شهادات ومذكرات
عبد الرحمن القيسي: المسرح شعلة النور التي لم تنطفئ في ذاكرته
مازال يحتفظ بكل الأوراق التي تثبت عائديته الى مدن المنافي، يؤرقه وجع الإغتراب ويقلقه سؤالا ساذجا ظل ينقر في رأسه، حتى صار جزءا من تكوينه،وكما هو الآن يبحث في أسطر التاريخ عن إجابة تريحه وترخي عصبه النابض، كمسرح فرغ توا من ضجيج إبتلعه القرف حد الهذيان،وذاكرته الممتلئة، وهويحاول لفظ السنين المرة خارج مدى الجنون ليستعيد أنفاسه مرة واحدة في حياته،ليجد خشبة يعتليها يشكي لها كل همومه، وفي سره لايصدق أن تزامن وجعه الذي رافقه منذ الأزل مع غطرسة شكلت همه الأول، ورغم جور الأيام وآلامها والتي لم تلوث وحدته وروحه ترف المقاهي وسحرها الدافئ،يرتمي بين أحضان زمن جعله يغادر مرغما سنوات البساطة والكهولة الى منازل، كان الحلم قد أودعها عند محطته التي رسم فيها كل جنونه (الصالحية) وسط العاصمة بغداد،إذ تشهد له كنزيلا إرستقراطيا، وكان من أولويات وجعه والذي لم يجد حرجا للبوح به، هو أن يعثرعلى خشبة يعتليها يصاحبها،يرمي اليها كل أسئلته، يجعلها عنوانا ليرى أحبته من خلالها،إذن هي شعلة النور التي لم تنطفئ في ذاكرته، وكلما تتوقد في آفاقه أوداج الحلم يتعثر عند حافة المرمى،لينهض مجددا ليعيد ترتيب فصول مسرحيته ك (شكسبير) عصره. عبد الرحمن القيسي وهو يقول: (شاعرتائه بين الجد والهزل، بين الضحك والبكاء) ..من أشراقته الأولى هو عنوان الكتاب الذي دون فيه ثلاث مسرحيات .. على التوالي (الإشراقة الأولى، قاضي أوراق، حب في آخر الليل) الصادر عن دار الأبداع للتصميم والطباعة والنشر في تكريت للعام2013،تصميم الغلاف للفنان والاديب الصديق أسامه محمد صادق، ولوحة الغلاف للفنان ماهر الآلوسي..
منذ أن وصلني هذا الكتاب في آواخر العام2013، وقد تسنى لي أن أقرأه قراءة عابرة،أول الأمر كما جرت عليه العادة عندما يهدى الي كتاب، ثم أعود لأتصفحه جيدا وبراحة بال،وقد وجدت من الإنصاف أن أقول كلمة حق في طريق القيسي، المسرحي، الشاعر، القاص،وقبلها أخرج للكاتب والاستاذ الكبير جمال نوري مسرحية (أحزان مضحكة) و(حين تحلق الطيور) للكاتب نفسه وأعمال أخرى مسرحية..
*طبول تحت الوسادة..تأليف وإخراج وتمثيل
* رقصة مع الذات.
* في سبيل الحقيقة.
*مملكة النفايات.
سمفونية التحرير تاليف وتمثيل.
حاصل على أفضل نص مسرحي في مهرجان المسرح الفقير،بغداد المسرح الوطني للعام2004..
