شهادات ومذكرات

مي زيادة

ماري زيادة، والشهيرة ب (مي زيادة)، هي رمز للمرأة المثقفة والمتعلمة والمبدعة حين كانت النظرةالى النساء نظرة مغايرة من حيث التعليم والظهور في الساحات الادبية. هي شاعرة وأديبة ومترجمة ومجيدة للغات عدة :الايطالية، الانجليزية، الالمانية، الفرنسية، الاسبانية، اضافة الى لغتها الام –العربية.

ابصرت مي زيادة النور في مدينة الناصرة في فلسطين عام 1941 من أب لبناني، وام فلسطينية . ففلسطين هي ميلاد لمشروع الاديبة المتميزة، حيث تلقت تعليمها في المراحل الاولية هناك، والثانوية في "عينطورة" في لبنان. بدت علامات النبوغ تتفتق من شخصية مي زيادة باكرا. كيف لا، وهي وحيدة ابويها وأملهما. فقد اعطياها مهجتيهما، ورعايتهما؛ علما وأدبا. كانت محط أنظار العائلة والجوار .فهي من القلائل اللواتي سطع نجمهن، بل وجالسن الرجال في سبيل العلم والمعرفة.

انتقلت العائلة الى مصر، فانبلج يوم أغر للكاتبة اليافعة. نهلت من ينبوع العلم الكثير والكثير. انكبت على دراسة اللغة الالمانية والاسبانية والايطالية بشكل مكثف وقامت بتدريس الفرنسية والانجليزية. أما اللغة العربية، عشقها الابدي، وهمها الأوحد، فقد صقلتها في أروقة جامعة القاهرة، حيث درست الادب العربي والتاريخ الاسلامي اضافة الى الفلسفة. ذاع صيتها أكثر فأكثر، خاصة عندما دأبت على نشر نفائس المقالات في الصحافة المصرية. عشقت الجو الادبي، فأنشأت ركنا في المنزل لاستقبال اساطين اللغة أنذاك أمثال لطفي السيد، طه حسين، عباس العقاد، أحمد زكي، وغيرهم وهو ما عرف لاحقا بالصالون الادبي . كانت تناظر الجميع، وتدخل معهم في نقاش معمق حول كثير من القضايا الادبية والفلسفية، فازداد الجمع بها تعلقا وكلفا لعلمها و، لحد ما، لحضورها الأخاذ.

عاشت أديبتنا اياما جميلة مفعمة بالنشاط والعمل . أحست بأن الكون اصبح طوع يديها. فقد شدت عواطفُها الرحالَ الى أمريكا، وامتطت صهوة الأمل علها تجد متنفسا لبركانِ متاجج نحوه بعد ان أحبته من خلال المراسلات البريدية فقط. انه " جبران خليل جبران". لم يلتقيا البتة الا على اوراق الرسائل . عشرون سنة عصفت (1911-1931) وما زالت مي تسكب حروفا رقيقة في حق جبران، وهو الوحيد الذي أحبته حبا روحيا خالصا، رغم الكثيرين ممن حولها – أعضاء صالونها الادبي وغيرهم- ممن ذابت حشاشتهم توقا لنظرة رقيقة من عينيها . مات حبيب العمر.

هدها الحزن وحطم قلبها . ارتدت السواد حدادا على جبران – لم تحزن على موت والديها بهذا القدر- واعتبرت نفسها أرملته. أصابها مس من الهذيان والهستيريا، وانكبت على التدخين: تشعل سيجارة من اخرى، فلا تفتأ مرددة : " لماذا لم يأت، لقد انتظرته طويلا؟". ساءت حالتها الجسدية، والنفسية كثيرا فقرر الاصحاب والاصدقاء ارسالها الى لبنان، علها تجد عوضا عمن فارقت. فخاب ظنها، وتنكر لها الصحب والاهلون من ذوي القربى، بل واودعوها مستشفى الامراض العقلية والعصبية لعدة شهور، لم يشفع لها الا الاقلام الشريفة وو سائل الاعلام التي أثارت أمرها على أعلى المستويات. تعافت قليلا، ثم عادت أدراجها لتشرب من النيل ثانية. فيما تبقى لها من سنوات قليلة، تنقلت ما بين مصر، وايطاليا، ثم بريطانيا، وأخيرا لفظت انفاسها في مصر عام 1931 عن عمر ناهز 55 عاما.

من اقوالها:" ولدت في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسَكَني في بلد، وأشباح نفسي تتنقل من بلد الى بلد". كذلك قالت:" أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني ويستخرج من كتاباتي الصغيرة المتواضعة ما فيها من روح الاخلاص والصدق". أما ما كان من أمر المراسلات بينها وبين جبران، فكان عشق من نوع أخر. فهذه بضعة أسطر من رسالة طويلة، تلقتها مي من جبران:

." استعطفك يا صديقتي أن تكتبي إليَّ

واستعطفك أن تكتبي إليَّ بالروح المطلقة المجردة المجنحة التي تعلو فوق سبل البشر

أنت وأنا نعلم الشيء الكثير عن البشر

وعن تلك الميول التي تقربهم إلى بعضهم البعض، وتلك العوامل التي تبعد بعضهم عن البعض

فهلا تنحينا ولو ساعة واحدة عن تلك السبل المطروقة

ووقفنا محدقين...ولو مرة واحدة

بما وراء الليل، بما وراء النهار، بما وراء الزمن

بما وراء الأبدي

والله يحفظك يا ميّ

ويحرسك دائما ".ً

 

صديقك المخلص

جبران خليل جبران

نيويورك 25 تموز 1919

وهذه بضعة أسطر من رسالة من مي الى جبران:

"غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان، حصحصت نجمة لامعة واحدة هي الزهرة، آلهة الحب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وجد فيها بنتا هي مثلي، لها جبران واحد، حلو بعيد هو القريب القريب تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحب، فتتسرب

إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي بالقلم جانباً لتحتمي من الوحشة في اسم واحد: جبران".

 

في المثقف اليوم