شهادات ومذكرات

أديب إسحاق المفكر والسياسي الحر

ali almirhigكان قد نشر صديقي الدكتور فيصل غازي مجهول مقالاً في صحيفة المثقف عن أديب إسحاق بعنوان "أديب إسحاق والتسامح"، وقد وجدت في مقاله مناسبة للكتابة عن هذا المفكر الذي عشقت السماء روحه المتسامحة فقطفت سني عمره قبل أوانها، فقد مات وهو إبن التاسعة والعشرين من العمر.

ولد في عام 1856 وتوفي في عام 1884، كان من هواة الشعر والأدب العربي، فقد كتب الشعر وهو في إبن السنة العاشرة، وهو في مقتبل العمر قد أتقن اللغة التركية وترجم منها قصيدة للشاعر كمال باشا في مقتل السلطان عبد الحميد. تنقل بين بيروت ومصر وباريس، وأتقن اللغة الفرنسية وترجم منها مسرحية "أندروماك" للشاعر الفرنسي راسين.

تعرف على الأفغاني في مصر وأرجح الروايات أن من عرّفه على الأفغاني هو المفكر "شبلي شميل"، والجميل الرائع والرائع الجميل في مسألة تعرفه على الأفغاني هو تلاقيهما وإنسجامهما مع بعضهما على الرغم من إختلافهما في الدين والمعتقد السياسي، لكنه كان مُنبهراً بشخصية الأفغاني حتى كان مُلاصقاً له قريباً منه في أغلب جلساته وحواراته في مصر، وقد شجعه الأفغاني على إصدار صحيفة، وقد ساعده في الحصول على إستصدار الإمتياز لها، ففرح (أديب) بهذا وقد بذل كل ما يمتلك من مال بسيط وبمساعدة الأهل والأصدقاء ليُصدر جريدة "مصر" الأسبوعية عام 1877 في مدينة القاهرة.

بعدها أصدر أديب صحيفة "التجارة" اليومية بالإشتراك مع صديقه "سليم نقاش".

كان تأثيرات الأفغاني في الجريدتين بّينة وواضحة، لا سيما في نقدهما للإستبداد ودفاعهما عن الشورى، قد بان ذلك في إنتماء أديب للحزب الوطني الذي أسسه الأفغاني.

كان أديب إسحاق أميل للإصلاح منه للثورة، لما يُرافق ـ كثيراً ـ الثورات من عُنف على الرغم من تأثره بمقولات الثورة الفرنسية في الحرية والإخاء والمساواة، لذلك نجده راغباً في الإنتماء للماسونية التي نادت بهذه المبادئ قبل أن يُعرف أصولها ومنابعها التي أكدت أصولها اليهودية، لكنه أُعجب بدعواها بالمساواة بين الناس ليس على أساس الدين أو العرق، وإنما الناس متساوون في الإنسانية وفي المواطنة، فما أعجبه، إذن في الماسونية هو إظهار أصحابها نبالة القصد في تبني المدنية كما إدَعوا.

إوقفت صحيفتي "مصر" و "التجارة" في زمن حكم توفيق باشا، حينما ألغى الحياة الدستورية وفي قرار إبعاده للأفغاني عام 1879. حينذاك سافر أديب إلى فرنسا، ليُعيد إصدار صحيفة مصر، ومن ثم صحيفة مصر "القاهرة" فيالعام ذاته 1979، ليجعل أهداف صحيفتيه هي "حرية، إخاء، مساواة"

لم يكن من المُتفاعلين مع ثورة عرابي، كونه كان مُقرباً من الخديوي توفيق، إلَأ أنه لم يُعلن رفضه أو موافقته صراحة لأنه كان يخشى من نتائج ما تحمله الثورات من قتل وتدمير للإنسان والعمران، لكن عُرابي قد قال عنه "كان أديب إسحاق من مُرتزقة الأُدباء". أما الشيخ محمد عبده فقد صرَح أن الجريدة التي أنشأها أديب في باريس كان "ُنفق عليها الخديوي الأسبق إسماعيل باشا..."

