شهادات ومذكرات

الحبيب الواعي: سيأتي التغيير حتما: بوب ديلن المغني الملتزم الذي مزج بين الموسيقى والشعر لأهداف نبيلة

"نادرا ما يقوم الناس بما يؤمنون به. هم يقومون بما هو مناسب ثم يتوبون" .. بوب ديلن

كان أنسي الحاج صادقا حين قال: "أضع في الشعر كل ما لا يقهرني." وبذلك تكون الموسيقى أيضا وهي تخطو نحو نوبل لتحقق انتمائها الى دائرة اللاقهر، ولتجدر انتمائها في أرض الأدب، وانتمائها الى الشعر بمفهومه الموسع، حيزا شاسعا يكثف الجمال ويحرص على لاتناهيه. وحدها الأصوات التي اعتادت النظر من كوة الادب بمنظار الأخلاق لم تتطق بوب ديلن الذي نزلت أخبار فوزه بجائزة نوبل للأدب كالصاعقة، واختلفت أراء المتضلعين في ميادين الفنون والآداب بين مساند لهذا الفوز ومعارض له لأسباب لها علاقة بزوايا نظر الأفراد المختلفة ومفهومهم للآداب والفنون وقيمتهما الأخلاقية والجمالية. بدا الأمر مثيرا للضحك وأنا أتذكر ذلك المقطع القصير من فيلم "قلوب النيران" حيث يقول بوب ديلن مستبعدا إمكانية وقوع مثل هذا الحدث "لا أعتقد أنني سأكون أحد نجوم موسيقى الروك أند رول الذين سيفوزون بجائزة نوبل."  ماذا لو وقع أن فاز ديلن بجائزة نوبل للآداب كما حدث اليوم فهل سيرفضها كما رفضها جون بول سارتر لأسباب لها ارتباط وثيق بالقناعات السياسية للفيلسوف الوجودي المرموق؟ على أية حال، نحن لا يهمنا الان ما إذا كان ديلن سيرفض الجائزة أم لا، ولا تشغلنا الخلفية التاريخية لميلاد الجائزة وتداعياتها السياسة بقدر ما يشغلنا موضوع العلاقة الكامنة بين فن الغناء والكتابة الغنائية، والموسيقى عموما، بالشعر، وبالخصوص مكانة بوب ديلن وعلاقته بالأدب.

خلال إعلانها عن إسم الفائز بجائزة نوبل للأدب قالت السكرتيرة الدائمة للأكاديمية السويدية سارة دانيوس بأن انتقاء بوب ديلن "لم يكن قرارا صعبا"، وتمنت ألا يتعرض الاختيار لانتقادات الأكاديمية، ثم أضافت قائلة ""نحن نقدر بوب ديلان كشاعر كبير - وهذا هو السبب في أننا منحناه هذه الجائزة. إنه شاعر كبير من شعراء التراث الإنكليزي العظيم الذي يمتد من ميلتون وبليك إلى شعراء معاصرين. إنه شاعر تقليدي مثير للاهتمام وبطريقة أصيلة للغاية، وتقليده ليس فقط على مستوى الكتابة بل على مستوى الأدب الشفهي،" كما أنها قارنت أغاني ديلن بأعمال هوميروس وسافو، مضيفة بأن استحقاقه لهذه الجائزة العظيمة يعود لدأبه على" خلق تعبيرات شعرية جديدة ضمن تراث الاغنية الامريكية العظيم".  تبدو هذه السمات والمؤهلات المميزة مألوفة لدى مغن قضى ما يقارب خمسة قرون في خدمة الفن والفنانين، ولذلك فقد سبق أن حصد جائزة بوليتزر، والتي لا تقل أهمية من نوبل، عام 2008.

ولد بوب ديلن باسمه الحقيقي روبرت آلن زيمرمان في 24 ماي 1941 في دولوث بولاية مينيسوتا التي غادرها باتجاه غرينتش فيلاج بنيويورك باحثا عن فرص أكثر للنجاح، وبرز على الساحة الموسيقية هناك عام 1961 كفنان عرف بتقليده لمغني موسيقى الفولك أمثال روبرت جونسن وودي غوثري الذي اشتهر بغنائه الاحتجاجي. لقد كان ديلن ذكيا لأنه سبر أغوار المشهد السياسي والثقافي الأمريكي في ستينات القرن الماضي، ولاحظ حاجة ملحة لغناء ملتزم واحتجاجي ينتقد الوضع بأمريكا، واختار أن يتقمص دور المغني والشاعر التروبادور الذي يجوب العالم عازفا على قيتارته في نوادي ومقاهي وحانات غرينتش فيلاج بنيويورك. ومنذ البداية، سحر ديلن بكلماته الرائعة وأسلوبه الفريد في تأليف الأغاني العديد من الفنانين والنقاد حيث حصلت أغنيته "في مهب الريح" عام 1963 على المرتبة الثانية في سباق أحسن الأغاني. تمكن بصوته الأجش ومظهره البسيط أن يجذب جماهير غفيرة من جميع الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية ويحافظ على جذوة تعاطفهم وتتبعهم لمنتوجه الغنائي والفني. فإلى ماذا يعزى سبب نجاح ديلن السريع وما الذي يجعل منه شاعرا أو كاتبا يدعو بالضرورة إلى ترجيح كفته على كتاب آخرين أمثال مارغريت أتوود، نغوغي وا تيونغو، هاروكي موراكمي، فيليب روث ودون دوليلو؟

إن سبب نجاح ديلن السريع يعزى إلى الطفرة التي حققها من خلال إعادة بلورة التراث الفلكلوري الانجليزي والأمريكي في قالب فني فريد يميل أشد الميول إلى الشعرية منه إلى الموسيقية المبتذلة، فالمستمع يجد نفسه أمام قصيدة مغناة عندما ينصت إلى أغاني ديلن، وكأنه يقرأ قصائد والت ويتمان أو إيميلي ديكنسون بصورها الجسورة والصادمة مرفوقة بلحن شجي ومثير. كلمات ديلن الغنائية شعرية في جوهرها لأنها تعتمد الاستعارات بكل أنواعها وتستند على الايقاع الشعري الكلاسيكي، كما أنها تعتمد إيقاعا منتظما يشبه قصائد نثر مكتفة يتأمل من خلالها مواضع الحرب وتأثيرها على النفس، وحسرة الخيانة والموت والاستغلال البشع؛ وبذلك أضفى جمالا باهرا على أشد تجارب الحياة الانسانية مأساة، وتتميز الشخصيات الأدبية، والمواضيع، والصور الشعرية السريالية التي تؤثث المشهد الموسيقي لديلن بعمقها وتنوعها وجزالتها على مر السنين مما يعكس إحاطته بالتاريخ والتقاليد الشعبية. يقول الناقد والباحث كريستوفر ريكس في كتابه "رؤى ديلن للخطيئة": "يكمن وجود ديلن الفريد في فن تتعرى فيه الذنوب(وتقاوم)، وتتم فيه منح الفضائل قيمة (وتتمظهر من خلاله) وتتم فيه جلب البركات." تم يضيف قائلا: "تعاملات الانسان بشتى أنواعها متاحة له من خلال الفهم الفني". وقد جذب الأنظار وسلطت عليه الاضواء من خلال أغان احتجاجية رنانة مثل "أسياد الحرب"،" الأزمنة تتغير"، "في مهب الريح"، "مثل حجر متدحرج" و" مطر قوي سيسقط،" والتي شكلت حينها أناشيد للحركات المناهضة لحرب الفيتنام وحركة الحقوق المدنية الداعية إلى وقف التمييز العنصري بكل أشكاله. وتعتبر مشاركته كمغن في مسيرة واشنطن عام 1963، والتي نظمتها حركة الحقوق المدنية بزعامة مارتن لوثر كينغ، بمثابة بداية حقيقية لمساره كمغن ملتزم سيذيع صيته في جميع بقاع العالم.

مما لا شك فيه، أن ديلن قد تأثر كثيرا بالشعر، ويعتبر آرثر رامبو وبول فيرلين جنبا إلى جنب مع وودي غوثري من أهم الذين يستمد منهم حساسيته الجمالية وأسلوبه، ولعل أهم حدث يبين عن تأثره بالشعر تخليه عن إسمه الأصلي روبرت ألن زيمرمن وتبنيه لاسم بوب ديلن كتشريف للشاعر الويلزي ديلن توماس ومكانته في الشعر الحديث، وقد وصف نفسه ذات مرة بأنه "شاعر الستينات المتجول". وبالرغم من أن تأثير ديلن طوماس لم يكن واضحا بما فيه الكفاية فيمكن للمرء أن يتلمس سيمات هذا التأثير من خلال قصائد ديلان طوماس. على سبيل المثال، نلاحظ أن العديد من قصائد طوماس تتمحور حول الصراع القائم بين المتكلم وقارئ القصيدة، والصراع القائم بين بنية القصيدة واللغة، وحتمية الموت من جهة. في قصيدة طوماس "ولن تكون للموت أية سيطرة علي"، تعرض بوضوح هذه المشكلة كما يوضح هذا المقطع الشعري:

