شهادات ومذكرات

عبد السلام فاروق: ذكريات جزائرية..!

السابع من نوفمبر.. شتاء مبكر يغزو خريف العاصمة الجزائر بغيوم داكنة.. اللهجة أردت ألا تكون عائقاً لدى حديثى معهم.. هؤلاء النخبة من أدباء وشعراء وروائيي الجزائر.. تعمدت التحدث بالفصحى التى أرانى بها تلقائياً أكثر من العامية.. بادرنى حميد عبد القادر بضحكة رنانة: كلنا نفهم العامية المصرية ونحبها.. لكننى كنت مستمتعاً بالفصحى، كأنى انتهزت الفرصة لأكون على سجيتي.. أحب لهذه الواشجة بيننا كعرب تظل موصولة بلغتنا العربية الفصيحة السهلة كما كان يردد عميدنا طه حسين: اللغة العربية يسر لا عسر..

هذا ما لمسته فى إصرار الشاعر عز الدين ميهوب وزير الثقافة الجزائرى، والسيد حميدو مسعودى محافظ صالون الجزائر الدولى للكتاب (السابقين) بحرصهما على التفوه بالعربية السلسة المفهومة لدى الكافة، رغم إجادتهما للفرنسية كأغلب الجزائريين.. هناك حب عميق للغة العربية فى الجزائر، ولابد أنه فى مناهجهم، أو قل فى دمائهم !

"امبراطورية ميم".. الفيلم الشهير لفاتن حمامة هو أول وأشد ما أدهشنى فى المعرض.. عندما وجدت لافتة جذابة بطرافتها لصاحبة دار النشر الجزائرية المولد، مصرية الهوى، السيدة آسيا على موسي.. ألفيتها تقلد نفس قصة الشعر التى أدرات بها الفنانة فاتن حمامة فيلمها القديم.. كان منتشراً حينها!

هنا أدركت كم أن الفن المصرى آنذاك كان عميق التأثير بعيد المرامى شديد الفاعلية لدرجة أنه يجعل المثقفين المصريين فى الخارج لهم ذات الثقل والعمق، لمجرد أن قوانا الناعمة المتمثلة فى مشاهير الفن والأدب والرياضة والصحافة لها اليد الطولى فى سائر المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج..

 ذات مساء.. من الإثنى عشرة ليلة التى قضيناها ضيوفاً على صالون الجزائر الدولى للكتاب فى طبعته الحادية والعشرين.. التففنا تسعة على مائدة عشاء مستطيلة عامرة بالمقبلات والأسماك وزجاجات الماء البارد الفاخرة.. كنا نتكلم ونضحك أكثر مما نأكل.. العبد لله وزملائى أحمد عبد القوى"صدى البلد"، وياسر الغبيري"البوابة نيوز"ومعنا الروائي حميد عبد القادر والناقد الدكتور محمد عبد الكريم والإعلامي جمال شعلال، وثلاثة آخرون..

 فى صباح اليوم السابق استمتعنا بالمرور السريع للموسيقار الراحل أحمد الحجار والشاعر المصري ناصر دويدار وهما يداعبان عواطف السامعين ويعيدان للذاكرة المحشوة أطياف الغناء الأصيل.. تلك السويعات البسيطة أنقذت الموقف ومنحت قبلة الحياة للبرنامج الثقافى المصري الهزيل بالمقارنة لكونها ضيف شرف الصالون! أعادت لنا النغمات ثقتنا فى قدرتنا على عبور أزمة الخريف الاقتصادية، وأعاد لنا الشعر الرصين ثقتنا وتفاؤلنا فى غد أفضل.. فربما كانت أغنية أقوى أثراً من ألف خبر يقين!

 لا أدرى متى ولا كيف ولا لماذا تسرب إلى قلبي القلق وأنا أدفعه بتناول المقبلات والمضغ، وظللت ألوك الكلمات وأمضغ الحديث محاولاً إخفاء قلقى تحت جلدى، وأنا محاط بهذه الكوكبة من كبار الأدباء.. وامتد بى الحوار مع الإعلامى والروائى الجزائرى حميد عبد القادر الذى يجيد الكتابة باللغتين العربية والفرنسية وصدرت له عدة مؤلفات فى الرواية والتاريخ والأدب، ومع الكاتب الصحفى أنيس بن هدوقة ابن الروائى الجزائرى الأشهر "عبد الحميد بن هدوقة".

أسهبت فى الحديث عن روايات الطاهر وطّار و"مولود فرعون" المعروفة بين أوساط المثقفين والقراء فى مصر منذ سبعينيات القرن العشرين.. وكان حديثي ينساب بلغة عربية رصينة عملت على ضبط مخارج حروفها بوضوح وجلاء تام.. ثم قيل لى: إن الحاضرين يحبون اللهجة المصرية ويفهمونها.. فتجاهلت النصيحة وزاد إصرارى على التمتع بالفصحى طوال الأمسية التى امتدت طويلا..

