شهادات ومذكرات

خليل اسكندر كما رأيته

1368 khalilفي سنة 2002م أصدرت كتابي الموسوم (الشيخ علي عوض الحلي، حياته وأدبه)، وقد ذكرت على غلافه الخلفي أنه (كتاب أدبي يتضمن سيرة وآثار أديب مرموق من أدباء مدينة الحلة الفيحاء، وعلم بارز من أعلامها الكبار في القرن التاسع عشر الميلادي لم يُفرد من قبل في كتاب خاص به ؛ وإنما تناثرت أخباره وأشعاره ورسائله في المصادر النادرة، وكاد غبار الزمن أن يخفي ذكره ويطمس أثره، فجاء هذا الكتاب لينفض الغبار عنه ويجلو اسمه ويظهر تراثه العراقي العربي الأصيل بأصدق صورة مع جوانب جميلة ومشرقة من تأريخ وأدب مدينة الحلة الفيحاء عبر العصور)؛ كما جعلت إهدائي للكتاب (إلى مدينة الحلة الفيحاء .. وإلى أهلها الطيبين الكرام أهدي هذا الجهد المتواضع تحية ومحبة واعتزازا).

استقبل الكتاب – كما لمست وأخبرني المتابعون – استقبالا حسنا، وأحدث صدى طيبا بين من اطلع عليه أو سمع به، وعدّه البعض خير ما صدر ذلك العام في محافظة بابل، وهناك من رشحه ليكون رسالة لنيل شهادة الماجستير، لكن فرعا من آل عوض كان يدعى - تقربا للسلطة يومذاك - النسب العباسي، أقام الدنيا وأقعدها عليَ ؛ لأني أكدت في صفحة واحدة النسب الأسدي للشاعر الشيخ علي عوض الحلي، فثارت ثائرته، ورفع كبيره دعوى قضائية ضدي في محكمة بداءة الحلة، طلب فيها دعوتي للمرافعة وإصدار قرار يلزمني بالتعويض الأدبي الذي أصابه، وقدّره بمئة مليون دينار !! وكذلك التعويض المادي، وقدرّه بمئة مليون دينار أيضا (مع الاحتفاظ بالمطالبة بالزيادة للتعويضين الأدبي والمادي بدعوى منظمة أو مستقلة)، وتحميلي الرسوم كافة وأتعاب المحاماة، وقام المشتكي بدفع رسوم التعويضين !! وقد أوكل محاميا بمواصفات خاصة يعرفها زملاؤه !! وأبلغه أن مبلغ الغرامتين سيدفع له، وسيكون من نصيبه مع أجوره كاملة ومكافأة أخرى إضافية !! فاستقتل هذا المحامي واستعان بكل الوسائل من أجل خسارتي والإيقاع بي مستخدما شتى السبل والأساليب المشروعة وغير المشروعة !!

كنت واثقا من دقة معلوماتي ومطمئنا إلى صواب موقفي مما زادني تمسكا بصحة ما كتبت ونشرت، وقررت خوض المعركة بصدق وصبر وشجاعة إلى النهاية من دون أدنى تردد، ومهما كلفني الأمر خاصة وقد بلغني وقوف نخبة من الفضلاء في مدينة الحلة معي عندما علموا بالدعوى القضائية المقامة ضدي ممن لم أكن قد تعرفت إليهم بعد ؛ منهم السيد عبود الشلاه والسيد معز القزويني والسيد محمد علي النجار والمهندس شوقي جابر والمحامي خليل إسكندر والسيد حسام الشلاه وآخرون، وأفصحوا علانية عن مؤازرتهم التامة لي، وصار موضوع الكتاب وأمر الدعوى حديث المجالس في المدينة يومذاك .

حضرت الجلسة الأولى لهذه الدعوى في محكمة بداءة الحلة يوم السبت 21/9/2002م، ومعي وكيلي المحامي صلاح الجبوري، وقد طلبت منه قبل كل شيء نقلها إلى محكمة بداءة السدة (سدة الهندية)، فاستجابت المحكمة لهذا الطلب القانوني، وتم نقل الدعوى على الرغم من اعتراض الجهة المشتكية، ومحاولة وكليهم المستميتة في منع تلبية هذا الطلب وبقائها في الحلة، فكانت بداية رابحة وبشارة خير بالنسبة لي إذ كان يوجد في محكمة بداءة السدة أحد القضاة ممن لهم سمعة طيبة في القضاء العادل والأخلاق الحميدة كما نقل لي ؛ هو القاضي يعرب رشيد الراوي، وهناك مقولة متداولة محليا تقول (إن كل القضاة الذين عملوا في السدة امتازوا بالنزاهة والطيبة) .

