شهادات ومذكرات

شبيهة تشيخوف وكوليت والآن سيداريس/ وليام غريمز

saleh alrazukفي عام ١٩١٣، واحتفاء بالذكرى الـ ٣٠٠ لعائلة رومانوف، أعد المتخصصون مجلدا لمختارات من الكتابة الروسية عبر العصور. وبسؤال نيقولاس الثاني: من تقترح من الأدباء المعاصرين؟. قال: تيفي. وحدها. وكل من عداها غير ضروري".

من هي تيفي؟.

في السنوات التي مهدت الطريق للثورة البلشفية في عام ١٩١٧، كانت ناديجدا أليكسندروفنا بوخينسكايا. التي تكتب باسم مستعار هو تيفي، واحدة من أشهر الكتاب في روسيا. وكانت معروفة لجمهور واسع بمقالاتها ومسرحياتها الساخرة والحادة، وبقصائدها الرمزية وقصصها القصيرة ذات النمط التشيخوفي، العامرة بالمرح والحزن.

كتبت الشاعرة إيرينا أودويفتسيفا تقول:" كل إنسان قرأها واستمتع بكتاباتها. وهذا الكلام بالحرف الواحد. كان جمهورها يبدأ من الموظفين وطلاب علوم الأدوية وينتهي بنيقولاس للثاني".

و بعد الهجرة إلى باريس في عام ١٩٢٠ أصبحت تيفي (١٨٧٢- ١٩٥) الكاتبة الأكثر شعبية في الصحف والمجلات المهاجرة التي لها علاقة بالدياسبورا الروسية. ومع ذلك سقطت في التجاهل وبئر النسيان في الاتحاد السوفياتي، وبعد وفاتها أصبحت في هوامش الخريطة الأدبية.

و لكنها اليوم تطالب بأرضها المفقودة. في الأسبوع المنصرم،نشرت بوشكين بريس، المخصصة للكتاب الأجانب المغمورين والذين حان وقتهم " كلمات قوية وقصص أخرى"، وهي مختارات من أعمال تيفاني المنشورة في مجموعاتها القصصية. وكان روبيرت وإليزابيث شاندلير، وهما فريق يتألف من زوج وزوجة، وترجما ستة من قصص المختارات، من بين الذين يترجمون مذكرات تيفاني لسلسلة متابعات نيويورك في الكتب الكلاسيكية.

بكلمات أخرى، الوجبة جاهزة. ويبقى أن نتأكد كيف سيتذوق القراء ذلك. قالت إيديت هايبير، أستاذة متقاعدة في جامعة ماساشوسيتس، ببوسطن، مختصة في الأدب الروسي، وتكتب بيوغرافيا تيفي:" أعمالها صعبة على الترجمة. إنها تلعب كثيرا بالكلمات، وتستعمل كل مستويات اللسان الروسي".

تلك الخصال جعلت من تيفي رمزا طقوسيا في ملعبها. وتقول الروائية لارا فابنايار:" حينما كنت صغيرة في الاتحاد السوفييتي، لم تكن معروفة. ولكن استخدم اسمها كفخ، لأنه إذا كنت لا تعرف أو تستمتع بقراءة تيفي، هذا يعني أنك لست قارئا متميزا ولا نخبويا، أو أنك غير قادر على فهم المرح اللماح على وجه الخصوص".

ليس لتيفي شبيه في الغرب، ولكن مع ذلك بعض الأسماء ترد على الذهن. تقول السيدة هايبير:" أحيانا نقارنها بكوليت أو دوروثي باركير. غير أنني أعتقد أن نطاقها أوسع".

وقدمت الآنسة فابيانار مقارنة أقرب لروح المعاصرة بقولها:" أعلم أن عددا كبيرا من الناس يقارن تيفي بتشيخوف. ولكن أعتقد أنها أيضا أنها تتشابه مع نسخة أشد حزنا وأكثر انجراحية من دافيد سيداريس*".

تحتوي " كلمات قوية" على عشرين قصة مكتوبة بين ١٩١٠ و١٩٤٩، مع مقالتين في السيرة الذاتية. الأولى تقدم تفاصيل عن حفل غداء لا ينسى مع راسبوتين، الذي حاول أن يضع تيفي تحت تأثير سحره الأسود، ولكنها لم تتأثر به. والثانية تتذكر زيارة من أيام الطفولة إلى بيت تولستوي في موسكو. حينما كانت تيفي بعمر ١٣ عاما وفاقدة لأي أمل بحالة الأمير أندريا كما رسمته رواية " الحرب والسلام"، ولكنها كانت تفكر بإقناع تولستوي أن يعيد كتابة روايته ويسمح في النسخة المعدلة للأمير بالبقاء على قيد الحياة.

القصة الأولى " عيد فصح مشرق" تضبط الإيقاع. موظف مدني قروسطي يحضر صلاة عيد فصح في كنيسة. وكذلك معلمه. وحينما يفشل في الحصول على دعوة للانضمام للإفطار مع مخدومه، يعود إلى البيت. حيث يعنف زوجته. وهي توبخ ابنتهما، وهذه تعتدي على الوصيفة. التي تتعامل بغطرسة مع الخادمة، وهكذا ترفس الأخيرة الهرة، فتختبئ خلف سلة نفايات وتموء من أعماق قلبها محتجة على العالم الفظ غير المنطقي.

كتبت تيفي ذات مرة تقول:" مثل روح المسرح الإغريقي أنا أمتلك وجهين. واحد ضاحك والآخر باك".

