شهادات ومذكرات

علي حسين: 123 عاما على رحيله.. لماذا نحب نيتشه؟

غادر فريدريش نيتشه عالمنا في مثل هذا اليوم " 25 " آب عام 1900 ، في منزل العائلة في فايمار عن عمر يناهز السادسة والخمسين، امضى سنواته الأخيرة يعاني من الامراض.. يصفه احد مريده، وكان شاهدا على الايام الأخيرة من حياته بأن: " هذا الرجل لا يمكن ان يموت، بل أن عينيه ستبقيان معلقتين إلى الأبد فوق البشرية ". كان نيتشه قد تعرض إلى اول جلطة دماغية في عام 1898، وضربته الجلطة الثانية في آب من عام 1900، تروي شقيقته اليزابيث لحظاته الاخيرة مع الحياة: " بدا الأمر  وكأن هذا العقل الجبار في طريقه الى أن يفنى وسط الرعد والبرق، ولكنه تعافى في المساء وحاول التكلم..عندما ناولته كوبا من الشراب المنعش كانت الساعة تشير الى الثانية صباحا، فدفع عاكس الضوء حتى يتمكن من رؤيتي.. فتح عينيه الرائعتين، حدق في عيني بإرادته ومات " – سو بريدو انا عبوة ديناميت ترجمة احمد عزيز وسارة ازهر -.

الفيلسوف العبقري الذي عاش وحيدا ومات وحيدا، لم يكن احد قبله بمقدوره ان يقلب التفكير الغربي رأساً على عقب، ولم يأت أحد بتاريخ متناقض وخطير النتائج كما فعل، وهو الذي يقول عن نفسه " انا ديناميت "، إلا انه يفزع في لحظة من اللحظات من الذين سيستخدمون كلماته:" كم من الناس سيستند يوما من الايام الى سلطتي من غير وجه حق "، وكانت مخاوفه معقولة، ألم يقل يوما وهو منبهر: اضع يدي على الألف القادمة، واليوم في عصر الانترنيت والالكترونيات لايزال الحديث عن نيتشه يشغلنا، ففي كل يوم يولد قارئ جديد سيقرأ فيما بعد سطراً من " العلم المرح " فيدهشه، أو كلمات من "هكذا تكلم زرادشت "  فتسحره، او تغريه عبارة من إرادة القوة، ويظل هذا الفيلسوف الذي مات مجنونا لغز عالمي، فنيتشه كما كتب يوما الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز:" لا يمكن استنفاذه، وقد غرف كل جيل من نبع رؤاه، وسعى الى استنفاذه ، وقد بليت كل الانية وتكسرت، غير انه في العمق، ما يزال النبع نضاحاً لا ينضب "  .

كان نيتشه رجلا ذا مظهر صادم، متوسط القامة، ملابسه بسيطة، له شعر مسحوب الى الخلف، شاربه الكث مرتب ترتيبا دقيقا تخبرنا لو سالومي في كتابها " سيرة فكرية " – ترجمة هناء خليف غني – انه كان هادئا في سلوكه، وله اسلوب واضح ودقيق في التحدث.وتختتم سالومي انطباعها بالقول:" كان الرجل الاكثر تاثيرا وجاذبية الذي قابلته على الاطلاق ".

عند النظر الى صورة نيتشه الشهيرة بشاربه الكثيف ونظراته الحادة التي تبدو متشائمة في كثير من الاحيان، والعينين التي تمنح صاحبها انطباعا بالعزلة والانطواء، وهيأته الانيقة المدروسة، نكتشف حالة الغموض التي حاول ان يحيط بها نفسه، ورفضه وجود مَثَلٍ أعلى،:" انتصتوا ! فأنني على هذا النحو أو ذاك. فبحق الله لا تخلطوا بيني وبين أي شخص آخر "  - هذا هو الإنسان ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد -.

