شهادات ومذكرات

مهدي الأنباري كما رأيته

jawad abdulkadomفي محل قريبه الأديب أحمد زكي الأنباري كانت أولى لقاءاتنا في منتصف التسعينيات، وكانت أحاديثنا تتناول تراث مدينة المسيب وأخبار الأدباء والحالة المزرية التي وصلها البلد بسبب سياسة حاكمه المتهورة وما نتج عنها من حروب مدمرة وحصار خانق وتردٍ في جوانب الحياة كافة .

ومنذ بداية هذه اللقاءات لمست ارتياحه لحضوري واحترامه الشديد لي ورضاه عن طروحاتي، وهو لا يمنح رضاه بسهولة للآخرين كما عرف الجميع، وقد علق أحد الأصدقاء ذات مرة مازحا وقد استوقفته حالة الانسجام بيننا: (إنك تتحدث كما يريد ولذلك لم تختلفا)!! وحقيقة الأمر أني كنت أبادله الاحترام الشديد، واستمع إليه بتأن من دون اعتراضات وجدل، وأطرح أفكاري عليه بأسلوب لين وهدوء تام من دون تشدد أو تعنت، وإذا حصل اختلافنا في مسألة، ووجدته مقتنعا به لديه ومصرا عليه تجاوزت النقاش إلى غيره من المشتركات بيننا وما أكثرها .

وبعد مدة قليلة دعاني إلى زيارته في علوته الواقعة داخل سوق العلاوي عند التقاء هذه السوق بشارع مكاوي، ويجاور العلوة مكتبه للمحاماة الذي أغلقه بعد شيخوخته وشعوره بالتعب والإرهاق، وكان قد فتحه مرحبا ومتبرعا به لمنتدى أدباء المسيب عند إنشائه سنة 2003م، وجعله مقرا ومكانا لنشاطاته، وفي زياراتي المتكررة له التقيت مجموعة من الوجهاء والفضلاء الذين كانوا يغشون مجلسه، منهم قريبه القاضي طارق المعموري رئيس محكمة استئناف الرصافة الأسبق بعد تقاعده، وشقيقه المحامي خالد حسون، وحسن جواد العماري، وصادق الجلاد وغيرهم ممن مضوا إلى رحمة الله تعالى .

1345 mahdi abasفي تلك السنين كنت أحمل معي على الدوام دفترا صغيرا أسجل به ما أسمعه من معلومات مفيدة واستذكارات جميلة، واحتفظ اليوم في أرشيف مكتبتي بحدود خمسة عشر دفترا ملأتها بما سمعت من تلك المجالس التي كنت أرتادها والأفراد الذين التقيتهم في تلك الحقبة، وقد استفدت منها كثيرا في كتاباتي المتنوعة، وأعدها واحدة من أهم ثرواتي الثقافية .

كانت أسئلتي لمهدي الأنباري سيل لا ينقطع، وكأني في سباق مع الزمن ؛ سألته عن مشاهداته القديمة لمدينة المسيب، وعن حياته الثقافية والسياسية، وعما بقي في ذاكرته من أخبار الناس ونشاطاتهم في العقود الماضية، وقد حدثني بالكثير من خزين ذاكرته المتوقدة، ولعل من أمتع ما حدثني به تراثيا وصفه التفصيلي لـ (دربونة عسلة) وساكنيها قديما، وهي أشهر الأزقة في محلة النزيزة بل المسيب بأسرها ؛ كما شجعته منذ أول لقاءاتي به على الكتابة والنشر بعد أن رأيت سلاسة أسلوبه وفائدة معلوماته، وبالفعل نشر مجموعة من المقالات والقصص القصيرة في جريدة (العراق)، واحتفظ بعدد منها، وبعد سقوط النظام سنة 2003م اندفع للكتابة في مختلف الموضوعات في جريدة (التآخي)، وكان يحدثني عنها ويزودني ببعضها .

بدأ الانباري المولود سنة 1929م حياته المهنية في التعليم سنة 1952م، وقد أحب عمله وأبدع فيه، ورعى تلاميذه حق الرعاية، قال إنه في بداية كل سنة دراسية يشتري قطعة القماش الأبيض، ويقوم بقصها إلى قطع صغيرة بحجم المنديل، ويوزعها على تلاميذ صفه، ويطلب منهم صباح كل يوم الذهاب إلى المغاسل لغسل وجوههم والتمضمض والتمخط ثم مسحها بهذا المنديل الصغير الذي زودهم به مجانا كي يعودهم على النظافة .

وله في كل مدرسة عمل فيها ذكريات جميل وطلبة مجتهدون يعتز بهم، ومن تلك المدارس التي أحبها في المسيب مدرسة المسيب الأولى للبنين ومديرها فاضل بابان، ومدرسة اليوسفية في ناحية أبي غرق، وكان ينشئ مكتبة في كل مدرسة يعمل فيها وينظم سجلا لها، ويشجع التلاميذ الصغار على استعارة كتبها ومطالعتها .

