شهادات ومذكرات
فيصل رشدي: بابيه الشيخ أسطورة أولياء الصحراء
إن التاريخ الحقيقي، هو التاريخ الذي يعيد نفسه دائما، فتاريخ الإنسانية هو تاريخ حافل بالعديد من البطولات والأمجاد التي استطاع أصحابها أن يفرضوا وجودهم بالمعرفة والقيم النبيلة.
ومن بين هؤلاء الرجال العظماء الذين تركوا أمجادهم ومواقفهم عبر التاريخ، رجل يعتبر حكيم زمانه وسيد قبيلته، وهو العارف بأصول وأحكام القضاء، إنه المعلم والفقيه والعلامة " الولي الصالح بابيه الشيخ"، الذي يعتبر شيخ الصحراء بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
أما نسبه، فهو بابيه الشيخ ابن محمد ابن قاسم ابن الولي الصالح " سيدي أحمد الركيبي"، حفيد كل من الوليين الصالحين عبد السلام ابن مشيش و إدريس الأول. وينتهي نسبه إلى آل البيت، فقد رأى بابيه النور عام1700 بوادي الساقية الحمراء، وهناك تربى وتعلم القيم الفاضلة التي ورثها عن أبيه وجده رحمة الله عليهم. فللشرفاء تربية خاصة يخصون بها أبناءهم، من بينها: حفظ القرآن، والأخلاق الفاضلة، الكرم والجود، والدفاع عن المظلومين و صون الشرف .
تتلمذ بابيه على يد والده فضيلة الشيخ محمد ابن قاسم، وحفظ القرآن، إذ لم يطل المقام بالعائلة وسرعان ما ستشد الرحال صوب منطقة " حوزة"، التي لن يظل بها بابيه طويلا، لأن رغبة والده هي آخذ العلم، ومجالسة العلماء .
وهذا ما جعل بابيه يسافر إلى مدينة مراكش، التي كانت تبعد قرابة ألف كيلو متر عن حوزة، سافر بابيه ولم يقوى على السفر لأن حبه لأهله كان يسكنه وحبه لإخوته خاصة الفقير وداود.
وصوله إلى مراكش كان مقدم خير على بلاد "السبعة رجال"، فتتلمذ بابيه على أيدي العديد من الأساتذة الذين أجازوه في علوم القضاء وعلوم الفقه من بين هؤلاء الأساتذة محمد بن أحمد العبادي .
رجع الشيخ إلى أهله محملا بالعلم، ولازم مضارب حوزة وادي الساقية الحمراء، بعد وفاة والده محمد، سيترأس بابيه القبيلة، فهذه هي الرابطة التي خلفها فيهم جدهم "سيدي احمد الركيبي" الذي كان سيدا هو الآخر على أهله.
إذ سيحمل بابيه لقب الشيخ الذي سيلازمه طوال حياته، ويقال بأنه كان قاضي محترم، عمل بما تقتضيه أعمال القضاء، في إنصاف المظلوم والأخذ بحقوق اليتيم، وإنصاف حقوق المرأة ليعتبر رجل زمانه وحكيم قومه.
ذاع صيت العلامة في الصحراء، فأصبحت الوفود تتوافد عليه للتبرك بعلمه الذي لم ينقطع أبدا، إلى حد الساعة، فلازال حفدته أهل علم وأدب وأخلاق، وقبائل أخرى تتلمذت على يديه الكريمتين، إلى حد الآن، لازالوا يعتبرونه المعلم الأول بكل وفخر و اعتزاز.
بابيه كان عالما زاهدا، ورجل تقيا نقيا، يخاف الله، وأراد لنفسه إشعاع القيم النبيلة، خاصة في رحلته الأخيرة إلى أسرير، القرية القريبة من مدينة كلميم، التي لازمها مدة من الزمن فكان مقدمه مقدم خير لتلك القبائل، التي أكرمت وفادته، و أعلت مقامه، فكان نعم القاضي ونعم الولي ونعم النصير الناصح .
