شهادات ومذكرات

ماريو بارغاس يوسا في بيتنا

شاء القدرُ أن تنقلبَ دنيا العراق في نيسان من عام 2003. وشاءَ أن يفدَ الوافدونَ عليه شقرا وسمرا وحمرا، بين غازٍ مرتزقٍ ومنفيٍ عائد وطامعٍ حالم بموطئ قدم. وشاءَ لباب الوطن أن تكونَ كأبوابِ حاناتِ الغربِ الأمريكي تُفتح بضربة قدمٍ ولا تنغلق على من هم في داخله. وشاءَ أن يكونَ من بين القادمين، مدفوعا باستطلاع حال العراق الجديد والاستفهام عن مستجداته وكتابة سلسلة من التحقيقات الصحفية عنه، الكاتبُ البرواني–الأسباني الكبير ماريو بارغاس يوسا. وشاءَ القدرُ أخيرا أن أكونَ أنا من وقعَ عليه اختيارُ السفارة الإسبانية ببغداد لأكونَ في معيته مترجما طوالَ أسبوعين.

عقدنا جلسةً تحضيريّةً لمعرفةِ ما يودّ الرجلُ الاطلاعَ عليه من فعالياتٍ ومؤسساتٍ ومَن يريدُ لقاءهُ من وجوهٍ ووجهاء.

اختار مقابلةَ محمد باقر الحكيم في النجف، ومسعود البارزاني في بغداد أو السليمانية أو أربيل. وكان في جدولِ نشاطِه جولةٌ حرّة في بغداد فضلا عن زيارةِ مؤسسةِ الشهداء والمفقودين في الكاظمية ولقاءُ سفير الفاتيكان في بغداد وزيارةُ أطلال كليّة اللغات ومقر صحيفة (الزمان)، الأشهر آنذاك بين صحف العراق الجديد.

في النجف التقينا رجل الدين والسياسة العائد من منفاه، وتأمّلتُ حالي وأنا أترجم مقالَ ذلك الرجل الذي ناصب صدام حسين العداوة والتربّص، وتذكرتُ، وأنا أترجم لهذا، وكنتُ ترجمتُ لذاك، قول المعرّي:                          

رُبّ لحدٍ صارَ لحداً مِرارا  ***  ضاحكٍ من تزاحُمِ الأضدادِ

أمّا الزعيم الكردي فلم نظفرْ في بغداد حتى بشارب سكرتيره آنذاك هوشيار زيباري. مع ذلك ذهبنا إلى السليمانية طمعا في لقاء أيّة شخصيّة كرديّة مهمّة، لكنّنا لم نحظ إلا بلقاء مسؤول في التعليم العالي، بينما أمضينا سهرة ذلك اليوم في ضيافة رجلِ أعمالٍ كرديٍ، لم يدّخر مالا في إكرام الوفد ولا كلاما في تحليل الوضع السياسي على الساحة الكرديّة.

في بغداد تنقّل الوفد، ببطله وكومبارسه، من مترجم ومصوّرة فوتوغرافيّة، هي (مورغانا) ابنة الكاتب، وآخرين ينتمون إلى إحدى المنظمات غير الحكومية الإسبانية، بين مختلف الفعاليات.

في شارع المتنبي جلسنا في مقهى الشابندر لتناول الشاي وخرجنا منه قلقين مضطربين إذ اضطرب المشهد وتوتّر الشارع لظهور مجموعة من الرجال المدججين بالسلاح، قيل أنّهم حرس السفير الإيطالي الذي حضر إلى شارع الثقافة للترويح والاستجمام. وتعرّف شاب على وجه (بارغاس يوسا) فسألني إن كان هو ثمّ طلب منّي أن أنقل للأديب البرواني قوله بأنّه كان أولى بجائزة نوبل من (غارثيا ماركيث).

وعرّجنا على مقر صحيفة (الزمان) والتقينا بمسؤول صفحتها الثقافية (لا أذكر اسمه)، الذي قدّم للأديب الزائر استعراضا لوضع الأدب العراقي وحكى له عن عمل مسرحي لفرقة (مردوخ) مستوحى من مسرحية وليم شكسبير (عطيل) وضع له عنوان " ليُطَعْ "، وهو مقلوب عنوان مسرحية الأديب الإنكليزي الشهير.  

وفي يومِ جمعةٍ لاهبٍ قادنا مسؤول في مؤسسة الشهداء إلى بيت عائلة استرعت قصتها ومعاناتها اهتمام الصحفي الكبير، وقبلها شهدنا من على سطح الحضرة الكاظمية المقدسة صلاة الجمعة بعد أن صعدنا مع ثلّة من الشباب كلّفت بمرافقتنا.

ثم كانت لنا زيارة إلى كليّة اللغات وجولة في أركانها المحطمة وأثاثها المنهوب ورفوف مكتبات أقسامها التي تفحمت الكتب فيها، وإن بقيت رمادا شامخا.

تحدّث (بارغاس يوسا) في كتاب (يوميات حرب العراق)، الذي جمع فيه سلسلة مقالاته تلك، عن شعور مترجمه العراقي يومذاك: فقال إنّه لم يلحظه حزينا متألما كما رآه يوم زيارته كلية اللغات ودخوله إلى مكتباتها المحروقة. وأنّى لبارغاس يوسا أن يعلم ما كلّف الحصولُ على كل واحدٍ من كتب تلك المكتبات أيّام الشدّة والعسرة؟

وعنّ لي بعد عودتنا من السليمانية وفراغنا من جولاتنا في بغداد أن أدعو الضيف ومعيته إلى بيتنا. أطلقتُ الفكرة فلقيت الترحيب وإن بعدَ تمنّع من طرفهم:  " لكنّنا سبعة؟! " – قالوا.

وجاء الركب في اليوم الموعود. لم تكن وليمة وحسب، بل استعراضا لكلّ ما مرّ من مشاهدات وتقويما لمجمل الزيارات والحوادث.

أعجب المدعوون بطعامنا العراقي وكتب (بارغاس يوسا) إهداءً على كتاب من كتب ولدي أحمد بعد ما رأى من شغفه بمسقط رأسه غرناطة وولعه بكلّ من يمت لها بصلة، وشجّعني على كتابة مذكراتي عن تجربتي في الترجمة لصدام حسين طيلة سنوات عديدة.

وهكذا مضت الساعات بين طعام وشاي وحديث وعيون متطلعة وفراسة ذكيّة ترى وتحلل كلّ ما ترى وتسمع وتلمس وتحسّ.  

ترك دون (ماريو بارغاس يوسا) كل انطباعاته ومشاهداته تلك في كتابه ذاك، الذي أتمنّى أن تسنح لي فرصة ترجمته ليطلع أبناء لساننا على شهادة كاتب كبير عن حال العراق الذي لم يكد يخرج من نفقٍ مظلمٍ حتّى دخل في آخر أشدّ ظلمةً وأدعى إلى الترقب وحبس الأنفاس.

كان للروائي الكبير نظرته وأمنياته وتصوّره عن بلد لم يقم فيه إلا أسبوعين. عن بلد لا يعرف عنه سوى أن صفحة مهمّة من تاريخه المعاصر قلبت للتو. فكانت المحصّلة وصفا أدبيا رائعا لواقع أرى أنّ نظرُه قصّر عن تحليله تحليلا سياسيا واقعيا، ربّما بسبب خلفيته الليبراليّة المندفعة المتفائلة والمتحمسة لرؤية أيّة ديموقراطية وليدة وقد أتت أكْلَها ناضجة ناجزة.

  

د. بسّام البزّاز

 

في المثقف اليوم