ولنشاطاته السياسية المبكرة تعرض للسجن والاعتقال والفصل قبل تموز 1958م وبعده، وعانى من ضغوطات الحياة المتعددة وخاصة المعيشية في تلك الظروف الصعبة، وبعد عودته للتعليم أكمل دراسة القانون سنة 1973م، وتقاعد عن العمل سنة 1981م، وتحول إلى المحاماة، فكان من المحامين المعدودين بنبوغهم وسمعتهم الطيبة في المدينة، وتدرب على يديه عدد غير قليل من محامي المدينة الجدد .

قال لي مرة إن ثلاثة من التلاميذ في مدارس مدينة المسيب أثاروا انتباهه مبكرا بذكائهم العالي، وكان يتوقع لهم مستقبلا زاهرا، لكن الظروف سارت معهم بما (لا تشتهي السفن) فلم يتحقق طموحهم وما كان يرجوه لمستقبلهم، وهم عبد الحسن الكبيسي وقاسم عبد الأمير عجام وأحمد مجيد، وكان لهؤلاء الثلاثة مكانة كبيرة في نفسه كما رأيت عند حديثه عنهم .

ولما أصدرت جريدة (عروس الفرات) في المسيب سنة 2005م، جعلته استشاريا فيها، وفتحت صفحاتها أمامي لينشر فيها ما يشاء، كما خصصت صفحة كاملة في أحد أعدادها لمقابلة أجراها معه صباح محسن سرد فيها جوانب مهمة من سيرته الذاتية، وكذلك الأمر عندما صدرت مجلة (أوراق فراتية) في مطلع سنة 2010م في الحلة وكنت رئيس تحريرها، وقد حثثته على نشر ذكرياته وآرائه، فكان منها ما نشره عن الشاعر الحلي محمد الرشادي وغير ذلك من كتابات نالت إعجاب القراء .

وفي كل عيد يفاجئني مهدي الانباري بزيارته لي للمعايدة، وكم حاولت سبقه في هذه الزيارة احتراما لكبر سنه ورأفة بحالته الصحية المتعبة لكني لم أنجح سوى مرات معدودة، وظل هو السباق في هذا الفضل، وحتى بعد اشتداد المرض عليه في السنوات الأخيرة لم تنقطع زياراته لي، فضلا عن اتصالاته الهاتفية في كل أسبوع متفقدا حالي وسائلا عن أخباري، كما أن زياراتي له واتصالاتي الهاتفية به لم تنقطع أبدا، وكان كلما علم بصدور مؤلف جديد لي، حرص على استلام نسخته منه مع التأكيد على عدم نسيان كتابة كلمة الإهداء له، وقد لبيت رغبته هذه في كل إصدار لي وبكل سرور، وأوصلت له بكل ممنونية جميع مؤلفاتي الصادرة أولا بأول، ولم أنس كما أراد كتابة كلمات الإهداء على صفحاتها الأولى.

كانت زيارته الأخيرة لي يوم الثلاثاء 18 تموز 2017م عند عودته من مكتبة دار الفرات في الحلة واتفاقه مع صاحبها الدكتور عبد الرضا عوض على طبع كتابه الثاني (الغرب من الشروق)، وكان معه الشيخ عبد الأمير النجار، وبدا متعبا إذ لم يستطع النزول من السيارة، وكانت أمنيته لو أني كتبت مقدمة كتابه الذي دخل الطبع، وما هي إلا خمسة أيام فقط حتى علمت بوفاته، فشعرت بالألم والحزن والفراغ الكبير الذي تركه في حياتي وحياة غيري من المقربين له والحياة الثقافية العامة في المدينة، فبكيته ونعيته بكلمة منشورة جاء فيها:

(المسيب تودع أحد أدبائها البارزين

توفي في مدينة المسيب يوم الأحد 23 تموز 2017م الأديب الكاتب مهدي عباس الأنباري بعد معاناة شديدة مع المرض منذ أكثر من عام .

والأديب الأنباري من مواليد مدينة المسيب سنة 1929م، وأكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة فيها، ثم الإعدادية في مدينتي كربلاء والحلة، وعين معلما سنة 1950م، واجتاز دورة تربوية سنة 1952م، وتنقل في مدارس عديدة في مدن محافظة بابل، وتعرض للاعتقال والفصل من الوظيفة لنشاطه السياسي، وكان أقسى تلك الاعتقالات وأشدها وطأة ما حدث له بعد انقلاب شباط الأسود سنة 1963م ، والتحق بكلية القانون في الجامعة المستنصرية، وتخرج فيها سنة 1973م، واستمر عمله في التعليم إلى سنة 1981م، فتقاعد عن العمل وانصرف للمحاماة ومارس الأعمال التجارية .

كتب الكثير من المقالات المتنوعة في الصحف المحلية، وقد جمع بعضها في كتابين صدر الأول عن دار الفرات هذا العام (2017م) بعنوان (أوراق تحت ضوء الشمس)، والآخر قيد الطبع في الدار نفسها وهو بعنوان (الشروق من الغرب) .

وخلال وجوده في التعليم كتب العديد من المسرحيات الهادفة التي قدمت على المسارح في مدن المسيب والحلة والعمارة والبصرة .

تغمد الله روحه الطاهرة بالرحمة وأسكنه فسيح جناته الوارفة) .

 

جواد عبد الكاظم محسن

 

 

في المثقف اليوم