كانت فترة مقام بابيه هي فترة ذهبية لأهل أسرير وأهل وادنون، فأحبه الناس، وتعلقوا به تعلقا شديدا، فرزق الشيخ بولدين هما علي ومحمد الملقب "بلكحل" كبرا في عزه وتتلمذا على يديه.
تتجلى حكمة الشيخ، في رجاحة عقله، عندما احتار أهل أسرير خاصة و وادنون عامة إنصاف امرأة "جارية" ضاع حقها، فما كان من المرأة "الجارية" إلا أن قصدت الشيخ، فكان نعم الناصح فقد ساعدها على محنتها وفك مشكلتة ولدها بطريقة ذكية احتار الرجال في طريقته . فحكمته كانت لها دلالات كبيرة، فأنصفت المرأة وشكرت بابيه، على فكرته، وقالت قولتها الشهيرة في سوق أمحريش " المحادي لمدينة كلميم أمام جمع غفير من الناس، "إن هذا الرجل مشيرة بأصبعها إلى (بابيه الشيخ) لولي الله، وإن لسانه لينطق بالحكمة، شجاع لا يهاب أحدا، قوله كفعله، وموقفه سيصبح حكاية لأبنائنا نحكيها لهم على مر العصور"
في موقف آخر للشيخ كانت قبائل الصحراء تتطاحن فيما بينها قرب مدشر لقصابي، فجاءهم على ظهر ناقته وقال لهم كلمته الشهيرة " أوقفوا الحرب، فالحرب لا تولد سوى الأحقاد، املئوا هذه الأرض بالخير واسعوا إليه، فعيني لا تقدر أن ترى إمراة مكلومة، ولا ابنا يتيما فقد أباه وهو في أمس الحاجة إليه". مواقف صارت تحكى في كل زمان ومكان، وهي أيضا مواقف تحسب للشيخ بابيه، لا يمكن للتاريخ أن ينساها، إنها الذاكرة الشفهية، التي احتفظت بهذه الحكايات وبقيت إلى يومنا هذا صدا يصدح في أرجاء المعمورة.
للإشارة فقط بأن سوق أمحريش تعود فكرة تأسيسه إلى "الشيخ بابيه" الذي اعتبر هذا السوق سيكون سوقا عالميا تأتيه الناس من مالي و السينغال والجزائر وموريتانيا ودول جنوب الصحراء، هذا السوق هو أكبر علامة على حكمة الشيخ بابيه، الذي لن ينساه التاريخ بفضل إنجازاته التي نغفل اليوم أنه كان طرفا رئيسيا فيها.
مات بابيه عن سن الثانية والستين 1762 ليعم الحزن على الصحراء وأهلها، في موت ولي صالح، وشيخ حكيم وأب استطاع أن يكون هو أسطورة زمانه. أب حمل مشعل الأولياء، ولازال أبناؤه يحملونه المشعل لقوله عزوجل" أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" صدق الله العظيم سورة يونس الآية .62
ترك بابيه ابنين وهما علي ومحمد ، فعلي ترك خمسة أبناء وهم: أيا، لحسن، أبا حميدوش، موسى، يحيى. أما لكحل فترك أربعة أبناء وهم: حيون، سيدي لمين، سيدي بيلال، آبا أمبارك، وهم أبناء وحفدة بابيه رحمة الله عليه.
دفن بابيه الشيخ بأسرير الواقعة قرب مدينة كلميم، ولازال قبره اليوم شاهدا عليه وعلى عظمته ومجده، فالتاريخ يذكر الرجال الذين بصموا فيه، وتركوا أقوالهم حكما لعامة الناس، وزاويته هي صدر رحب لكل الوافدين باختلاف مشاربهم، إنها تأوي الغريب، وتكرم الضيف، وتنصف المظلوم، إنها باختصار مدرسة بابيه الشيخ أسطورة أولياء الصحراء .
فيصل رشدي، طالب باحث