شهادات ومذكرات

عن بعض العراقيين الذين مرٌوا بموسكو (17)

التقيت الرسام التشكيلي حسين الجمعان بالصدفة في موسكو قبل ايام، وتحدثنا طويلا وتفصيلا وبشكل ممتع جدا . سألته طبعا قبل كل شئ عن انطباعاته ورأيه بشأن مقالتي عنه بعنوان – (العراق في معرض تريتياكوفسكي بموسكو) والتي كانت تدور حول معرضه الفني في تلك القاعة الشهيرة، اذ اني استلمت العديد من الرسائل والاستفسارات عن تلك المقالة. ابتسم حسين الجمعان وقال انها مقالة موضوعية و جميلة و شاملة وتتضمن معلومات مفيدة للقارئ العربي حول تاريخ تلك القاعة واهميتها في تاريخ روسيا الفني ، لكنه لم يكن راضيا، بل وحتى اعترض على تسميته في تلك المقالة ب (الفنان الشاب)، فضحكت أنا وقلت له انه شاب بالنسبة لعمري وليس لعمره اولا، ثم انه لا زال (شابا من وجهة نظري!) في مسيرته الفنية ثانيا رغم كل النجاحات التي حققها في هذا المجال . استفسر حسين عن مضمون الرسائل التي استلمتها من القراء حول تلك المقالة، فأخبرته انهم كانوا يستفسرون كيف استطاع هذا الفنان (الشاب!) ان يصل الى عرض لوحاته في تلك القاعة المعروفة والمشهورة عالميا؟ فقال ان تلك القاعة قد عرضت فعلا لوحات رساميين تشكيليين عراقيين كبار قبله مثل محمود صبري وخالد الجادر وغيرهم في زمن الاتحاد السوفيتي، وانه عرض لوحاته هناك بفضل (الاتحاد الدولي لدعم الفنانين)، والذي اصبح عضوا فيه بعد مشاركته في معرض روسي في بيت الصداقة بموسكو في حينها، وكان رئيس هذا الاتحاد حاضرا في ذلك المعرض واعجبته بعض اللوحات ذات الطابع الشرقي البحت وتناسق الحروف العربية الجميلة في ثناياها، والتي اقتنى بعضها، واقترح عليه الانتماء الى هذا الاتحاد، وهكذا اصبح حسين الجمعان عضوا فيه، وقد ساعده ذلك الاتحاد على توسيع نشاطه الفني والمشاركة في معارض عديدة في روسيا وحتى خارجها، ومنها تلك المشاركة في معرض باحدى قاعات متحف تريتياكوفسكي الشهير بموسكو، والذي كان يهدف لمناهضة الارهاب العالمي والمشاركة بالعمل ضده ، وانه اشترك بلوحة عنوانها – (حمورابي ضد الارهاب)، والتي فازت بالجائزة الثانية عندها، والتي كان من المفروض ان يسافر مع تلك اللوحة الى الفاتيكان للمشاركة في مسابقة عالمية هناك ولكن مرضه – مع الاسف – حال دون ذلك .

حسين الجمعان - عراقي أصيل من منطقة الوشاش الشعبية المعروفة في بغداد، وهو فنان متعدد المواهب الفنية بلا شك، وأذكر انه ساهم بشكل هائل وكبير في حفل تدشين تمثال الجواهري النصفي في جامعة فارونش الروسية عام 2009،والذي أقامه مركز الدراسات العراقية – الروسية في تلك الجامعة عندما كنت رئيسا لذلك المركز، وكيف انه قدٌم في تلك الاحتفالية (اضافة الى مساهمته الفعالة والكبيرة في معرض الفن التشكيلي العراقي المعاصر، الذي تم افتتاحه اثناء ذلك) كلمة حول الجواهري، و قرأ مقطعا (على شكل اغنية على الطريقة العراقية) من قصيدة الجواهري المشهورة - (حييت سفحك عن بعد فحييني،،، يا دجلة الخير يا ام البساتين)، وأذكر ان المواطنة الروسيٌة الموظفة في جامعة فارونش تتيانا فاسيلفنا قد بكت وهي تستمع اليه، وسألتني بعد الحفلة، عن هذا المقطع الذي استمعت اليه، وعن هذا الذي ألقى - وهو يغنٌى بشجى - تلك الكلمات العربية عن الجواهري، فترجمت لها معاني تلك الكلمات وسالتها – لماذا بكيت وانت لم تفهي معاني تلك الكلمات، فقالت انها احست بحزنها العميق، وان طريقة الالقاء والاداء حرٌكت في اعماقها كل الحزن المتراكم في روحها وقلبها بفضل هذا الاداء الفني الرائع لحسين الجمعان، وقد كنت مندهشا جدا لكلماتها تلك (وفخورا بها ايضا) وأخبرت حسين الجمعان بها طبعا .

شاهدت الجمعان مرة اخرى في الحفل الذي أقامته السفارة العراقية بموسكو لمناسبة الذكرى ال (71) للعلاقات العراقية – الروسية (انظر مقالتي بعنوان – العلاقات العراقية – الروسية ..71 عاما)، وكان آنذاك يقوم بدور جديد بالنسبة لي ..لقد كان عريف الحفل عن الجانب العراقي جنبا لجنب مع الفنانة الروسيٌة، وكان متألقا وجميلا وهو يرتدي الوردة البيضاء مع بدلته الرسمية السوداء ويعلن بالعربية اسماء الفنانين المشاركين بتلك الحفلة الجميلة المتميٌزة وادوارهم وما سيقدموه لنا، وقد اعجبني هذا الدور الجديد له في مجال فني عراقي – روسي بموسكو وتلك الثقة الكبيرة بالنفس وهو يؤٌدي ذلك الدور امام جمهور عراقي – روسي كبير، رغم انه (بعض الاحيان) كان لا يلاحظ (وسط هذا التوتر والضجيج) انه ينصب المرفوع ويرفع المنصوب بعفويته وتلقائيته الجميلة، ولكن ذلك لم يعرقل ابدا تقبٌلنا له ونحن نستمع اليه ونصفق له بكل حب.

سألني أحدهم – من هو حسين الجمعان قبل كل شئ ؟ قلت له انه عراقي موهوب استطاع ان يكتشف نفسه ومواهبه في أجواء موسكو الفنية، بعد ان كان شبه مغمور في طرقات الوشاش في بغداد، وانه استطاع ان يعلن عن موهبته المتعددة الجوانب في موسكو بالذات، ولهذا فانه ابن بغداد الذي تفتٌح في موسكو وانطلق منها فنيٌا . كرر زميلي السؤال – ومع ذلك فمن هو قبل كل شئ ؟ قلت له هو فنان تشكيلي عراقي اصيل يتفاعل مع هواء موسكو ويتنفسه . دعونا نمنحه فرصة اثبات الوجود فنيا ، اذ ربما سيعطينا نتاجات فنية جميلة ومبتكرة عندما تتكامل عملية مزج روحه العراقية الاصيلة بالروح الروسية، وهذه تجربة جديدة وفريدة جدا في تاريخ فنوننا العراقية، وهي تتناغم مع الفنون الروسية العريقة . لقد اقتنى ملك البحرين عملا فنيا له وهو عبارة عن (ماتروشكا) روسٌية مرسوم عليها بورتريه، والعمل هذا موجود في مكتب الملك لحد الآن، وشاهدت صورة له عند الجمعان نفسه، عندما كنا نتحدٌث معا حول تاريخ الفن التشكيلي الروسي، ودراسته له، واعجابه الشديد به، وتأملاته بشأن امكانيٌة توظيفه في مسيرة الفنون التشكيلية العراقية .

   دعونا نصفق له، ودعونا نتمنى له التألق وتحقيق النجاحات ...

 

أ.د. ضياء نافع

في المثقف اليوم