 حميد عبد القادر تبسط فقص علينا طرفة فريدة حدثت معه لدى لقاء الطاهر وطّار مع كاتب فرنسي آخر، فقال: انتهزت الفرصة وبدأت حماستى فى الحديث تتحول إلى جرأة جعلتنى أصف الطاهر بأنه كاتب يسارى، ولم أقصد شراً.. فما كان من وطار إلا أن مال علي، وهمس في أذني: أنه ما كان ينبغي وسمه بهذه الصفة شديدة الخطورة آنذاك، فقد كانت الطعنات والهجمات الإرهابية الغادرة خلال سنوات العشرية السوداء، لم تزل تفتك بالجزائريين بفعل إرهاب الجماعات المتأسلمة.

لابد أن أى مثقف عربي فى الجزائر سوف تراوده تساؤلات الهوية.. تلك البلد التى تعرضت لواحدة من أبشع المذابح وأشد أنواع الاستعمار فتكاً ودموية على مدار 130 عاماً لدرجة أن يحتفظ الفرنسيون بجماجم ضحاياهم من أبطال الجزائر فى متاحفهم المصبوغة بدماء الشهداء.. حتى أنك تتذكر بألم قصيدة الشاعر الفلسطينى محمود درويش هاتفاً ضد المستعمر الإسرائيلي، بل ضد كل مستعمر أجنبى لأرض عربية:

 سجل..

أنا عربي.. أنا اسم بلا لقب

صبور فى بلاد كل ما فيها.. يعيش بفورة الغضب

جذورى..

قبل ميلاد السنين رست.. وقبل تفتح الحقب

الإعلامى جمال شعلال.. تسمى على اسم الزعيم جمال عبد الناصر.. كان نوعاً من الناس الذين يحفرون فى الذاكرة لهم مكاناً أبدياً.. له لسان طلق بليغ العبارة قوى الحجة وعقل راجح يزن الأمور ويحسن وضعها فى نصابها.. هناك سمة تميز لغة أبناء الطبقة الجزائرية المثقفة ذات الرؤية النافذة والبصيرة المدركة لطبيعة وخطورة ما تتعرض له بلداننا العربية من حروب بالوكالة.. ومن فتن ومؤامرات تتربص بالكافة لتضرب هؤلاء بأولئك وتتسبب فى انقسامات مجتمعية تتضخم لتلد أزمات مستمرة وتمزقات تصيب نسيج الأمة، ثم هناك سوء إدارة لمواردنا الطبيعية وثرواتنا البشرية.. والجزائر بلد غنى بثرواته وبموارده الطبيعية والبشرية، لكنه ككل البلدان العربية غارقة حتى أذنيها فيما سماها الأستاذ هيكل:"العقد النفسية للشرق الأوسط"!

الرائع فى الأمر أنك تجد فى صحبة هذه النخبة الرائعة صباحاً بين أروقة الصالون وفى صحبة الناشرين ما تفتقده فى معارض الكتب الأخري.. فبين زحام الجماهير الغفيرة المنتشرة فى كل ربوع وزوايا المعرض، تفتقد تلك الفئة الهادئة المحبة للعزلة من كبار الأدباء والشعراء والمفكرين، لا لتستمع لهم فى ندوات جامدة ومحاضرات سابقة الإعداد، وإنما لتجلس معهم جلسة سمر ودية تتجاذبكم أطراف الحديث الشيق المثمر فى شتى هموم وقضايا الثقافة والسياسة والمجتمع..

استوقفتنى دار النشر الخاصة بالسيدة آسيا المتأثرة بفاتن حمامة.. وعلى بعد خطوات قليلة منها لفت انتباهى شيخ متأنق يدعي "رشيد خطاب"، يجلس خلف طاولة وضع فوقها كتابين اثنين أحدهما بالعربية والآخر بالفرنسية هما " أصدقاء الخاوة والرفاق "، ولشد ما أدهشني العنوان، توقفت عنده طويلا، أعرف معني كلمة "الرفاق"، أما " الخاوة " هذه فلم تمر علي مطلقا خلال نحو أربعين سنة قضيتها بين أوراق الكتب القديمة والحديثة علي السواء، الأمر الذي حفزني لطرح سؤالي عليه وقلت له : سيدي أريد أن أسألك عن معني هذه المفردة، ومن أين اشتققتها، وما إذا كانت صحيحة لغويا أم لا؟ ثم دار بيننا حوار ممتع وجذاب، حوار بين جيلين، استغرق نحو الساعة أو أكثر.. "رشيد خطاب"الذي ذهب إلي باريس في السبعينيات، وتعلم في جامعاتها، والعبد لله ابن ثمانينيات جامعة القاهرة، وقد أخذنا نعيد ونزبد في بحور اللغة العربية وشواطئها، وهل هي لغة قابلة للتطور أم لا؟

عدت إلي القاهرة، بعد اثني عشر يوما قضيتها ضيفا علي صالون الجزائر الدولي للكتاب.. تركت بعضاً مني هناك لدي الجزائر هذا البلد الحبيب.. وهذا الشعب العربي الأمازيغي الأبي مرفوع الهامة عالي الهمة، ثابت الأقدام في أزمنة صعبة تتسارع فيها خطي الفوضى والارتباك المعولم.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم