شهادات ومذكرات

عن بعض العراقيين الذين مروا بموسكو (15)

سنحت لي الفرصة ان التقي الدكتور خليل عبد العزيز الذي كتبت عنه في الحلقة (13) من هذه السلسلة. تحدثنا في البداية عن رأيه فيما كتبت عنه في تلك الحلقة، فقال لي ان المقالة كانت جميلة وموضوعية رغم قصرها وعنوانها العام وغير المحدد، قلت له ان المقالات الطويلة مملة في زماننا الصاخب هذا، وقارئ تلك المقالات الطويلة يتابعها (بين سطر وسطر!)، اما حكاية العنوان فقد اسثنيت فقط (دميتري عبد الحسين) وأشرت الى سبب ذلك في مقدمة تلك المقالة، اذ اني اكتب هذه السلسلة عن العلاقات العراقية – الروسية بغض النظر عن الاشخاص، رغم اني لاحظت ان بعض الذين أعادوا نشر تلك المقالات (ومنها المقالة عن د. خليل عبد العزيز بالذات) أضافوا الى عناوينها فعلا اسماء ابطالها (انظر مدونة الدكتور ابراهيم العلاف مثلا والذي ذكر اسم د. خليل عبد العزيز في عنوانها فعلا) وهم احرار طبعا فيما يكتبون ويفعلون بلا شك، وانا لا اعترض على ذلك بتاتا، ولكن الدكتور خليل لم يتفق معي بالنسبة لهذا الموضوع، (ولكن ماذا افعل مع بعض الحلقات من تلك السلسلة والتي تتناول عدة اشخاص في آن واحد يا اخي د. خليل ؟؟؟؟) .

سألته ان كان يريد ان يصحح او يضيف الى ما سبق لي ان نشرته في مقالاتي ضمن هذه السلسلة حول الاشخاص الذين يعرفهم، فقال انه يتابع بحرص و بدقة كل تلك المقالات، وان فلسفتها و مضمونها بشكل عام صحيح ومحدد وموضوعي ويمتلك اهمية متميزة جدا بالنسبة لموضوعة العلاقات العراقية - الروسية وتاريخها الانساني رغم بعض النقاط هنا وهناك والتي لا يتفق معي حولها، وجرٌنا الحديث بشأن تلك العلاقات حول اسمين محددين هما صالح مهدي عماش (الحلقة 2) مؤلف كتاب (موسكو عاصمة الثلوج)، وفاضل البراك واطروحته، والتي حصل بموجبها على شهادة الدكتوراه من معهد الاستشراق التابع لاكاديمية العلوم السوفيتية آنذاك .

توقف الدكتور خليل طويلا عند اللقاء الاول لعماش مع الاكاديمي غفوروف – مدير معهد الاستشراق، و الذي استقبله ك (صديق وليس كسفير) عندما وصل عماش الى موسكو قبل تقديم اوراق اعتماده الى الحكومة السوفيتية، وكيف تكلم عماش عن موقفه المضاد تجاه صدام حسين، وانه (اي عماش) مع رفاقه العسكريين (بما فيهم احمد حسن البكر رئيس الجمهورية) لا يمكن ان يخضعوا له . لقد أخبره غفوروف في ذلك اللقاء انه الان سفير العراق في موسكو، و(نصحه !) بعدم الكلام هكذا، وان ذلك خطر عليه، ولكن عماش أجاب انه لا يخاف من صدام حسين ولا يخشاه، وانه سيستمر باعلان ذلك الموقف ضده . لقد تبين فيما بعد، ان صدام حسين دعى عماش الى حفل عشاء في مطعم خاص ببغداد، وفي نهاية تلك الدعوة أخبره بقرار القيادة بنقله من منصبه (كان عماش نائبا لرئيس الجمهورية عندئذ) الى منصب سفير العراق بموسكو، وانه يجب ان يلتحق بمنصبه الجديد الان و فورا، وان طائرة خاصة تنتظره غدا ولا اعتراض على ذلك مطلقا، وهذا ما تم فعلا .

تحدث د. خليل عن موقف معهد الاستشراق تجاه عماش اثناء عمله سفيرا للعراق في موسكو، وكيف جاء بكتابه – (موسكو عاصمة الثلوج) الى المعهد، وكيف تم تعديله من قبلهم، وكيف عمل هو نفسه (اي د.خليل) في هذا المجال مع الآخرين من موظفي معهد الاستشراق لتعديله، وقال لي ان عماش رجع الى مصادر انكليزية كثيرة واعتمد عليها عندما قام بتأليف الكتاب المذكور، الا ان د. خليل يستطيع ان يقول ان 90% من ذلك الكتاب قد تم تغييره في نهاية المطاف، وان عماش كان موافقا من اجل ان يظهر الكتاب ليس الا، وان هذا ماحدث فعلا، وان عماش اراد ان يطبعه مرة اخرى عندما كان طارق عزيز وزيرا للاعلام والثقافة، الا ان موقف صدام تجاه الكتاب الذي اعتبره دعاية للاتحاد السوفيتي حال دون ذلك، كما ذكرنا في الحلقة (2) من سلسلة مقالاتنا تلك.

استطرد د. خليل بحديثه عن عماش وصراعه مع فاضل البراك في السفارة العراقية بموسكو آنذاك (كان البراك مسؤول حزب البعث في موسكو ومنصبه الرسمي هو معاون الملحق العسكري) . لقد اتصل رئيس الجمهورية احمد حسن البكر هاتفيا بعماش مرة وقال له انه صرح بكذا وكيت، وانه ينصحه ان يكون حذرا من تلك الاقاويل . تذكر عماش انه قال تلك الجملة فعلا في مكتبه الشخصي، وبحث (بعد انتهاء الدوام) في كل زوايا مكتبه عن اي دليل للتسجيل او التنصت له، ولم يستطع الوصول الى اي شئ، وتجنب التعاون مع المخابرات العراقية في السفارة طبعا حول هذا الموضوع لانها ترتبط بالبراك نفسه، وسافر الى المانيا، وهناك اتصل بأحد خبراء التنصت، وجلبه معه الى موسكو، واستطاع هذا الخبير الالماني ان يجد في مكتب عماش سماعة صغيرة جدا جدا مركٌبة بشكل فني دقيق في اطار صورة رئيس الجمهورية احمد حسن البكر المعلقة في مكتب السفير عماش، وان هذه السماعة كانت تنقل مباشرة الى مكتب البراك كل ما يجري ويقال في مكتب السفير عماش .

حدثني د. خليل بعدئذ عن قناعته التامة في ان موت عماش في هلسنكي (بعد نقله الى هناك) لم يكن طبيعيا ابدا، وانه على الاغلب مات مسموما .

اما بشأن فاضل البراك نفسه، فقال عنه د. خليل بانه حاذق جدا بحياكة خيوط التآمر والدسائس وبسرية عالية وحذر شديد، ويعتبرنفسه جديرا ان يشغل أعلى المناصب في العراق .

سألته عن اطروحة البراك وحصوله على شهادة الدكتوراه من معهد الاستشراق، فقال د. خليل ان احمد حسن البكر طلب من الاتحاد السوفيتي اثناء زيارته له ان يمنحوا للبعثيين امكانية القبول في الدراسات العليا والحصول على شهادات الدكتوراه اسوة بالشيوعيين لان اعداد البعثيين الحاصلين على الدكتوراه قليلة جدا جدا، و ذكر اسم البراك من ضمن هؤلاء، وقد وافق الاتحاد السوفيتي آنذاك على مقترح البكر، وهكذا اتصل   البراك بمعهد الاستشراق واقترح موضوع اطروحته ووافق المعهد على ذلك واصبح الاستاذ كوتلوف (مؤلف كتاب ثورة العشرين في العراق) مشرفا علميا، وكان د. خليل يساهم اداريا في الاعداد للاطروحة وتنسيق العلاقة بين البراك ومعهد الاستشراق والمشرف العلمي .. الخ المتطلبات الخاصة بالاطروحة، وهكذا أخبره البراك ان الفصل الاول من الاطروحة كان جاهزا لديه، وبعد فترة قصيرة نسبيا جاء بالفصل الثاني، والذي وجد فيه الدكتور خليل رسالة قصيرة من قبل الدكتور الياس فرح الى البراك يقول فيها انه يرسل الفصل الثاني له وسيتبعها بالفصول الاخرى، اي انه (الدكتور الياس فرح) هو الذي كان يكتب هذه الاطروحة ويرسلها الى البراك. وهكذا استطاع البراك ان ينهي اطروحته تلك وبهذه الطريقة (العلمية !!!!!)، ووجد المشرف العلمي ان هذه الاطروحة مكتوبة من وجهة نظر تختلف عن وجهة النظر السوفيتية، فوافق البراك على اي اضافة من قبل المعهد على نص الاطروحة، وقد تم اضافة الكثير جدا من التعديلات و المصادر السوفيتية على تلك الاطروحة كما يتطلب الوضع الايديولوجي في الاتحاد السوفيتي آنذاك . وهكذا حصل فاضل البراك على شهادة الدكتوراه بفترة قياسية جدا جدا، وكان ممتنا بالطبع للمعهد على ذلك، وللدكتور خليل شخصيا لدرجة انه اراد ان يهدي له سيارة كاديلاك (وكان ذلك بامكانه طبعا عندئذ)، وقد رفض الدكتور خليل رسميا هذه الهدية وامام مسؤولي المعهد مباشرة . وعندما عاد البراك الى بغداد نشر اطروحته بالعربية هناك وحذف كل تلك الاضافات والتعديلات التي وافق نفسه عليها في حينه، وأشاد الباحثون العرب بهذا الكتاب ومدحوه كثيرا وكتبوا اكثر من اربعين مقالة وبحثا عن تلك الاطروحة (كان البراك يشغل منصبه الامني المعروف)، وقد كان معهد الاستشراق يتابع ذلك طبعا ولكن لم يحاول ان يصحح او حتى ان يعلق بشكل او بآخر على ذلك لحساسية هذا الموضوع عراقيا و عربيا و عالميا .

 

أ.د. ضياء نافع

في المثقف اليوم