ولن تكون للموت على سيطرة

سيكون كل الناس سواسية في عرائهم

كما أننا نلاحظ أن العديد من أغاني ديلن الأولى تشبه في تناولها لتيمة الموت قصائد طوماس، وربما نستحضر قصيدته "دعوني أموت في خطواتي" والتي يستهلها بالأسطر الاتية:

لن أنزل أسفل التراب

فقط لأن أحدهم قال إن الموت آت

 

في حين تبدأ أغنيته "الوفاة الموحشة لهاتي كارول" والتي كتبت للرد على جريمة قتل وحشية لامرأة سوداء من قبل مزارع تبغ شاب ثري، ويستهلها ب:

قتل وليام زنزنغر الفقيرة هاتي كارول

بعصا يلوح بها حول أصبعه الذي يرتدي خاتما من الألماس

على الرغم من أن المثال الثاني يشير إلى حدث معين، ولغة قوية لا تزال تثير الصراع مع الموت، والأهم من ذلك، والرغبة في إضفاء معنى على حدث سخيف. وفي  أغنية"أسياد الحرب" يستخدم ديلن لغة جزيلة بشكل متعمد على غرار طوماس كي يظهر الصراع القائم جراء قضية الاحتجاجات ضد الحرب الباردة وتكديس الأسلحة، ويستهلها كما يلي:

تعالوا أسياد الحرب

أنتم الذين تصنعون البنادق

أنتم الذين تصنعون طائرات الموت

أنتم الذين تصنعون القنابل الكبيرة

أنتم الذين تختبئون وراء الجدران

أنتم الذين تختبئون وراء المكاتب

ويلاحظ المتتبع أن عمل ديلن انحرف عمدا الى الشعر فقد ألف في عام 1966 كتابا من القصائد والنصوص النثرية أطلق عليه " الرتيلاء،" كما أن أعماله الموسيقية تتخللها إشارات وتلميحات جمة إلى مراجع أدبية تبين عن سعة اطلاعه، ويمكن أن نستشهد، على سبيل المثال، بهذا المقطع من أغنيته "مسار الخراب،" التي صدرت مرة أخرى عام 1965 تحت عنوان "الطريق السريع 61: إعادة نظر":

الحمد لإله نبتون الذي يملكه نيرو

باخرة التيتانيك تبحر في الفجر

والجميع يصيح

"أي جهة تساند؟"

وإزرا باوند وت. س. إليوت

يقتتلان في برج القبطان

بينما مغني الكاليبسو يضحكون عليهم

والصيادون يمسكون بالأزهار

ليس الأستاذ والباحث كريستوفر ريكس الوحيد الذي يعتبر ديلن شاعرا أميركيا عظيما فقد تكررت الإشادة بعمله ككاتب كلمات أغان وشاعر وخصصت أعمال أكاديمية لتحليل موسيقاه كما أنجزت دراسات حولها في العديد من المنابر والمراجع الأكاديمية كمقدمة نورتون في الأدب التي نشرت كلمات أغنيته "الرجل ذو الدف،" وتضمن كتاب أوكسفورد للشعر الأمريكي أغنيته "مسار الخراب "، في عدده الصادر لعام 2006، وأصدرت مطبعة جامعة كامبريدج "المرافق في دراسة بوب ديلان"  عام 2009 كما نشرت جامعة ييل كتابا للأستاذ ديفيد يافي بعنوان "بوب ديلن: كنكرة مطلقة" ،  بالإضافة الى كتاب أستاذ الشعر كريستوفر ريكس بجامعة أكسفورد المعنون ب "رؤى ديلن للخطيئة" وكتاب يوجين بناوش، الباحث في الدراسات الأدبية و الثقافية، الموسوم "انكسارات بوب ديلن"، و"مختارات شعرية  حول ديلان" ، الذي ألفه كتاب محترمون كألين غينسبرغ، جويس كارول أوتس، ريك مودي، وباري هانا. هذا في الحين الذي تستعد فيه جامعة تولسا بأوكلاهوما لاستقبال أرشيف بوب ديلن الذي يشمل 6000 مادة تغطي 60 عاما من الإبداع والتأليف.

لم يقتصر مفهوم الالتزام السياسي لدى ديلن فقط على المشاركة بأغان وموسيقى تعكس الغليان السياسي الذي شهدته أمريكا خلال الستينات بل تجاوزه الى إظهار اهتمامه بالحركات المناهضة للثقافة حيث لعب دورا حاسما في نشر وعي الطبقات الشعبية بحركة الهيبي hippie، وأبان عن مساندته كذلك لحركة جيل البيتBeat Generation التي أشعل شرارتها الأولى كل من الن غينسبرغ، جاك كيرواك، وويليام بوروز. يقول ديلن في إحدى مقابلاته عما 1985: "جئت من البرية وبطبيعة الحال انسجمت مع المشهد الثقافي لجيل البيت، والبهيميين، ومع حشد موسيقى البيبوب، كان كل شيء مرتبطا الى حد كبير... كان تأثير جاك كيرواك، غينسبيرج، وكورسو، وفيرلينغيتي شديدا أكثر من إلفيس بريسلي، " مما يدل على الترابط والتلاقح الذي يوجد بين الشعري / الأدبي و الموسيقي / الفني لدي ديلن. خلال السنوات الأولى من حياته الفنية، تأثر ديلن بشكل كبير بجيل البيت وأعجب برواية "على الطريق" لجاك كيرواك، وأشعار لورنس فيرلينغيتي وألين غينسبرغ الذي سيشكل حدث الالتقاء به في بداية الستينات بداية صداقة وثيقة نتج عنها مجموعة من المشاريع الإبداعية. يقول غينسبرغ وهو يذكر أول لقاء لهما: "التقيت للمرة الأولى ببوب في حفل في مكتبة الشارع الثامن، ودعاني لأذهب معه في جولة موسيقية، إلا أنني لم أذهب، لو كنت أعلم ما أعرفه الآن لذهبت معه دون أن أفكر في الأمر. ربما دعاني أنداك الى الخشبة كي أغني معه ". ومع مرور الوقت، توطدت علاقة غينسبرغ  وديلن عبر عنها بحميمية هذا الأخير في أغنية عنوانها: "نراك في وقت لاحق، ألين جينسبيرج". وفي نونبر عام 1971، تعاون كل من غينسبرغ وديلن على كتابة أغان جديدة تم تسجيلها في ألبوم صدر للمرة الثانية هذا العام، وقد أدى غينسبرغ دور المغني بينما عزف ديلن على القيتار والهارمونيكا ودعم الغناء. تم تسجيل الأغاني في مصنع سجل في نيويورك، كما أديا معا خمس أغنيات في برنامج تلفزيوني لقناة PBS بنيويورك وسجلت بحضور كل من بيتر أورلوفسكي وغريغوري كورسو. وقد أسهمت كل هذه اللقاءات والمشاريع الابداعية بين ديلن وغنسبرغ الى دخول هذه الأخير في مرحلة جديدة من النشاط الاجتماعي والسياسي حيث ضم صوته إلى نورمان ميلر للدفاع عن الحرية الجنسية وحرية التعبير كما في حالة بوروز وروايته "الغداء العاري". وفي عام 1975 بدأ ديلن تصوير فيلم جولته الموسيقية المعنونة بمجلة الرعد المجلجل والذي يحتوي على مشاهدين لغينسبرج كمرشد لديلان في مدينة لويل خلال زيارتهما لقبر كيرواك. وأثناء احتفال لورنس فرلينغيتي في مكتبته سيتي لايتس بآجر لقاء لجماعة البيت فاجأ ديلن الجمع بزيارته قبل أن يلتحق بأفراد فرقته في سان جوزي على متن عربة الن غينسبرغ وأرلوفسكي ومايكل مكلور.

إن منح جائزة نوبل لمغن من طراز بوب ديلن يبين عن تحول في الحساسيات الجمالية ويعيد رسم حدود الأدب. إنها فرصة سانحة للاعتراف بالدور الفعال الذي تلعبه الموسيقى في تقليص هامش معاناة الإنسانية، وهي كذلك تثمين لمجهودات ديلن في توسيع هامش التلاقح والتبادل بين جميع أنواع الفنون من خلال إلهامه لأجيال جديدة من الموسيقيين والشعراء.  فهنيئا للمغنيين والشعراء.

 

الحبيب الواعي - أستاذ وباحث من المغرب

 

في المثقف اليوم