شهادات ومذكرات

(غوانتانامو) 1990

في ذلك العام سافرتُ إلى كوبا موفدا من طرف الجامعة مع مجموعة من طلاب قسم اللغة الأسبانية. وكانت بنود الاتفاقية بين الجانبين العراقي والكوبي تنصّ على أن تكون جامعة (أورينته)، الواقعة في ولاية سانتياغو دي كوبا الشرقية، هي مقر دراسة الطلاب وهي مثابة إقامتنا جميعا.

لا أستطيع في عجالة كهذه أن أروي كلّ انطباعاتي ومشاهداتي في ذلك البلد العجيب على مدى شهرين من الزمان. لذلك سأقصر حديثي على بعض المعالم الثقافية والتاريخية التي جلنا في أنحائها أو تأملناها في تلك المدينة الجميلة.

من بين ما زرنا من معالم ضريح خوسيه مارتي (1853-1895)، بطل كوبا القومي، الذي يتنازع الجميع تراثه، نظاما مدعوما من الاتحاد السوفيتي آنذاك ومعارضة مدعومة من الأمريكان. لقد بُني الضريح بهندسة هي مصداق أبياتٍ كتبها مارتي في قصيدة من قصائده الجميلة الكثيرة يقول فيها:

 

أريدُ أن أتركَ الدنيا

خارجا من بابها الطبيعي

أريدُ أن أُحملَ إلى قبري

في عربة من الأوراق الخضر

لا أريد أن يُلقى بي في مكانٍ مظلمٍ

لأموتَ كالخونة

فأنا إنسانٌ طيبٌ

وسأموتُ كما يموتُ الطيبون

ميمما وجهيَ شطرَ الشمس

 

وكانت ثكنة (مونكادا) العسكرية واحدة أخرى من محطات رحلتنا تلك. ولتلك الثكنة العسكرية في تاريخ كوبا المعاصر دور أيّ دور، ولها قصّة أيّة قصّة. فقد هاجمتها ثلّة من الثوّار بقيادة فيديل كاسترو في السادس والعشرين من تموز من عام 1953، لتعلن من سانتياغو انطلاق الثورة التي حملت كاسترو ورفاقه إلى سدّة السلطة في هافانا في الأول من تشرين الثاني من عام 1959. شاهدنا الموقع العسكري الذي حوّلته الثورة إلى مدرسة ومؤسسة تعليمية كبيرة.

ثمّ عرّجنا بعد زيارة الثكنة - المدرسة على متحف الثورة. كان دليلُنا امرأة ممتلئةَ الجسمِ عليها بدلة رسمية قريبة مما يلبسه العسكر. تتكلّم وكأنّ جهازَ تسجيل زرع فيها: تمرّ تباعا ولا إراديا تقريبا على شريط الصور الفوتوغرافية المصفوفة على الجدران وفي الفترينات، ونحن وراءها نتبعها: هنا قبع كاسترو قبل الهجوم على المونكادا، وهنا أصيب القائد فلان الفلاني، وقرب الرصيف ذاك سقط فلان الفلاني الآخر مضرجا بدمائه. ملابس وأسلحة وصور وعربات ومتعلقات شخصية تمتلئ بها أرجاء المتحف. كتبتُ عباراتٍ في سجل الزوّار وتوجهتُ إلى الدليل واصفا إيّاها بالتاريخ الحي وبالثورة مجسّدة في جسم إنسان.

وحملنا مضيفونا في مناسبة أخرى إلى (غوانتانامو)، إلى أقصى الشرق من سانتياغو دي كوبا. وقفنا على مبعدة من البحر، حيث القاعدة الأمريكية يرفرف عليها علم النجوم الخماسية الخمسين. شخصنا بأبصارنا. لم يكن فيها آنذاك غير العسكر الأمريكان، فلا ابن لادن ولا أفغانستان ولا طالبان بعدُ. لا أذكر أننا رأينا شيئا في تلك الناحية يستأهل الذكر غير القاعدة، لكنّ ما استرعى انتباهنا على التخوم وفي نواح أخرى جرّات الغاز (البوتان) الفارغة المعلقة من أعقابها على الأشجار، لا تفصل بين الواحدة والأخرى سوى أمتار قليلة. سألنا مرافقينا عن سرّ تلك الجرار الفارغة المعلقة، فقالوا لنا إنّها منظومة الإنذار المبكّر الشعبيّة الجماهيرية، تحسبا لأيّة محاولة عدوانيّة من طرف اليانكي.

لا أدري إن كانت تلك المنظومة ما زالت عاملة أم أنّها حدّثت أو ألغيت مع تحسّن العلاقة بين البلدين.

لا بدّ من سفرة أخرى.

 

 

 د. بسّام البزّاز

 

في المثقف اليوم