تقفز الشخصيات من بين الصفحات كلما كتبت بالقلم. اعتادت تيفي أن تكتب للصحف، وتنحت كلمات ناعمة في جمل جيدة السبك وهكذا تضع الأسس للأثر الاقتصادي للغتها. وعليه إن البنت التي" لها أنف كبير يميل قليلا نحو اليمين، وتسير بعين تطرف باستمرار ، تتأمل العالم بطريقة يشوبها الشك".

الشقاء يحبو على هوامش القصص المرحة، مثل " مونولوج في بتروغراد"**، وفيها يحاول السارد الأول أن يتطرق إلى الثقافة ولكنه يعود دائما للطعام، ويخبرنا أنه من النادر في عام ١٩١٨ أن تجذب ثلاث تفاحات جميلة في لوحة حياة صامتة المشاهدين ليتساءلوا هل لدى الفنان مراجع حقيقية من داخل البيت أم أنه يتخيل.

ويقول السارد:" يقول شقيق المدام بونوف إنه يخبز الخبز الرقيق من عجينة النوافذ، والمحتويات بسيطة: فقط تناول العجينة من إطار النافذة والتهمها".

و مع تقدم الوقت، يتوسع الموضوع؛ ويخبو الأسلوب ويصبح قاسيا. وعدد من القصص تختنق بالنوستالجيا والألم الرومنسي بحثا عن عالم أفضل تجده بعيدا عن متناول اليد. وتتطفل على الجو عناصر من الفولكلور وما فوق الطبيعة.

ولدت تيفي، وكنيتها لوخفيتسكايا، عام ١٨٧٢ في عائلة مثقفة وغنية في سانت بطرسبورغ. كان والدها محام وأستاذا في القانون الجنائي، وأمها قارئة متحمسة نقلت عشقها للأدب إلى أطفالها. وهكذا أصبح عدد منهم أدباء، ولا سيما ميرا، وقد ألهمت بشعرها الإيروتيكي الناضج إيفان بونين وسماها "سافو الروسية"***.

و تزوجت تيفي من نبيل بولوني، وولدت ثلاثة أولاد، ثم حوالي عام ١٩٠٠ هجرت عائلتها وبلد زوجها واستقرت في سانت بطرسبورغ وامتهنت الكتابة. وبعد سنوات من نشر أولى قصائدها وقصصها، تبنت اسمها المستعار، لأسباب لم توضحها على الإطلاق.

كان اتجاهها السياسي ليبراليا. وبعد ثورة عام ١٩٠٥، كتبت لمجلة (الحياة الجديدة)، وهي مطبوعة مشتركة يحررها الحزب البلشفي والديمقراطي الاجتماعي. وحينما حولها لينين إلى جزء من حزبه، توقفت عن التعامل معها. وبعد ثورة ١٩١٧ ذهبت إلى كييف، ثم رحلت إلى الجنوب مع زحف الجيش الأحمر، ومرت بأوديسا والقسطنطينية ثم استقرت في باريس. وتكلمت عن هذه الفترة في مذكراتها، المنشورة في بواكير الثلاثينيات.

ووضعت الحرب العالمية الثانية النهاية لعالم الهجرات الروسي الصغير. فعاشت تيفي بصحة متدهورة في فرنسا، وقضت ما تبقى من سنوات عمرها في ظروف متدنية معتمدة على دماثة أصدقائها ومعارفها.

كتبت في إحدى الرسائل:" كل المعاصرين لي يموتون، ولكن لسبب ما، لا زلت أعيش. الحالة مثل الجلوس في غرفة الانتظار في عيادة طبيب الأسنان؛ ينادي على المرضى، وبوضوح تختلط النداءات، ولكن لا يمكنني الإقرار بذلك، فأجلس، مرهقة وتحت شعور بالامتعاض".

ظهرت مجموعة صغيرة من أعمالها بعد فترة خروتشوف، ولكن ليس قبل الثمانينيات، ومع بدء سياسة غورباتشوف في الانفتاح، ربحت كتاباتها معركة إعادة الاعتبار في عموم روسيا. وفي ١٩٩٠ طبع ناشر في موسكو مجلدين من قصصها المرحة، وبلغت عدد النسخ نصف مليون نسخة، وفي عام ١٩٩٧ عقد معهد غوركي للأدب العالمي مؤتمرا مخصصا لتيفي تخليدا للذكرى ١٢٥ لمولدها والذكرى ٤٥ لوفاتها.

ما جنته الكاتبة من حياتها يستحيل الكلام عنه. ذات يوم، في بواكير حياتها المهنية، أحضر معجب بها علبة شوكولا، وكل قطعة شوكولا مغلفة وتحمل اسمها وصورتها. وعزمت أن تشارك هذه الشوكولا مع الأصدقاء. غير أنها فقدت الصبر على الانتظار والتهمت كل شيء. كتبت تقول:" لقد كنت أتوق للشهرة حتى سقطت صريعة المرض. وفي تلك اللحظات رأيت وجه الشهرة الثاني".

*دافيد سيداريس: كاتب ومذيع أمريكي.

**بتروغراد هو الاسم السابق لسانت بطرسبورغ.

*** سافو شاعرة إغريقية معروفة من القرن السابع قبل الميلاد.

وليام غريمز William Grimes: صحافي أمريكي يكتب عن المطاعم والأغذية والمسرح. حاليا يعمل في النيويرك تايمز بصفة كاتب عمود الوفيات. من أهم مؤلفاته ( إلى الأمام أو على الصخور: حكاية الكوكتيل في أمريكا). مرشح لجائزة جيمس بيرد للصحافة.

 

ترجمة: صالح الرزوق

الترجمة من النيويورك تايمز. عدد ١٤ كانون الأول ٢٠١٤.

في المثقف اليوم