في الرابعة والاربعين من عمره  كتب فريدريك نيتشه:" إذا قُدر لك يوما ما ان تكتب عني.. فاستعن بالحصافة التي لم يتمتع بها احد للأسف، حتى الآن، واذكر خصائصي، اي اكتب وصفا لي لا تقييما لي.. فليس من الضروري على الاطلاق، ان ينحاز احد الى صفي، بل على العكس، إذ يبدو لي ان جرعة من حب الاستطلاع، كالتي يتسم بها من يشاعد نباتا غريبا، الى جانب مقاومة ساخرة، تمثل موقفا ازائي لا يدانيه في الذكاء شيء ".

منذ صدور كتابه الاول " مولد التراجيديا " عام  1872 ادرك نيتشة قوة واهمية كلماته، حيث شبه نفسه " بالقوة القاهرة " التي تكتب لتنتشر الكلمات في العالم، تبرق كاصاعقة، ظل يؤمن ان بامكانه بجرة قلم أن يقسم تاريخ البشرية الى قسمين " قسم عاش قبله، وقسم يعيش بعده " هذه الكلمات التي كتبها في كتابه " غسق الاوثان  " قبل شهرين فقط من فقده عقله، لم يتوقع العالم ان ما كتبه هذا الرجل المجنون كان صحيحا. لكنه سيثبت فيما بعد بانه كان على حق بعد ان اعلن ان هدفه الاساسي كفيلسوف هو كشف الاوهام:" ان الانسان يصل الى العظمة عندما يصبح قادرا على الرقص من دون خوف وهو على حافة هاوية الموت. على حافة هوة وفراغ الوجود اللامعقول ودون ان يتراجع.

منذ سنوات وانا اتابع كل ما يكتب ويترجم عن نيتشه، ولست وحدي من القراء العرب من أغرم بهذا الفيلسوف الغريب الأطوار، والذي كتب عنه الكثير منذ ان كتب فرح انطوان عام 1908 سلسلة مقالات عن فلسفة نيتشة التي وصفها بالنقدية، ثم اصدر عام 1914 مرقس فرج بشارة كتاب بعنوان " هذا هو نيتشه "، مبرراً كتابته  بالسعي لبث الحيوية في التاريخ العربي وإلهام الأمم التي تريد أن تتقدم وتنمو وترتقي بالنوع الإنساني، وما خصصه سلامة موسى لنيتشه  من مقالات نشرها في مجلته الجديدة  ولقي نيتشه اهتماماً من دعاة النهوض العربي، فترجم فيلكس فارس " هكذا تكلم زرادشت " اراد من خلال الترجمة كما يخبرنا  سحق مشاعر الذل والمسكنة في الحياة العربية،  وبث روح القوة فيه، ثم توالت الكتب عن نيتشه واصدر عبد الرحمن بدوي  عام 1939 اول كتبه عن نيتشه وقد كتب في المقدمة:" ما نحن اولا نضع بين يديك اول صورة من صور الفكر الاوربي: صورة حية قوية فيها عنف وفيها قسوة، وفيها تناقض وفيها اضطراب،وفيها خصب وفيها حياة. ونحن نعلم مقدما انك لن تطمئن اليها، وان الكثير من القلق سيساور نفسك بازائها، ونخالنا نرى عينيك الآن وهما تتسعا دهشة واستغرابا، ونحس بقلبك وهو يهتز جزها منها وقشعريرة. ولكننا نعلم ايضا ان هذه  الهزة هي القادرة وجدها على انتشالك من الظلمة التي انت فيها الى نور الفكر الحر والنظر الصحيح الى الاشياء."، ثم كتاب فؤاد زكريا اضافة الى ترجمة معظم كتبه باكثر من ترجمة الى اخر كتاب اصدرته المطابع العربي عن نيتشه بعنوان " الحكمة التراجيدية " من تاليف الفرنسي ميشيل أونفراي والذي يقول انه يقدم في كتابه:" نيتشه الذي ادفع به هش، يحب النساء لكنه لا يعرف كيف يعبر لهن عن ذلك، لذا فانه يحتمي منهن فيظهر كالكاره لهن،إنه صاحب رقة وكياسة ووقار في حياته اليومية، لكنه على الورق يطلق العنان لأحصنته، ويُسمع دوي مدافعه، وازيز رصاصه، ويقتحم جبهات الفلسفة متسلحا بالحكمة الصادقة فقط، انه انسان معطاء، يكتب مثل شاعر كبير " – الحكمة التراجيدية ترجمة جلال بدلة -

لقد ادرك نيتشه منذ سنواته الاولى ان الظاهرة الأساسية القادمة في ثقافة الغد ستكون حتماً هي حاجة الفرد الى تمييز نفسه من الجماعة، ومن أكثر أوصاف نيتشه تاثيرا في النفس وصفه للانسان، والذي يرى نفسه شبيها بالأله، ففي هذا الوصف لايعود للانسان قمة اخرى يسعى اليها. وثمة طابور طويل من الادباء والفنانيين والفلاسفة  وجدوا في عالم نيتشه دغدغة لمشاعرهم وتحفيزا لافكارهم، ويتراوح هؤلاء من شبلنجر الى هرمان هسه،  ومن ريلكه الى عزرا باوند  ومن توماس مان الى أليوت  وحتى سارتر وهيدغر وكامو، هؤلاء جميعا  يجدون انفسهم في كتابات نيتشه، وفي اشعاره الفاتنه، ولا يمكن لاحد اليوم ان يتجاوز نيتشه فنراه أختار لنفسه قناع صاحب الفكر الحر، او الداعية الى الاخلاق، او عالم النفس، او النبي، او المجنون، غير ان فكره يبقلى في ذلك جميعه وجوديا  وتجريبيا  ونموذجيا، وجودي لانه عني بتشكيل حياة نيتشه نفسه، وتجريبي لانه يضع المعرفة والتراث الاخلاقي  جميعه موضع الفحص والاختبار، ثم ان تفكيره نموذجي في الاجابة على مشكلة العدمية التي نادى بها استاذه شوبنهور..لقد شكك نيتشه تشكيكا اساسيا في معظم المفاهيم الفلسفية، وقد جعل ما اسماه كانط " رحلة الجحيم لمعرفة لتعرف الذات " علما فلسفياً.

غالبا ما يعتبر نيتشه احد الأباء الروحيين للفلسفة الوجودية الحديثة التي ظهرت في القرن العشرين، ويكتب عبد الرحمن بدوي ان تاثير نيتشه على سارتر وهيدغر وكامو ربما يفوق تاثير كيركجارد. لا يوجد هدف أبدي ولا يوجد معنى أو مغزى مطلق للوجود البشري، هكذا يكتب كامو في مقدمة اسطورة سيزيف، وهو يقتبس هذه العبارات من هكذا تكلم زرادشت،  يصر نيتشه على ان ما نصادفه في الحياة   مجرد تفاهة ، اطلق عليها تعبير  تفاهة اللامعنى. أن أرادتنا  وقدرتنا  على اتخاذ القرارات هي التي تميز البشر عن باقي  المخلوقات  وان انحطاط الأنسان العصري يظهر في كونه جبانا يفتقر الى فضيلة الشجاعة، لكن ألأنسان المتفوق هو ذلك الذي لايخشى ان يمارس رغبته في بلوغ المجد حتى أعلى المستويات.

ورغم ان الفلسفة الوجودية تدين بالكثير الى نيتشه، وينظر اليه مع كيركغارد، على انهما من رواد الوجودية، الا ان نيتشه يقف في كثير من الاحيان بالضد من كيركغارد الذي يصور الانسان الفرد على انه ضعيف، وعاجز، وجبان، ويجرد الفرد من جميع القدرات الانسانية، ويرى ان فقدان الانسان للايمان بنفسه، يدفعه للايمان المطلق بالله لحل مشكلاته الحياتية. لكن نيتشه يرفض هذا الحل الديني ن وهو يرى ان كيركغارد يحاول حل مشكلات الانسان عن طريق ادارة عقارب الساعة الى الوراء، والعودة الى الحكم المسيحي الذي يفرض تسليم النفس لله، وهذا مستحيل في نظر نيتشه، لان الله قد مات، وربما تكون فكرة موت الاله هي ابرز اسهامات نيتشه في الفلسفة الوجودية.

والان ربما يسأل البعض: لماذا نقرأ نيتشه، ولماذا كتبه لاتزال بعد اكثر من 120 عاما الاكثر مبيعا، فيما لو قمنا بكتابة كلمة نيتشه في موقع " غوغل " ستظهر لنا الالاف الكتابات والصور عن هذا الفيلسوف الذي كان مؤمنا بان مهمة الفلسفة تعليمنا كيف نصير نحن..وتعلمنا كيف نكتشف اعلى مقدراتنا، وكيف نكون اوفياء لها.

قبل اكثر من عامين صدر كتاب يطرح فيه مؤلفه الكاتب الانكليزي باتريك ويست  فكرة تخيل عودة نيتشه الى حياتنا هذه الايام،  ويناقش تاثير نيتشه على عصرنا الحاضر، فهذا لفيلسوف الذي اخترع كلمة السوبرمان، لاتزال افكاره حول طبيعة الخير والشر، وارادة القوى ، تردد صداها في جميع أنحاء العالم، وفي وسائل الاعلام، ونجده يظهر في سلسلة هاري بوتر كانسان خارق ، يطرح الكاتب سؤالا:  هل نحن مدينون لنيتشه، الذي اكد ان " ما هو عظيم في الإنسان،  أنه جسر وليس هدفًا "..

يقول الكاتب أن نيتشه يحب أن يطرح أسئلة. وقد كان يعتقد أنه كلما زادت عدد الأسئلة التي نطرحها كلما زادت الحكمة التي نكتسبها ونطورها في حيانتا بشكل أفضل، وان الانسان عندما يعاني للوصول الى هدفه فان ذلك افضل له ، فالشجاعة هي  في مواجهة الصعوبة، والسماح لنفسك بالعيش بشكل تجريبي، واستكشاف خبرات الحياة بجرأة:" كن ممتنا لأنك لم تأخذ الطريق السهل وتستمر في ذلك مثل "متعرج ممل".

لقد احببت نيتشه منذ ان انتهيت من كتابه " هكذا تكلم زرادشت " قبل ما يفارب الاربعين عاما ، ورحت منذ ذلك الوقت  ابحث عن هذا الفيلسوف الغامض والغريب، جذبني شيئًا ما باتجاهه وبدأت أشعر بإغراء لكل ما كتبه وما كُتب عنه ، وتعلمت منه أن اقرأ بتمعن لاتمكن ان اجيب عن سؤاله الذي يطرحه في كتابه " هذا هو الانسان ": هل فهمت ؟.

يكتب كارل ياسبرز:"  سعى نيتشه إلى قيم الصدق والإلتزام  والحقيقية الاصيلة، متجاوز حدود القدرة الجسدية والنفسية على الاحتمال.  كان بالفعل استثنائي، نعجب به لكن لا نقلده.. فمثل سقراط عاش وعانى بسبب صدق تعاليمه، وكانت حياته اشبه بحطام سفينة، وهو يمثل انذاراً ضد الشطط الذي يجب أن لانتبعه، وفي نفس الوقت يمثل نموذجا للفضائل التي يجب ان نحاكيها ".ويختتم ياسبرز بمقولة نيتشه: " اجل اني لا اعلم من أنا، ومن أين نشات، أنا كاللهب، احترق وبكل نفسي. نور كل ما أمسكه، ورماد كل ما أتركه. اجل اني لهيب حقا ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم