شهادات ومذكرات
سيف الديــن الولائـــي
كل نظام قمعي استبدادي وحالما يهيمن على مقاليد السلطة ،غالبا ما ترافقه جماعة من المداحين والمصفقين تُشيد بأمجاده الوهمية، وتُلمع صورتــه القبيــحة في عيـون الناس. ويقف في مقدمة هذه الجماعة الكثير من الشعراء والمطربين والملحنين، حيث إن للأغنية تأثيرها الكبير في خلق وتحديد اتجاهات الرأي العام نحو شخصية الدكتـاتور. وهذا ما حصل بعدما تسلم صدام السلطة إثر انسحاب مريب للرئيس السابق احمد حسن البكر في عام 1979. والملاحظ إن ظهور صدام رافقته موجه كبيرة من الأغاني الحماسية من جوقة المداحين والمتملقين والخائفين على حيــاتهم جعلت منه المنقذ للعراق، والفارس المنتظر الذي كانت تحلم به الأجيال . كان الجميع يتسابقون إلى الفوز برضاه، إلا ما رحم ربي من العراقيين الذين لم يستسيغوا أن يفرطوا بمبادئهم وقيمهم، وان يشوهوا تأريخهم بمدح طاغية والتغني على أعتاب قصوره الشامخة بدماء الأبرياء وعذاباتـهم .
ومن أولئك الأفذاذ الذين وقفــوا هذا الموقف المشرف هو الشاعر الغنائي الكبير سيف الدين الولائي . فقد امتنع عن الكتابــة حالما شاهد بأن سفينة العراق تتخبط في بحر لا قرار له يقودها قبطان معتوه . وكان لا بد للسلطة البعثية في بادئ الأمر أن تسترضي الشاعر وتُمنيـه بالمنصب والجاه قبل إتخاذ أية خطوة أخرى، فهو قمة شعرية عالية، وذا شعبية واسعــة، والكلمة التي تصدر منه تمثل إضافة كبيرة إلى رصيد الحاكم المستبد. وفي أول سنة من حكم الدكتاتـور عرض وزير الثقافة والإعلام آنذاك لطيف نصيف جاسم على الشاعر أن يتولى منصب رئيس جمعية الشعراء الشعبيين في العراق. وكان ذلك من المناصب المهمة التي تضفي على من يتولاها الجاه والشهرة وتقربه إلى السلطة وتغدق عليه الأموال . وكان الكثير من شعراء السلاطيــن يتنافسون على الفوز به، لكن الإجابة لم تكن كما يشتهي لطيف، فقد رفض الشاعر ذلك المنصب بإصرار، فاتحا صدره لرماح البعث المتوقعــة في مثل هكذا حالات. لقد أعلن التـــمرد .
إن سيرة حياة الشاعر سيف الدين الولائي انتهت بمأساة كبيــرة، وقد دفع لأجل مبادئه وقيمه ثمنا باهضا من الغــربة والتهجير وفراق الأهل، وحسرات لا تنتهــي على ضيــاع الوطن الذي عاش وتربــى وكتب أعذب أغنياتــه فيــه . تلك الأغنيات التي ما زالت إلى يومنــا هذا حاضرة في وجدان كل العراقيين، تستثير مشاعرهم، وتحفز عواطفهم، وتسمو بهم إلى فضاءات واسعة من الرقـــي والإنسانية . فبعد تهجيره إلى الحدود الإيرانية مع المئات من العوائل العراقية عام 1980، استقر به المقام في دمشق التي لم يلبث بها على قيد الحياة طويلا، فما لاقاه من الم وقهر وحرمــان وظلم كفيل بأن ينهك قلبه الضعيــف . فوافته المنية يوم 25-11- 1984 بعد رحلة حياة حافلة بالأبداع والعطاء، ودفن في مقبــرة الغرباء بجوار زوجتــه التي سبقته إلى العالم الآخر بفترة قصيــرة .
اليوم نحن أمام مسؤولية أخلاقية تجاه الشاعر الغنائي الكبير سيف الدين الولائي، مسؤولية تحتم على الجهات المعنية في الحكومة العراقية أن تعيــد لهذا الشاعر اعتباره، وتبرز مكانته العالية في عالم الفن والأغنية، وما تركه من آثار ايجابية في شخصية الفرد العراقــي . كذا عليها أن تعتز وتستذكر موقفه الشجاع الذي اتخذه إزاء أبشع دكتاتورية عرفها العراق في تأريخه الحديث، ولم يخضع لإغراءاتها وتهديداتها فدفع حياته ثمنا لتلك المواقف العظيمة . إن إطلاق اسم الشاعر العراقي الذي حاول صدام أن ينتزع منه عراقيــته على مؤسسة أو ساحة، أو شارع أو أي مَعْلَم آخر من المعالم الثقافيــة والفنية في بغداد يعد جزءاً من الوفاء لهذا الإنسان العظيم وتخليدا لذكراه . فكما إن الكثير من أسماء مؤسساتنا وشوارعنا قد تغيرت بعد سقوط الصنم بأسماء أخرى تعتقد الجهات المعنية بأن أصحابها ناضلوا وكافحوا ضد الطغيــان فإن سيف الدين الولائي لا يقل عنهم شأنا بل ربما تجاوزهم بكثير في الإبداع والتضحيــة.
للشاعر مئات القصائد التي تنافس على غنائها ألمع نجوم الطرب العراقي والعربــي ومازالت حاضرة بقوة إلى يومنا هذا . فمن تلك الأغاني، غريبة من بعد عينج يايمه – أدير العين ما عندي حبايب – من علمك ترمي السهم ياحلو بعيونك – أخاف احچـي وعليً الناس يگلون – عروسة والحبايب زافيها – ما اگدر أگلك مع السلامة روح والتي غنتها الفنانة الأردنية سميرة توفيق . ويبدو إن كلمات الولائي التي تفيض عذوبة وشجنا مع ألحانها المميزة أعجبت الذائقة الأوربية أيضا، فقد غنت له إحدى المطربات السويديات أغنية _غريبة من بعد عينج يايمه – كذا مطربة أخرى من النرويج غنت _ حرگت الروح لمن فارگتهم بجيت ومن دموعي غرگتهم ... وكِلتـا المطربتيـن اجادتــا في أدائهما إجادة رائعة ومؤثرة . رحم الله شاعرنا العراقي الكبير سيف الدين الولائي .
طارق الربيعي