حدد موعد مرافعة في محكمة بداءة السدة، فوصلتها حاملا معي كيسا ثقيلا مليئا بالمصادر القديمة والحديثة التي تؤكد النسب الأسدي للشاعر الشيخ علي عوض الحلي، وعندما بدأت المرافعة أخرجت تلك المصادر، ووضعتها فوق منضدة القاضي، فراح يقلبها واحدا تلو الآخر، ويقرأ ما ورد في صفحاتها، بينما لم يكن لدى وكيل الخصم الذي اعترض بشدة على ما قدمت وعدها كلها (كتبا تافهة!!) سوى مصدر حديث واحد محل خلاف ونزاع آل عوض عليه، وعليه اعتراضات كثيرة من العباسيين أنفسهم ؛ ومن مصادري التي عدّها تافهة : كتاب (البابليات) لليعقوبي، و(شعراء الحلة) للخاقاني، و(الأعيان) للسيد العاملي و(الذريعة) للطهراني، و(الطليعة) للسماوي، و(أدب الطف) للسيد شبر، و(معجم المؤلفين) لكحالة، و(تاريخ الحلة) لكركوش)، و(دراسات عن عشائر العراق) للساعدي، وغيرها من أمات الكتب القيمة، ولم استطع تحمل مقالته، فرددت عليه بشدة، ثم رأيت أن لا أحضر المرافعات القادمة كي لا أستفز بمثل هذه العبارات الفجة، وأوكلت بالحضور نيابة عني ابنتي المحامية التي واصلت المهمة إلى نهاية الشوط .

بعد عدة مرافعات تبادلنا فيها اللوائح واللوائح الجوابية قرر القاضي انتداب ثلاثة خبراء للاستعانة بهم في حسم الخلاف بشأن ما ورد في الكتاب، ورأى أن يكون الخبير الأول من هيأة الأنساب العربية العامة في اتحاد المؤرخين العرب ببغداد ؛ وقد رشحت الدكتور جواد مطر الموسوي، والخبير الثاني أديب من محافظة بابل، وكان رأي القاضي أن يكون الأديب قاسم عبد الأمير عجام، ولما علم بوجود معرفة وصداقة حميمة بيننا استبدله وطلب من جامعة بابل ترشيح أكاديمي متخصص بالأدب الحديث ومن الأعضاء في اتحاد الأدباء ؛ فرشحت رئاسة الجامعة الدكتور صباح نوري المرزوك، والخبير الثالث المحامي خليل إسكندر كخبير قضائي، وقد رشحه اتحاد الحقوقيين فرع بابل، وكان يشغل نائب رئيسه المحامين، وكان قاضيا سابقا عاد للمحاماة بعد إحالته على التقاعد .

حضر الخبراء الثلاثة إلى محكمة بداءة السدة في اليوم الذي حدد لهم، وسلمهم القاضي نسخة من الكتاب محل الدعوى، وطلب منهم دراسته، وتقديم رأيهم بما ورد فيه تحريريا بعد عشرة أيام، وقد أنجزوا التقرير بالفعل بعد عشرة أيام، وحضروا مرة ثانية إلى محكمة بداءة السدة في 28/11/2002م، ومعهم التقرير المطلوب، وسلموه للقاضي بعد قراءة مضمونه، وجاء في ديباجته :

(اطلعت لجنة الخبراء على الكتاب الموسوم (الشيخ علي عوض الحلي .. حياته وأدبه) تأليف جواد عبد الكاظم محسن، والمطبوع في مكتب (أحمد الدباغ) في باب المعظم – بغداد وبموافقة رسمية حسب رقم الإيداع (537) دار الكتب والوثائق – بغداد (2002م) ومفهرس ضمن المكتبة الوطنية الرسمية بالرقم (92801/ ج 924) وتوصلت اللجنة إلى ما يأتي ....)، وأدرجت سبع نقاط جوهرية ومفصلة، وختمت تقريرها بإيجاز قالت فيه إن الكتاب (صدر وطبع بصورة رسمية وعلنية، وهو من الكتب الأدبية، ومصادره حقيقية، ونقله للنصوص أمين، ولا يوجد في الكتاب ما يشير إلى الإساءة لشخصية (الشيخ علي عوض) ولا لأسرته (آل عوض) بل أبرز الجوانب الإيجابية ورفع من شأن الأسرة التي أكدت المصادر والمراجع والدراسة التي قدمها الدكتور خضير الجميلي إلى الأمانة العامة لهيأة كتاب تأريخ الأنساب العربية في إتحاد المؤرخين العرب نسبتها إلى (بني أسد) فضلا عن المتعارف عليه والمشهور عنها، ولما تقدم فإن الإدعاء بغير ذلك عن الكتاب ومؤلفه مردود، وإن المدعي لا يستحق التعويض المطالب به، ولا نجد وجها ولا حقا في الدعوى المعروضة أمام محكمتكم المحترمة، وقد جاء هذا القرار من قبلنا بالاتفاق، هذا ونقد لمحكمتكم المحترمة فائق الشكر والتقدير) .

وعلى ضوء هذا التقرير المنصف رد القاضي الدعوى في 16/12/2002م، وحمّل المدعي جميع الرسوم والمصاريف، وقد طعن وكيل المدعي بالقرار لدى رئاسة محكمة التمييز طالبا نقضه، فجاء قرارها مطابقا ومؤيدا لصحة قرار محكمة بداءة السدة، ورأته موافقا للقانون وصادقت عليه بالاتفاق في 15/2/2003م .