الغريب في نهجه الفكري والسياسي أنه كان مؤيداً للدولة العلية العثمانية، وهذ أمر إختلف فيه مع أغلب القوميين العروبيين المسيحيين، فقد كان يرى أن "الوحدة العثمانية واجبة لأنه لا بد للأمة المختلفة الأصول من وحدة تجتمع الكلمة عليها" ورغم أن أغلب العرب والمسيحيين على وجه الخصوص كانوا يرومون الخلاص من سلطة الدولة العثمانية التي وصفها الغرب بـ "الرجل المريض" إلَأ أنه لم يكن على ثقة كبيرة بالغرب الكولنيالي وبما يضمره من نزعة الشر التي يحملها أو التي كشف عنها في إحتلال فرنسا للجزائر أو في إحتلال بريطانيا لمصر، وكان يتمنى على الدولة العثمانية أن تسير في طريق الإصلاح والسعي الجاد لإصلاح الدولة وفق ضوابط الحكم الدستوري الذي يؤمن بفصل السلطات، وقناعة السلطة بضروة الإيمان بأن تطبيق "المشروطة" أي "الدستور" صار أرمراً مُلزماً للدول التي ترتجي التنظيمات الإدراية، لذلك كان كثير الغعجاب بمدحت باشا رجل الغصلاح في الدولة العلية التي تشهد له نُخب البلدان العربية وتنظيماته الإدارية والعمرانية في البلدان العربية التي حكم فيها بأنه رجل دولة من طراز مميز، لأنه تأثر بالتجربة الأوربية والغربية لا لأنه يُريد إعادة تبيئتها في تربة لا تصلح لها، إنما هو مؤمن بأن التواصل مع الأمم المُتقدمة المخالفة لنا في المُعتقد، إنما هو مما يبني العقول ويطور المناهج الرؤية في النظر والعمل، فما كان يُميَز مدحت باشل أنه كان على إطلاع بالنهضة الأوربية وكان مُدَركاً لأسباب تقدمهم "الغرب" لأنهم أدركوا معنى الحرية والعمران وقيمة المساواة بين أبناء المجتمع وإن إختلفوا في المُعتقد الديني أو السياسي أو الفكري، بل وحتى العرقي "القومي"، ولا سبيل للنجاج كما يرى أديب إسحاق متأثراً بمقولات فلاسفة الثورة الفرنسية و بإنجازات مدحت باشا سوى القبول بالحياة الدستورية، التي يُمكن لنا الوعي بقيمتها عن طريق تحديث طُرق التعليم، وإعطائه الأهمية القصوى في مشاريع بناء النفس قبل مشاريع بناء العُمران. ولا بناء للنفس إن لم نتخلص من خشونة البداوة وغِلضتها، لتحل المدنية والعلم بديلاً عنهما، وهذا الأمر لا يتأتى إلَا بتحقيق أسبابه من العلم وتهذيب الأخلاق اللذان لا يحصلا إلَا بإنشاء "المدارس الحُرَة الصحيحة المشارب، السليمة المقاصد، يتولاها الذين سلمت أنفسهم من شوائب التعصب...أما تهذيب الأخلاق فوسيلته الجرائد الحُرَة الصادقة...فهي كالمرآة يرى فيها الناظر وجهه، فإن رأى فيه لوثة أزالها بماء الاجتهاد...".

كان من إهتمامات إسحاق أديب تخليص الأديان من الخُرافة والشعوذة، لأنها أحد أسباب تخلف مجتمعنا الشرقي، فـ "لا قوة إلَا بالعلم ولا نجاح إلَا بالإصلاح". ولا إصلاح إلَا بترك اقناعة بالماضي بأنه الطريق الأصح لأن في الحاضر طُرق للإصلاح أجد و أنفع.

لذلك يدعو أديب إلى عدم جعل الدين طريقاً للوحدة، فقد إختلف فيه أبناء الشرق والغرب، "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"، ولكنه يُهدي من يشاء، ويُضل من يشاء، ذلك تقدير العزيز العليم". وبناءً على ذلك "فالمساواة والحرية هما الدععامتان الطبيعيتان لكل اجتماع إنساني، فهما بذلك المبدأ الضروري الأصلي لكل قانون، ولكل حكومة نظامية"، وهما أصلا الإصلاح في كل أمة تروم إنتظاما، فالإصلاح لأمة فسد حُكامها يكون كالغذاء لأمة جائعة، وكالماء للظمآن، وكاللباس للعريان.

مباني الإصلاح عند أديب إسحاق أربع هي:

ـ السياسة: التي تقتضي المساواة والعدل والإنصاف بين فئات المجتمع على إختلاف متبنياتهم السياسية وجذورهم الدينية وأصولهم العرقية أو القومية.

ـ المالية والاقتصادية: التي تقتضي توزيع الثروات وتقنين الموارد وفق إمكانات الدولة "الصادرات والواردات" التي لا تلتزم بها فقط في الربح المتأتي من "الريع"، بقدر ما هو متأت من قدرة الدولة والحكومة على الإستثمار: إستثمار طاقات البشر والأرض.

ـ القضـاء: الذي نحتاج فيه أولاً للنظر في مقدار إتساق القوانين مع الواقع ومع مقتضيلت التحول والتبدل في الحياة المعاصرة، ككا ينبغي فيه أن يكون مُستقلاً إستقلالا كالملا عن السلطة التنفيذية وإبتعاده عن التأثر بتحولات السياسة، ليستطيع النظر والتحقق بإستقلالية في القضايا المطروحة في محاكمه، وهذا الأمر لا يتحقق إلَا بوجود قُضة أكفاء، وهذا أمر نادر الحصول في مجتمعاتنا الشرقية.

ـ الإصلاح المدني: الذي تفرضه إرادة الشعب ومؤسساته النقابية والمدنية، وهذا أمر لا يتحقق إلَا بدعم السلطة السياسية لهذه المؤسسات وإثبات حرصها ومصداقيتها في الإصلاح السياسي والاجتماعي الذي نجد له حضوراً وفاعلية في إظهار السلطة السياسية جديتها في محاربة الفساد والفُسَاد.

 

د. علي المرهج - أستاذ فلسفة - جامعة المستنصرية

 

 

في المثقف اليوم