شهادات ومذكرات

عن بعض العراقيين الذين مرٌوا بموسكو (19): عطشان ضيؤول الازيرجاوي

الحلقة هذه من سلسلة مقالاتي عن العراقيين الذين مروا بموسكو مكرٌسة للمرحوم عطشان ضيؤول الازيرجاوي (ويكتبون اسمه في بعض المصادر الايزيرجاوي)، الشخصية العراقية المعروفة في تاريخ الحركة الشيوعية في العراق منذ بدايات اواسط القرن العشرين والى تاريخ  وفاته (خارج العراق) بظروف وملابسات  لا زالت لحد الان غامضة .

التقيت عطشان الازيرجاوي  للمرة الاولى في جامعة موسكو صيف عام 1967، عندما كنت هناك في زيارة لموسكو، قادما اليها من فرنسا، حيث كنت طالب دراسات عليا هناك. اخبرني بعض الاصدقاء العراقيين بانهم ذاهبون لزيارة شخص عراقي في غرفة المرحوم مصباح الخيرو (طالب الدراسات العليا في كلية القانون بجامعة موسكو آنذاك) اسمه عطشان، وهو شيوعي عراقي كبير كان (شبه محتجز!) بمستشفى للمجانين في موسكو نتيجة خلافات داخل الحزب الشيوعي العراقي معه، (وقد تم اطلاق سراحه من المستشفى بتدخل مباشر وعنيف، بل وحتى بتهديد من قبل  بعض  عناصر الحزب الشيوعي العراقي بعد الانشقاق الذي حدث في الحزب عندئذ) . ذهبت معهم طبعا، اذ ان الموضوع كان مثيرا جدا وغريبا جدا في آن . استقبلنا زميلنا مصباح الخيرو بكل لطف وترحاب، وشاهدت عطشان الازيرجاوي هناك لاول مرة وهو يتكلم بثقة مطلقة عن النهج الجديد للقيادة  المركزية الجديدة للحزب الشيوعي العراقي وسياستها وتخطيطها وتوجهها لاستلام السلطة في العراق قريبا، ومن ثم بناء الدولة العراقية  الاشتراكية الجديدة . كان حديثه عاما جدا وغير متناسق، ولم استطع في ذلك اللقاء طبعا ان أسأله عن مستشفى المجانين وكل التفاصيل الاخرى المرتبطة بهذه القضية . عرفت من الزملاء العراقيين بعدئذ، ان عطشان كان ضابطا في الجيش العراقي، وتم فصله طبعا بعد ان اصبح شيوعيا، وعاش ظروف العمل السري القاسية للحزب، وخرج الى العلن بعد اعلان الجمهورية في 14 تموز 1958 واصبح احد المسؤولين البارزين عن الخط العسكري في الحزب الشيوعي، وانه كان يطرح دائما فكرة استلام السلطة من قبل الحزب الشيوعي واعلان العراق دولة اشتراكية ، وانه كان مقتنعا تماما بامكانية تطبيق ذلك وبكل سهولة عن طريق انقلاب عسكري يقوم به الضباط الشيوعيون وانصارهم،  ويقال ان رفاقه في الحزب اقنعوه بالسفر الى موسكو(للتخلص منه على الاغلب)، وذلك بحجة الدراسة في المدرسة الحزبية هناك، وربما  لمناقشة هذه الفكرة مع السوفيت فيما بعد، هذه الفكرة التي كانت على ما يبدو مسيطرة تماما على عقله وقلبه .

عند انتهاء ذلك اللقاء العام معه في جامعة موسكو، اخبرته باني طالب دراسات عليا في باريس، فطلب عنواني هناك، و فجأة، وبعد مرور فترة ليست قصيرة على ذلك اللقاء بجامعة موسكو، طرق عطشان باب سكني في باريس، وقد استقبلته طبعا بترحاب عراقي، واخبرني بانه سيبقى يومين هناك، وكان يسكن في فندق متواضع . وهكذا قضينا معا تلك اليومين باكملها سوية مع بعض الزملاء الآخرين . تسنى لي الحديث طويلا معه آنذاك،  وقد سألته طبعا عن مستشفى المجانين في موسكو وقصتها، والتي سمعت بها من الزملاء العراقيين بموسكو كما ذكرت أعلاه . أخبرني عطشان، ان هذه القصة حقيقية فعلا، وانه كان نزيل مستشفى المجانين هناك . كان عطشان على قناعة تامة،ان هذا الحدث جاء نتيجة الخلافات مع رفاقه في الحزب الشيوعي العراقي  ونكاية به، وانه لولا الانشقاق الذي حدث في الحزب لما استطاع التخلص  والتحرر من تلك التجربة الرهيبة في حياته . سألته كيف استطاع الصمود  في تلك الظروف المعروفة في هذه المستشفيات بشكل عام، فقال لي انه كان مضطرأ ان يتصرف مثل هؤلاء المجانين الروس الذين كانوا يحيطون به في تصرفاتهم وحركاتهم وطريقة عيشهم ...الخ  بعد ان درس وتأمل وضعه معهم، وذلك لأن فهم، ان  المجانين لا يطيقون وجود اشخاص يتميزون عنهم، اذ انهم عندها يكونون عدوانيين وخطرين تجاههم  حد القتل. لم ارغب طبعا ان اتحدث اكثر وبتفصيلات عن هذه الحادثة المريرة، التي مرٌت بحياته، وانكث الجراح القديمة  كما يقال، ولكني فهمت منه، انه التقى هناك باجانب آخرين، وببعض الروس المثقفين ايضا، وحتى ادباء،  لكنه لم يستطع ان يحدد آنذاك، هل هم مثل حالته  (اي ادخلوهم عنوة نتيجة مواقفهم السياسية) أم انهم مرضى نفسيين فعلا، رغم انه كان يميل الى الاعتقاد انهم في وضع مشابه له، وانهم كانوا هناك ايضا نتيجة وشايات وخلافات وتناقضات فكرية مع رفاقهم المحيطين بهم  .

تحدثنا ايضا عن جوانب اخرى كثيرة، ولم اجد في ثنايا تلك الاحاديث تحليلات علمية في السياسة والتاريخ  لديه، ولا افكارا  معمقة في الثقافة عموما، ولا زلت أذكر جوابه عن سؤال طرحته عليه وهو – هل توجد لديكم خططا محددة لفترة ما بعد السيطرة على السلطة في العراق، اذ ان ادارة الدولة مسؤولية كبيرة جدا ؟ فقال نعم (نبيع النفط ونبني الوطن الحر السعيد)، فقلت له وماذا سيكون موقفكم مثلا من القوى السياسية الاخرى المعارضة لكم؟

فضحك باستهزاء وقال – (نقطع العضو التناسلي لكل معارض ونضعه في فمه) .

عندما بدأت بكتابة هذه المقالة، بحثت في بعض المصادر العراقية عن معلومات عامة حوله، فوجدت ان رفاقه بالحزب الشيوعي العراقي يشيرون الى نفس الخصائص هذه، وهي المبالغة وعدم الدقة الموضوعية والتسرع باطلاق الاحكام  وعدم امتلاكه للنظرة العلمية والفكرية العميقة...الخ . ووجدت في مصادر اخرى ايضا الاشارة الى انه ساهم – وبشكل فعٌال جدا - في عمليات تعذيب الموقوفين والمتهمين، عندما كان عضوا في لجان التحقيق في المحكمة العسكرية العليا الخاصة بعد 14 تموز 1958، وهي المشهورة بمحكمة الشعب او محكمة المهداوي  (وتذكرت جملته التي قالها لي بشأن الموقف من المعارضة !!!) .

انقطعت اخباره تماما بالنسبة لي، ولكني سمعت من بعض الاصدقاء بعد سنوات طويلة جدا من ذلك اللقاء الباريسي، انهم وجدوه في شقته (في خارج  العراق)  وقد فارق الحياة . ولم استطع ان  اعرف اين كانت  هذه الشقة (قال احدهم انها كانت  في دمشق، وقال آخر انها في برلين الشرقية ،  وقال ثالث  انها في بلغاريا)، وسمعت ايضا انهم وجدوه مقتولا هناك، وقد سألت قبل فترة قصيرة الدكتور خليل عبد العزيز  الذي كان يعرفه شخصيا، والتقى به في المدرسة الحزبية في طاشقند عاصمة اوزبكستان السوفيتية آنذاك، وكتب عنه (انظر- سلسلة مقالات بعنوان -  محطات وشخوص  في حياة الدكتور خليل عبد العزيز /  بقلم فرات المحسن)، فقال لي حرفيا – (انا  شخصيا اعتقد بانه  قد انتحر). 

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم