شهادات ومذكرات

محاضرة "الغَزَل والنسيب"

jawadkadom gloomلم أنسَ ذلك اليوم الربيعي الجميل في اوائل سبعينيات القرن الفائت عند اول عتَبتي في دراستي الجامعية اثناء دخولي كلية الآداب / جامعة بغداد طالبا نازحا من النجف دارسا في قسم اللغة العربية

دخلت محاضرةً كان عنوانها "الغزَل والنسيب في العصر العباسي" تلقيها الدكتورة البارعة والشاعرة المتميزة عاتكة وهبي الخزرجي بصوتها السوناتيّ الناعم الجرْس مثل موجة هادئة تتحرش بالأذن وتغازله فيصل الى شغاف الروح ويلامسها وقدراتها الفريدة على شدّ انتباه الطلبة ولفت أنظار وأسماع الحاضرين المأخوذين بكلّ ما تقوله وتنشده من عذب الكلام ورقّة الشعر وحسن الإلقاء وكأنّ زقزقة عصفورة عاشقة تحنو الى أليفها، حقا كانت هذه الشاعرة المبدعة مغرمة الى حدّ الوله بالشاعر العباسي أبي الفضل العباس بن الأحنف الهائم بمعشوقته التي يسميها "فوْز" دون ان يصرّح باسمها الحقيقي صونا لعفّتها وهو الشاعر غير الماجن، الطاهر السريرة الى حدّ العذريّة وأتذكر فيما قالت من شعره فما زلت أحفظه ومازال خدشه في ذاكرتي منذ أول استماعي دون ان أقرأ وأراجع ديوانه الذي حقّقته بنفسها ونالت شهادة دكتوراه الدولة من السوربون عن هذا الشاعر العالق شعره في روحها الشفيفة:

أرعى المودّة بالزيارة والتعهّد بالسلام

بأبي وأمي من شقيتُ بحبّها دون الانام

ولقد جذلتُ اذا تبدّت باستتار واحتشام

كالشمس لمّا ان بدت للناس من خلل الغمام

وقول ابن الاحنف على لسان وترانيم تلك الاستاذة التي يقشعر حتى الصخر من فرط جمالية بوحها الشعري وهي تنشد:

أتـأذنـونَ لِصـبٍّ فـي زيـارتـكــمْ ---- وعندكم شهوات السمعِ والبصَرِ؟

لايضمرُ السوء ان طال الجلوس بهِ --- عفّ الضمير ولكن فاسق النظر

كانت السيدة الدكتورة عاتكة اضافة الى شاعريتها الدافقة ذات جاذبية ساحرة فهي امرأة تعتني كثيرا بإناقتها المفرطة وكانت تترقب دور الازياء الباريسية على الاخصّ وتختار اجمل ماتطرحه من موديلات الازياء التي تناسبها حتى انها غالبا ماتظهر لنا نحن طلبتها مثل دمية متوردة الخدود باهرة الجمال ولم تطلع علينا يوما الاّ ولبست حُلّة جديدة وخلبت ألبابنا بطلعتها الساحرة وحديثها الشجيّ في كاريزما انثوية كلها سحر وانجذاب

خرجتُ من المحاضرة منتشيا مشبعا الى حدّ الرواء والمتعة العالية من سحر ماقالته وجاذبية إلقائهِا وثراء علمها حتى أثقلت مسيري القصائد العذبة التي ألقتها على مسامعنا وكأني امتلأت خدَرا وأنا اتجه الى غرفتي البائسة المستأجرة في محلة العيواضية وسط بغداد

وقبيل أن أصل الى مسكني؛ مررت على الرصيف القريب من البيت وكان مفروشا بالكتب والمجلات ولمحتْ عيني مجلة بعنوان بارز ارتسمت في غلافها عبارة "الغزل والنسيب" او هكذا خُيّل لي فاقتنيتها على الفور دون ان اتصفّحها كعادتي عند شراء المطبوعات وكأنّ الغفلة والعماء أطبقا تماما على عينيّ

وحالما وصلتُ واسترخيت على فراشي وأمعنت النظر في عنوان المجلة فإذا به "الغزل والنسيج" وهي مجلة مهنية بحتة كانت تصدرها نقابة عمال الغزل والنسيج العراقية وقتذاك، وكم كانت صدمتي مؤثرة اذ لم ألحظ تلك الجيم اللعينة في آخر العنوان فحسبتُ النسيجَ نسيبا؛ ويبدو ان هذا الحرف كان خافيا بلونه الخفيف الباهت أو مغطّى ببقية اوراق الصحف الاخرى المجاورة وعميت ابصاري نظرا لحالة الخدر العائمة فيّ وتأثير محاضرة استاذتي الدكتورة عاتكة

قلت في سرّي لاضير من قراءتها مادامت هي الان في حوزتي، تصفحتها فاذا بي ادهش من جمالية ماانتقت من شعر رائع في صفحاتها الادبية من عيّنات غزليات مجنون ليلى ومجنون بثينة وبعض الشوقيّات منها "ياجارة الوادي" و"مضناك جفاه مرقده"؛ ياللمفارقة الغريبة، هل كان حدسي في مكانه؟؟ وقد أخذتني متعة القراءة ايّ مأخذ وكأنها امتداد لما سمعت من محاضرة أسعدت سريرتي وأبهجت قلبي وعقلي معا

لم يجانب صوابا من قال ان الشعر في العراق يبقى مبثوثا في ارجائنا كلها من زاخو العليا الى جنوب الفاو حتى في نسيجنا العراقيّ وتكويننا الحضاري المتفرّد وغَـزْلنا الروحيّ الناعم وفي عقول وقلوب عمّالنا المثقفين الاوَل، فمثل هذا الذوق الرفيع لم يعد مقتصرا على حلقات الدرس ومقاعد المحاضرات والشعراء والنخبة الثقافية؛ فمحبّو الشعر والادب وقائلوه بعدد نخيل بلادنا ووفره مياه رافدينا وسعة صدور أبنائنا ورحابة أرواحنا المفعمة بالذوق الادبي والفني السليم الذي يزخر به أهلنا العراقيون بمختلف طبقاتهم وشرائحهم وهل ننسى مجلة "وعي العمال" التي رأسَ تحريرها مثقفنا وكاتبنا الكبير البارز عزيز السيّد جاسم وهي تحفل بالزاخر من المواضيع الادبية الراقية ابداعا وتجديدا .. واذا كان هذا الكمّ الشعري قد اختلط غثّه مع سمينه والمثقل بالعافية والناحل بسفاسف الكلام وهزالة المبنى والمعنى وتخالط السامي بالسافل هذه الايام ؛ فهناك من رجع الصدى من يُعيدنا الى تذكّر سلاسة وجمالية وعنفوان ما كنّا قرأناه وسمعناه لنهزج له طربا ونصغي ابتهاجا وتؤنس أسماعنا وأرواحنا ماصدحت حناجر شعرائنا المتميزين الفائقين واساتذتنا العارفين الكبار مثلما وخزني صوت استاذتي الشاعرة الخزرجي وأيقظني من غفلتي حتى قلت فيها:

ياصوتَ عاتكة الذي أتسمّعُ ----- غاب الشّجى والرّجعُ باقٍ ممتعُ

لست ممن يعلق بالماضي ويمسك بتلابيبه واعرف ان هذا الحنوّ المفرط اليه هو تعطيلٌ لطاقة الانسان الحاضرة وعجزٌ عن ترتيب حاضر مبعثر واستكانةٌ عن تخطيط مقبل زاهٍ للاجيال اللاحقة وربما اشبّه الماضي كالليل الحالك السواد ولكن ياله من ليل مرصّع بالنجوم وكم من الصحارى الجرداء القاحلة المقفرة أنبتت وأينعت ورودا بريّة غاية في الجمال شكلا، باعثةً اعطر الرحيق في الأنفاس والأرواح البشرية

أجل هناك نسائم ساحرة توسع الصدر بهجة وحبورا فليس كل الماضي خانقا ولا كل الصحاري والبوادي رياحا سموما حارقة  

 

جواد غلوم

 

في المثقف اليوم