شهادات ومذكرات

ميخائيل نعيمة 1889-1988

"إنَّ الأُدباءَ الروسَ فتحوا لي البابَ الى الأَدب الإنساني الرَّحْب، فنهجتُ نهجهم في ما صنّفت من قصص .. أما في النقد فقد وجدت في "بيلينسكي"- إمام النقاد الروس- مثلا رائعاً للنقد الرفيع. أما في الشعر فقد اعجبت ب "بوشكين" و"لرمونتو" و"نكراسكوف". (ميخائل نعيمة).

أديب ومسرحي وقاص لا يقل شأنا عن أرز لبنان الضارب عمقاً في جذور التاريخ. هو الوطن بكليَّته أينما حل وارتحل. تراه يحمل وطنه بين جوانحه ويتمثله ذرة فذرة. أديب احترم نفسه وعمله فاحترمه قراؤه، إذ ليس في كتاباته ما يثير العصبية أو الطائفية لمذهب معين أو دين ما أو بغضاء لا تخدم إلا أجندة المتربصين بالوطن والبشر. طالما ساند الضعفاء والمعذبين والمشردين والكادحين في كتاباته. ما أن يهم بكتابة ما، حتى تتجلى أمامه صورة الكاتب الشريف النظيف، صاحب الرسالة الراقية. تلك الرسالة تمثل البلسم والمسحة الانسانية التي تحتوي الجميع وتتسع لآهاتهم وسكناتهم وأفراحهم وأتراحهم.

هل أثَّرت دراسته للقانون في الولايات المتحدة في كتاباته بحيث أضحى يوزن كلماته بالقسطاس، ويضعها في المكان المناسب بلا مواربة أو تأويل او تفسيرقد يفقدها كنهها؟ أم أن اطلاعه على الأدب الروسي في جامعة بولتافيا في اوكرانيا قد أثرى حصيلته المعرفية وفتح القريحة لتلقي بالدر من نفائس الاعمال؟ أم أهَّلَهُ موقعه كنائب لجبران في الرابطة القلمية في أمريكا ليتحف المهجريين بما مر به من تجارب أدبية رائعه؟ كل ذلك حدث مع نعيمة وأكثر. فهو الكاتب المسرحي الفذ، فقد كتب مسرحية" الآباء والبنون" ومسرحية" أيوب"، كما كتب القصص والاشعار العربية والانجليزية مما تفخر به المكتبة العربية مثل " النور والديجور" و" البيادر" و" همس الجفون". ويعتقد بأن " الغربال" هو أحد الأعمال التي يشار اليها بالبنان، إذ يقوم نعيمة (بغربلة) ما خطَّتْهُ أقلام كثيرة- قديمة ومحدثة- ويُخْضِعُها للتمحيص والتدقيق. نقدُهُ لهذه الاعمال ليس من منطلق شخصي، بل مهني حرفي بحت لا همَّ له إلا تبيان حقيقة المادة المكتوبة وإظهارها من منظور الجودة أو اللاجودة.

فكما عكس كتاب "الأيام" لطه حسين سيرته الذاتية ومسيرة حياته، فقد جسَّد كتاب نعيمة "سبعون" سبعة عقود من حياته ظنا منه أن نجمه كان على وشك الأُفول حينها، لكن القدر طالما كان كريماً معه، إذ منحة ثلاثة عقود إضافية، لكنها سقطت من تلكم السيرة.

من يقرأ لنعيمة بعين البصيرة يرى ما ينماز به اسلوبه من السهولة واليسر بعيدا عن الفظِّ وحوشي الكلام بل ذهب البعض الى القول بأن لغة نعيمة تقترب- أحيانا- من لغة العوام، وربما هذا ما قصده هو حتى يصل خطابه الى ادنى طبقة في المجتمع. ومما يسُسَجَّلُ لنعيمه أنه لا مجال في أدبه لكلمات أو تعابير خادشة للحياء؛ ففي إحدى المرات كان يستمع لأحد تلامذته يقرأُ عليه بعضاً مما كتب، إذ اومأَ اليه-نعيمة- بيده بحذف كلمة لا يستسيغها الذوق العام ولا يجدر بها أن تكون ضمن كتابات همُّها الأول والأخير التنوير ونشر الفضيلة، ولعل هذه النزعة لدى نعيمة هي نتاج تعمقه في الدراسات الدينية: الاسلامية والمسيحية، إضافة الى الديانات غير السماوية. لم يترك نعيمة شيئا مما يقع عليه بصره الا وتعامل معه بجدية: فقد أحب لغة القرآن واعجب بطريقة سبك الكلمات باسلوب جميل بستهوي الافئدة. كتب ذات مرة: "وأبلغ هذه النصوص: وصف الطوفان في سورة هود (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء واستوت على الجودي .. الآية).

أحب نعيمة الوحدة وخاصة حينما يتوحد جسدا ونفسا وروحا مع الطبيعة الساحرة في" الشخروب"، القرية المحاذية لبلدته " بسكنتا، حيث كان يتماهى مع شلالات الماء ونسائم الربيع ذات العبق الأخّاذ. كل تلك الطبيعة قد أفاضت وأضافت على القريحة الكثير. وُجد في أحد مجلداته قصيدة نظمها باللغة الروسية اختتمها بهذ الأبيات:

"نؤمن بروسيا

نؤمن من صميم قلوبنا

بأن الربيع سيأتي

الى ربوعك.

فقولي متى سيتحقق ذلك؟

لماذا تصمتين يا روسيا؟

نامي يا حبيبتي".

من طريف ما يروى عن ميخائيل نعيمة انه تعلق بحسناء روسية بِنيَّة الإرتباط الرسمي، لكنه تفاجأ بأنها كانت متزوجة، ولم يكن من السهولة بمكان انفصالها عن زوجها. أمام هذه الصدمة، عاد الى لبنان ثم توجه بصحبة أخية الى أمريكا. ومكث هناك زهاء (20) سنة، جاءت خلال تلكم السنوات حسناء روسيا الى لبنان وقد طُلِّقَتْ، ولكن" ولات حين مناص".

 

يونس عودة/ الاردن

 

في المثقف اليوم