور البرتقال

تروي حكاية

تطهيرها العرقي"

أتركي زهور البرتقال( التي عبرت عنها قبل قليل بالورد) تروي حكاية ما جرى بشكل يبعث على الشعور بما يحكى أن...الخ. إن غزة التي تهاطل عليها الغيث (الدماء البيضاء) من الأرض التي حلت محل السماء يتم استعراضها الآن، من طرف الشاعرة، بشكل يلمح إلى إماطة الشحنة المؤلمة عن ذكراها، وهي شحنة الموت. أي دفن الموت الذي كانت قطعان الكلاب المسعورة الصهيونية تسلطه على كل طفل وامرأة وشيخ بدون وجه حق. ثم تدعو هذه الغزة، بعد افتراض غسلها وأخذ زينتها كما تقدم، إلى قص الحكاية على ألسنة زهور البرتقال( الجيل القادم) ومن المعلوم أن الحادث عندما يصبح حكاية يكون أقرب إلى بث المتعة في النفس حتى وإن كان مأساوي المتن أو على الأقل مجرد تحوله إلى حكاية قابلة للقص يكون منسجما مع الشق المتفائل لعرض الصورة الشعرية في هذه القصيدة. ليدفن ذلك الموت الذي كان أبديا في مقبرة ليل بلا عنوان. أي ما تبقى من ظلام الليل تجهز عليه عدم العنونة. وبهذا يختفي الجانب المؤلم من الذكرى الجحيمم. تبث لغة البعث في  تحويل الحكاية إلى ملحق مضاف إلى الغسل والتبرج والزينة في شكل الاستمتاع بالحكي فتقول:

هدم نهرها المليء

بعرائس السماء

وكيف اقتلعوا

ألوانها المتوهجة

حاصروا أحلامها المشردة

ومنعوا دموعها أن تذرف البكاء"

كل هذا تم تصويره من خلال حالة الخضوع النفسي لاستشعار اللقطة المعبرة عن المستقبل المتمنى. بتعميق  التحليل أكثر يمكننا القول بأن مبدأ قلب التصوير المفضي إلى جعل الأرض مكان السماء والعكس صحيح هو المبدأ الذي انقلب بموجبه تحويل المشهد من صيغة التفاؤل إلى صيغة التشاؤم. صحيح أن الشاعرة تتحدث عن الجحيم ولكنها وضعته في صيغة نفسية متفائلة وهذا هو السبب السيكولوجي الذي أدى إلى جعل السماء مكان الأرض. وهو ما يمكن تسميته بالقلب اللفظي الموازي للقلب المعنوي. أو هو القلب المظهر الموازي للقلب المضمر. لنقارن بين القلب اللفظي والمعنوي في مقابل مظهر التفاؤل والتشاؤم. إن الأرض التي حلت محل السماء هي الأرض التي تقابل التشاؤم.  وأن السماء التي حلت محل الأرض هي التي تقابل التفاؤل. وبما أن العروس قد صورتها في الأرض التي تمثل التشاؤم فإن ذلك يوازي أيضا طريقة انطلاق الشاعرة من مشهد التشاؤم إلى صيغة التفاؤل !. سنحاول قلبا معاكسا للنص بغية إنتاجه بطريقة مألوفة مفككين بعده الفني لنرى كيف ستبدو الصورة. لو افترضنا أن الأرض التي صورت فيها الشاعرة مشهد العروس غير خاضعة لمبدأ القلب الفني والسيكولوجي فسنجد أنفسنا أمام أرض مألوفة وسماء مألوفة. إذا كان الأمر كذلك فإن غزة لن تأخذ شكل العروس بل شكل الموءودة في رمضاء الجحيم الصهيوني. ليركز القارئ على هذه النقطة فهي تؤدي بنا إلى الدخول في إبراز آلية التصوير البلاغي البياني الذي تستخدمه الشاعرة سلمى في هذه القصيدة وبالتالي التعرف نوعا ما على أسلوبها الإنتاجي. إن العلة التي تحولت بموجبها السماء إلى الأرض هي التي مهدت لتعريس غزة عن طريق صياغة المشهد الحاضر المشؤم صياغة المستقبل المتفائل. ففي الوقت الذي تسجل سخرية من السماء، على المستوى البلاغي، نجد من الناحية النفسانية بأن المجيء بهذه السماء إلى مكان الأرض في الأسفل تم من أجل حسن التناغم مع المشهد الذي تحولت فيه غزة إلى عروس. أي إذا كان من المستحيل أن نذهب بغزة إلى قمة السماء (المستقبل المرجو) فلنأتي بهذه السماء نفسها إلى الأسفل (الحاضر البشع) لنعرس غزة فيها لاحظ أن المجيء بالسماء إلى مكان الأرض يساوي المجيء بالمستقبل المرجو لغزة إلى الحاضر المعيش الآن. وذلك من خلال الصياغة التفاؤلية التي تحدثت عنها أنفا. للمزيد من الاستغوار أقول إن العجز الطبيعي عن تحدي الحاضر البشع وتخطيه نحو المستقبل المتمنى هو الذي ترمز إليه الشاعرة بمشروع الإتيان بالسماء نزولا إلى مكان الأرض. ولهذا نجد الشاعرة تتجاوز الجانب المؤلم إلى الجانب المؤمل من الجحيم القائم عندما تتحدث عن الزينة والتبرج والغسل وقص الحكايات حتى وإن كانت تدور حول المأساة كما قلت سابقا. الآن بدأنا نلاحظ مظاهر ما سميته تلحيم المنقسم بشكل أوثق صلة بالبعد السيكولوجي للشاعرة على مستوى التعليل. فمن خلال ما سبق في هذه القصيدة نرى تلحيما بين منفصلين أو منقسمين وهو توحيد الشاعرة بين الأرض والسماء من جهة بحيث أصبح بإمكان كل واحدة منهما أن تلعب دور الأخرى. ومن جهة أخرى نرى توحيدا (تلحيما) بين المنفصل الزمني الكامن في توحيد المستقبل مع الحاضر. فالعة وراء ذلك هي أن المنفصل كلما تكرس انفصاله وانقسامه على مستوى المرجع (الواقع) يتم تلحيمه في قصيدة سلمى !!. إذن فهذا التلحيم، المتجلي في قيام أحد أطراف المنفصل المرجعي بلعب دور الطرف المضاد، يشير سيكولوجيا إلى التعبير عن انعدام البديل المتمثل في الشغور الذي تركه هذا المضاد على الساحة الملموسة نتيجة غيابه.

 تابع القسم الثالث من الدراسة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم