شهادات ومذكرات

حينما يتخلص المفكر من هيمنة الأيديولوجيا

ali almirhigقرأت للرفاعي الكاتب، وعرفته انسانا، فوجدته من العراقيين القلائل الذي يمكن أن يقال عنه أنه تخلص وما زال بعيدا عن التبويب والتصنيف، أقول ذلك لأنه يسعى للحرية، ويشعر بقيمتها للانسان، ولأنه تخلص من هيمنة الأيديولوجيا، وأسر العقائد المغلقة، لينفتح على عالم الفكر الرحب، صار قلبه وعقله بستاناً لكل معرفة، يجتمع فيه الدين والفلسفة والتصوف والاجتماع وعلم النفس، وعلوم التفسير والتأويل ومناهج السيميولجيا.

كأن أركون يحاورك يارفاعي وأنت تحاوره، وكأن ملكيان تكتبه ويكتب نيابة عنك، علنا نستطيع أن نصنع شيئاً من صنيعك، في فك إسار الدين من مؤدلجيه، وفي سعيك للتعلق بأبستملوجيا الدين،كي يكون النص حراً مُلكاً للمتلقي، يفهمه حسب الطاقة والقدرة، بما يجعله انفتاحا في الرؤية، واشراقا للمعرفة بتنوعاتها حسب ثقافة المتلقي.                                

جمع الرفاعي فلاسفة ومفكري ومثقفي الشرق والغرب في مجلة واحدة، كأنه ينظر للوحة واحدة بألوانها المختلفة، كل لون فيها يزيد اللوحة جمالا وبهاء.

لقد وجدنا نيتشه، ووجدنا ملكيان، حاور أركون، وشغف بسورين كيركگورد، حاور شبستري، واهتم بفلاسفة التأويل (شلايرماخر، وغادامير، وبول ريكور). كذلك ساح في رحابة وحدة الوجود لابن عربي، فكان سبينوزا ينطق وحدة للوجود، تجمع الطبيعة الطابعة مع الطبيعة المطبوعة، فكأن الوجود وجهان لعملة واحدة، روحان حللنا بدنا.

لأن قضايا اسلامية معاصرة، هذه المجلة كانت بادارة عقل مثل الرفاعي، فقد كون لها معجمها المفاهيمي الخاص، الذي يعبر من الخاص للعام كي يحضر فيه، ومن العام للخاص لتنشيط الوعي بالهوية.

استطاع الرفاعي ان يجمع ثقافات الاختلاف والتنوع على قاعدة فاليري (الذئب مجموعة خراف مهضومة)، لتنصهر في ثقافة الثقافة وفكر الفكر، خالصا للانسان حينما يريد أن يبقي على انسانيته، بوصفه كائنا خلاقاً بمعزل عن المكان، لأن الابداع لا مكان جغرافي له.

   نعم له مجال فكري حيوي، استطاع الرفاعي تأسيسه بمجلة قضايا اسلامية معاصرة، ومركز دراسات فلسفة الدين، وسلسلاسل كتب: فلسفة الدين وعام الكلام الجديد، تحديث التفكير الديني، وفلسفة وتصوف، وكتاب قضايا اسلامية معاصرة .. فاستحق بجدارة لقب الانسان المؤسسة، أو المؤسسة الانسان، بجهده الفكري، وبقدرته على التواصل مع الآخرين، حينما يعلنون محبتهم للانسان.  

ارتقت معاني الاختلاف في قاموس الرفاعي، لتعانق الحب والتسامح والتعايش، من أجل أن تحقق الأنا وجودها، الذي يعرف بوجود الآخر، فالذات عينها كآخر كما يقول ريكور.

لذلك وجدنا مفكراً مثل الرفاعي، يذهب للاشتغال في مباحث تسمو بنا، لتحقيق انسانيتنا، ببعديها الروحي الوجداني والعقلاني البرهاني، حينما يذهب مع علم الكلام الجديد لكسر دوغمائية علم الكلام التقليدي، ولفلسفة الدين للخلاص من وصاية المشايخ الوثوقيين، ومسيسي الدين.

   وجد الرفاعي أن خلاص الانسان يبدأ من معرفته لذاته وقدراته، على قاعدة سقراط (إعرف نفسك)، لأن من عرف قدر نفسه لا يعرف ربه فقط، بل يعرف قدر الآخرين. إذ يعرف طاقاتهم، امكاناتهم، فيضعها موضعها الصحيح، لا على اساس المتبنى الايديولوجي والعقائدي، بل على أساس الابداع والفاعلية في مختلف المجالات.

هكذا تجتمع انسانية الرفاعي، ببعديها العرفاني والبرهاني، بنظرته المحايدة والايجابية للابداع، سواء كان من شرق الكرة الأرضية أم من غربها، من شمالها أم من جنوبها.

ما بال الكثير من متأسلمي السياسة لا يسمعون صوت هذا الرجل، ما بالهم نسوا قيمة الدين الانسانية في تحقيق العدالة الاجتماعية، التي غابت بوجودهم على رأس السلطة .. أعان الله الرفاعي.

 

د. علي المرهج

أستاذ الفلسفة في كلية آداب المستنصرية ببغداد.

في المثقف اليوم