ماتيسر لي على اقل تقدير هذا الأثر الفني المسرحي، وطالما تمنيت أن اكتشف من خلاله سر توارد خواطر القيسي وهو يجوب الدروب المتعرجة ليخرج منتصرا وليحقق الظفر على قامات كان لها السبق في الشهرة والمعرفة، في بغداد عاصمة الرشيد عندما كانت منارة للجمال والترف والبهجة،ورغم أنه لم يقع في يدي غير هذا الكتاب من أعمال القيسي،إلا أنني أعرفه منذ عقدين من الزمان تقريبا، عرفته من خلال صديقي واخي الكبير الدكتور عادل طالب القيسي شقيقه، الذي رسم لي صورة صادقة وواقعية عن جنوحه الى عالم الفن والكتابة، حتى كنت قد أسست لقاعدة بيانات تهم هذا الرجل الذي حمل أدواته مبكرا من أحدى قرى سامراء المتحفة بالخضرة وبساتين النخيل ليحل طالبا في أكاديمية الفنون الجميلة وينسف كل عثرات البيئة التي أعدته وإحتضنته، ليتمرد عليها وليعلن استقلاله عنها دون خسارة تذكر، الأمر الذي جعله يوظف كل الأفكار النيرة التي نشأ عليها وتفاخر بها بين زملاءه في حدائق كلية الفنون الجميلة، وفي قاعات العرض المسرحي في بناية الإذاعة والتلفزيون، في أعوام التسعينيات من القرن المرتحل،حتى ميزته هذه الإلفة عن سواه بينه وبين دفاتر الأيام التي تملئ جعبته بشتى الألوان والصورعن مكارم الأهل في الديار ودواوين الضيافة وسعة الصدر، والقصائد العابقة برائحة الفخر والعرفان ببطولات الأجداد والعتابا والزهيري، وكل الرموز التي ساعدته ليكون نجما يسطع في سماء بغداد، متسلحا بلغة ممزوجة بين إرث زاخر ومهارة في التهذيب..
في كتابه، (الإشراقة الأولى) هذا، مدار بحثنا والذي وثق فيه كل عناصر القص الحديث، بأسلوبه المسرحي الجميل، ولغته الباذخة الممتعة، وحالما تتوغل بين الأحداث التي صنعها حتى تجد نفسك منهكا من فرط الغزارة في الجمل وروعة الحوار، والشد الذي يوصلك أن تتجاذب أطراف الحديث مع أبطال العمل المسرحي، حتى يوحى اليك أنك أحدهم،إذ تترامى أنفاسك على صفحات الكتاب وأنت تبحر في عالم وصفه في الصفحة (2) ..
(آه.. ايتها المدينة الموغلة في القدم ... كنت تستقبلين الفجر مثل عروس عذراء، وتشرق الشمس من تحت جناحيك لتمنحنا الدفء والطمأنينة..)
وجدت في سرده والحوارات المكتنزة بالعبارات والحكم والأفكار لأحداث مسرحياته والتي شدتني بوثاق محكم ألا أغادر ساحة العرض،ليس لأنني اردت أن اوصل رسالة تميزه فحسب وإنما الوقائع التي دونت وتنوع الأماكن والقدرة على تغيير البنى الإجتماعية حتى تراه يتنقل بين هذا الحدث وذاك، ويخلط بين مزاج النخبة والنظرة الدقيقة لصناعة الحدث وبين المتعة التي حرص ان يوفرها للمتلقي في ضوء خبرته الطويلة في رسم معالم السيناريو المسرحي وبين رسالته المهنية والجدوى من توظيفها،كأمانة أخلاقية ومهنية ينبغي أن تكون مدوية وفاعلة وحتى لا تتقاطع مع من يصنع التاريخ وفي الصفحة16 نسلط الضوء على هذا الحوار بين رجل وإمرأة..
(المرأة:إنك لاتجيد سوى الكلام..والكلام لايجدي نفعا في هذا الزمان الأحمق..
الرجل:بل أتقن القبل الملطخة بالدموع!!!
المرأة:وهل نأكل قبل ونشرب دموع..؟
الرجل: أشهى طبق إفطار قبلة طويلة عميقة خرساء، وأجمل وجبة عشاء إحتضان صدر مليء بالهموم..
المرأة:وهل خلق الله الرجال للحضن والتقبيل فقط..
الرجل:للقتال والحرب والعمل..
المرأة: الضرب على الأشياء يثمر،إضرب بمعولك على الارض تثمر قمحا،وورود،واضرب المطرقة على المسمار تصنع بابا..)
