شهادات ومذكرات

طه جزّع: بغداد الحرائق والظرائف

يعود التاريخ الرسمي لتأسيس أمانة العاصمة إلى 13 شباط 1923 حين بارك الملك فيصل الأول اقتراح وزارة الداخلية بإنشاء بلدية واحدة لكل بغداد وأصدر بذلك إرادته الملكية، وتعيين صبيح نشأت أول أمين للعاصمة، غير أن محاولات تأسيس النظام البلدي تعود إلى تاريخ أقدم من ذلك بكثير، وبالتحديد إلى عام 1868 حين قررت ولاية بغداد العمل بهذا النظام تماشياً مع منهج الإصلاحات الجديدة في الدولة العثمانية. هذه المعلومات التاريخية وغيرها الكثير جاءت بين دفتي الكتاب التوثيقي الذي صدر لمناسبة مرور 100 عام على تأسيس الأمانة، وشارك في إنجازه الباحثان التراثيان رفعة عبد الرزاق محمد وعادل حسوني العرداوي، إذ قدما جهداً تاريخياً وتوثيقياً طيباً وممتعاً هو نتاج حبهما العميق لبغداد، ذلك الحب الذي جسداه خلال السنوات الأخيرة بالعديد من المقالات والندوات والمحاضرات ومختلف الفعاليات الثقافية والتراثية، ثم توجا محبتهما بإصدار كتاب « أمانة بغداد في 100 عام».

كان إبراهيم افندي الدفتري أول من رأس البلدية الأولى في صوب الرصافة التي اتخذت لها بناية قريبة من سراي الحكومة، وبسبب توسع مدينة بغداد أنشئت بلدية أخرى في الرصافة برئاسة عبد الرزاق الشيخ قادر، أما البلدية الثالثة فقد شملت جانب الكرخ وقد كانت برئاسة عبد الله الزيبق وكانت من « أكثر البلديات نشاطاً، فقد أنجزت إضاءة شوارع الكرخ سنة 1878م». وكانت هذه البلديات تأخذ على عاتقها خدمات الانارة واكساء الشوارع وأعمال النظافة وإنشاء الأبنية والجسور والمستشفيات وإسالة الماء وإطفاء الحرائق والإشراف على مدرسة الصنائع وإجراء الانتخابات البلدية، ومن مهامها أيضاً: «مراقبة كل ما يخل بالآداب العامة بين الأهالي ومنعها، ومن ذلك منع دخول الأشخاص عراة الأجسام إلى النهر، ومنع السقائين من حمل كميات كبيرة من الماء على ظهور الحيوانات أو معاملتها بقسوة، ومنعت الحوذيين من ضرب الحيوانات بقوة»، وانها لمفارقة حقاً أن تهتم بلديات بغداد قبل أكثر من قرن بالحيوانات وتمنع ضربها أو معاملتها بقسوة، وذلك ما يذكرنا بقول مدني صالح  الشهير: « يجد الحمار جميع مفردات لائحة حقوقه في مؤسسة النظام والتقدم وشيئاً من مفردات لائحة حقوق الإنسان، ولا يجد الإنسان شيئاً من مفردات لائحة حقوقه في مؤسسة الفوضى والتخلف ولا شيء من لائحة حقوق الحمار» !.

نطوي صفحات الكتاب التي تزيد على 320 صفحة معززة بعشرات الصور التاريخية، ونمر على تواريخ وأحداث ومفارقات وشخصيات وتغييرات مهمة شهدتها بغداد في المائة عام الأخيرة، لابد للقارئ المهتم أن يعود إلى تفاصيلها في تلك الصفحات، لكن بعض الطرائف واللطائف والأيام المميزة أو الصعبة التي مر بها سكنة العاصمة تفرض نفسها في هذا المقال القصير، ومنها دخول الكهرباء إلى بغداد منذ منتصف الثلاثينات « فأنيرت الشوارع والأفرع والأزقة، وغابت مهنة اللمبجي». ومن الأيام الصعبة حريق الشورجة الذي حدث عام 1939 بسبب احتراق محل للمواد الكيمياوية مما أدى إلى انفجاره وامتداد الحريق إلى الكثير من المحال والخانات، واستشهد في عمليات الإطفاء أكثر من خمسين شخصاً من رجال الإطفاء والشرطة، واصيب ما يقارب الخمسين شخصاً، وكذلك فيضان العام :1954 «وكانت ليلة 29 آذار من أسوء الليالي، ومما زاد من الخطر هبوب الرياح القوية.. في تلك الليلة اجتمع مجلس الوزراء برئاسة فاضل الجمالي وعدد من النواب والأعيان والمسؤولين، واتخذ المجلس قراراً يقضي بإخلاء بغداد جزئياً بترحيل أهل الرصافة إلى الكرخ ، وكاد القرار أن ينفذ لولا وقوف وزير الداخلية سعيد قزاز ضده»، والسبب لأنه سأل مهندسي الري فأخبروه أن درجة الخطر تصل إلى ما يقارب الثمانين بالمائة، فقرر مخالفة القرار وتحمل مسؤولية ذلك. وفي العام 1945 تأسست شركة «بغداد الجديدة» لإنشاء الدور السكنية على غرار ما فعلته شركة «مصر الجديدة» في القاهرة، وتم استدعاء المهندس المصري الذي خطط مدينة مصر الجديدة لتخطيط مدينة بغداد الجديدة. ومما يحز في النفس ويؤلمها أن بغداد عرفت» الترامواي» أو « الكاري « كوسيلة نقل منذ العام 1869 أي قبل أكثر من قرن ونصف، ومنذ ذلك الحين لم تتطور وسائط النقل في بغداد لتصبح من: « أسوأ عواصم الشرق الأوسط على صعيد حركة السير» بحسب وصف مجلة « إيكونوميست « البريطانية في تقريرها المنشور مؤخراً.

منذ تعيينه في أمانة العاصمة عام 1976 لاحظ الصحفي والباحث العرداوي، أن هناك مجلساً استشارياً يضم في عضويته «شخصيات بغدادية من الاكاديميين والأدباء والشعراء والمهندسين ووجهاء المدينة، يناقش العديد من القضايا والموضوعات المهمة الخاصة بمدينة بغداد»، كما تم لاحقاً تأسيس «منتدى بغداد الثقافي» للإستئناس بآراء وملاحظات عدد من الشخصيات البغدادية من بينهم علي الوردي وحسين أمين وسالم الآلوسي والشيخ جلال الحنفي وناجي جواد الساعاتي. يذكر أن طبيب العيون الدكتور فائق شاكر وهو من ظرفاء بغداد قد أصبح أميناً للعاصمة عام 1946 وترك في ذاكرة العاملين في الأمانة العديد من الظرائف التي يسجل بعضها الباحث رفعة عبد الرزاق.

تطوي مدينة السلام صفحات تاريخها العجيب الغريب، فهنيئاً لمن ترك لها صفحة بيضاء، وبصم على جبينها بصمة وفاء، وكان « أميناً» حقيقياً عليها، من دون منة ولا ادعاء.

***

د. طه جزّع – كاتب وأكاديمي

في المثقف اليوم