بقيت احتفظ لخليل إسكندر موقفه الشجاع في هذه القضية على الرغم من الضغوطات الكثيرة التي تعرض لها، ووددت لو ألتقيته، لأقدم له شكري وتقديري على موضوعيته وشجاعته وصموده، ولم يتحقق لقائي به حتى شهر مايس سنة 2006م عندما زرته في دائرته هيأة حل نزاع الملكية العقارية في الحلة بصحبة الصديق عبد الرضا عوض، فرحب بي كثيرا، وسرّ بزيارتي له، فاغتنمت الفرصة لأجري معه لقاءً مطولا نشرته على الصفحة الأخيرة في جريدتي (عروس الفرات) بعددها الخامس والعشرين الصادر في 28/5/2006م .

وفي هذا اللقاء أرخت أول ما أرخت لسيرته فأعلمني أنه خليل اسكندر إسماعيل محمد سعيد الجبوري، ولد في محلة الجباويين بالحلة سنة 1930م، ونشأ في أحضان أسرة معروفة بمواقفها الوطنية ووجاهتها الاجتماعية، وأكمل دراسته الأولية في مدينته، والتحق بكلية الحقوق سنة 1949م، وتخرج فيها سنة 1953م، ومارس المحاماة قبل تعيينه وتدرجه في الوظيفة، وقد بلغ منصب رئاسة محكمة جنايات بابل، وأحيل على التقاعد سنة 1982م (بناءً على مقتضيات المصلحة العامة!!) بإشارة من السلطات العليا من دون بلوغه السن القانوني، فعاد لممارسة مهنته الأولى المحاماة، وبعد سقوط النظام السابق أصدر مجلس القضاء الأعلى سنة 2004م أمرا بعودته إلى الوظيفة مرة ثانية وتعيينه رئيس اللجنة الأولى في هيأة حل النزاعات الملكية العقارية في محافظة بابل، وقد استمر في وظيفته إلى تقاعده الثاني سنة 2006م، وبلغني بعد سنوات خبر وفاته في الحلة سنة 2009م بعد حياة مليئة بالطيبة وحافلة بالعطاء والمواقف الشجاعة .

في ذلك اللقاء الوحيد الذي تم بيننا ؛ سألته عن ذكرياته في مدينة السدة، وقد استقر فيها قاضيا سنة 1976م، فقال إن السدة ناحية جميلة، ومصيف لطيف، وهواؤها عليل، تحيط بها الأنهار من جهاتها الأربع، وأروع ما تكون فيها الليالي، وأهل السدة طيبون ولطفاء المعشر، وقد عمل فيها لمدة سنتين، فاحتفظ له الناس بالمودة، وحمل هو ذكريات جميلة عنها .

ومن ذكرياته الطريفة فيها كما روى أن دعوى عرضت أمامه بين زوجين شابين عندهما ثلاثة أطفال، وطفل رابع في الطريق، وهي تطالب ببيت شرعي، وخرج بصفته قاضيا مع أعضاء من المحكمة للكشف عن البيت بصحبة الزوجين، وقالت الزوجة إن هناك نقصا في الأثاث، وحددت النقص بـ (لحاف وشحاطة) !! فاستفسر القاضي من الزوج عنهما، فقال إن اللحاف أعطاه لأخيه الذي نزل حديثا في الأقسام الداخلية للطلبة بعد قبوله بجامعة بغداد، وأما (الشحاطة) فلا علم له بها !! وهزّ موقف الزوجين وأطفالهما القاضي، فتدخل طالبا من الزوجة الرضا بقضية إعطاء (اللحاف) لحماها الطالب الجامعي إذ ستكسبه بذلك إلى جانبها، فاقتنعت بالأمر، وطلب من الزوج شراء (الشحاطة)، فوافق على أن يمنح مهلة إلى رأس الشهر واستلامه الراتب، فوافقت الزوجة شرط كفالته من قبل القاضي شخصيا !! فوافق القاضي على هذه الكفالة الغريبة !!

ومرت الأيام سراعا، حتى فوجئ القاضي خليل إسكندر في صباح أحد الأيام قبل بدء الدوام الرسمي بمن يطرق بابه، ففتح الباب، فوجد الزوجة صاحبة الدعوى، فسألته : هل حضرتك القاضي ؟ فأجابها : نعم .. فعادت للقول : لقد تكفلت زوجي بشراء (الشحاطة)، وقد حلّ رأس الشهر ومرّ أسبوع كامل بعده، ولم يشتر زوجي (الشحاطة) التي وعد بشرائها !! وأنت من كفله !! فطلب القاضي منها الذهاب إلى بناية المحكمة وانتظاره فيها، وطمأنها بأنه سيفي لها بكفالته !! فاستدعى فراش المحكمة وأعطاه مبلغا من المال، وطلب منها مرافقته إلى السوق لاختيار (الشحاطة) التي تناسبها وعلى ذوقها !!

 

جواد عبد الكاظم محسن

 

في المثقف اليوم