في لغة الحوار التي اوردناها،إستغل الكاتب دفقة الشحن والتعاطف الغريزي المتأصلة بين الرجل والمرأة ومنحهما حرية البوح بسلاسة عما يجول في الفضاء الأنساني من تفاعل حيوي أخاذ وقد أسهم في بلورة مفاهيم التأثيث لهذا الحوار بمزيج من الرمزية والواقعية وتجلت الوقائع من خلال مايضمره الرجل للمرأة وإستبداد الرغبة الذكورية بالسيادة،دائما وحالما تقترب أفكار المرأة الناضجة من هذيان الطرف الآخر فإن النتيجة سنقرأها بهزيمة منكرة للحظة الآنية التي تغطى على ثقافته، والقصد واضح هنا..
لم يبحر الكاتب والمسرحي عبد الرحمن القيسي بعيدا عن الوسط الذي تعلم منه دروس الحياة، الحرب، ونقيضها الكلمة نفسها ولكن ينقصها حرف الراء ،والسؤال هو كيف يتوائم الحرب والحب في مسار مشترك؟؟
غيرأن مارسمه من اشكال تدفع بنا لنقول،إن الكاتب هو إنسان أولا ومن الطبيعي أن الموهبة تحفزه ليصور الاحداث بعقل المبدع المثابر والمتابع، حتى تكتمل رؤاه، ليسجل الوقائع ويوثقها لتصبح فيما بعد جزءا فاعلا ومؤثرا في التاريخ.. في الصفحة64 نطالع..
(أنا إنسان ينطوي أنصياعا لأمر حبيبته، ينحني أمام طلعتها البهية،يموت شامخا وليس متقوقعا في جسده،ويتسائل.. لمن هذا الجسد الذي حل في؟؟
وتأتيه الإجابة واضحة (أكيد إنه لإحدهم، هم كثيرون الذين دخلوا في سماء الحرب انا لست منهم، لم اكن اريد الحرب، أنا حرب بلا راء، انا حب)
الجدير بذكره في هذا العرض المتواضع،هوالدقة في الوصف ورسم معالم البيئة التي يقول عنها المسرح عندما يرفع الستار ليلتقط صورة ملونة لمكونات المشهد القصصي المسرحي.. (مكان في أحد شوارع المدينة،مصاطب إنتظار كانه مقهى أوماشابه ذلك...الوقت فجرا، يدل المكان على الخواء،كأنه مهجور، شاب يجلس على إحد المصاطب يرتدي ملابس شتائية واضعا لفافة حول عنقه، وقبعة سوداء، مضطرب جدا... الرياح تئن... ينهض الشاب ويدور حول المكان..يدخن سيجارة..ينظر..هنا وهناك...كانه يبحث عن شيء ما..يطفيء السيجارة يجلس وينهض..ثم يجلس على المصطبة الأخرى...) .
عندما رمى بجسده على المصطبة الأخرى فإن الكاتب قد أجاد لعبة الوصف وانتهى بالرجل للعبور الى فكرة أخرى، هي اشراقة وجه المرأة التي طرد عتمة الليل ليجعلها زائرا منتظرا ليرشدنا لنقرأ حاجة الرجل الى المرأة مهما طافت به سنين العمر..
وهنالك الكثير الذي يقال عن هذه المسرحيات التي وثقت جانبا مهما من حياتنا،إذلم تبتعد عن آمالنا وآلامنا وأحلامنا،حتى أنعشت فينا تأويل الأحداث بنفس نقدي موضوعي بعيدا عن الأستهلاك الصحافي والمجاهرة السطحية الفارغة،وترسخت القناعة أكثر بأن القيسي الذي تفوق بمغامرته الفنية والشعرية والقصصية والتي لم تأت من فراغ، بل ولدت من تجارب عميقة وثقافة مسرحية جديرة بأن نقرأها ونعرضها مجددا على قارعة إهتمام النخب الثقافية، لتقول كلمة أخرى عنها...
فهد عنتر الدوخي