شهادات ومذكرات

الطهطاوي بداية الإستغراب في الكشف تخلف الأعراب

ali almirhig

يُمثل (الطهطاوي) نقطة بداية المشروع النهضوي الإصلاحي أو ما يمكن تسميته بالسلفية التجديدية، ومن ثم جاءت جهود خير الدين التونسي ومحمد عبده والكواكبي المُتأثرين بأطروحات الأفغاني لتُتوج آرائهم في الدفاع عن الإسلام، والنظر إليه على أنه دين علم وتعقل وتحرير لعباد الله من الأرستقراطيين الذين هيمنوا على الدين ومٌعطياته لكل عباد الله الذين يرومون تحرراً وخلاصاً من هيمنة المُتسلطين، فلم يكن سبب تأخر المسلمين سوى تركهم وتخليهم عن أمر الدين الذي كان أصلاً في تقدمهم وتحقيق نهضتهم الأولى، ولأن المُسلمين اليوم تناسوا دعوة الإسلام أو جهلوه وما عرفوه حق المعرفة، فنجد مآلهم في ذيل الأمم يعيشون التخلف وهم به مُتيمين.

ركز أصحاب هذا الإتجاه على الجمع بين العقل والنقل أو بين الحكمة والشريعة أو الدين والفلسفة.

الدين عندهم هو دافع إلى الكمال كونه يرفع أو يسمو بالإنسان إلى عالم اللاهوت والإبتعاد عن مغريات الدنيا المادية وشهواتها، وهو دين الخلاص.

شكل الطهطاوي بداية الوعي العربي بأوربا والغرب عموما، وهناك بعض أصحاب الاتجاه العلماني ممن تأثروا بمقولاته، ومن الذين تأثروا به علي عبد الرازق وأحمد لطفي السيد وطه حسين ومن تبعهم.

يُمكن أن يُعَد المعتزلة والفلاسفة المسلمون جذراً لتوجهاته الفكرية، لا سيما (الكندي) و(ابن رشد) في الجمع بين الحكمة والشريعة أو بين العقل والنقل اذ يقول ابن رشد:"الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له" بمعنى أن الدين حق والفلسفة حق وان النتيجة التي يوصل اليها طريق البرهان لا تختلف عن النتيجة التي يوصل اليها طريق ال

يدعو أصحاب هذا الإتجاه الى تبني كل ما لا يتعارض مع الدين، ولكن موقف الطهطاوي من حرية المرأة وحُريتها كان موقفاً مُرتبكاً ومتردداً بين الأخذ بالتوجهات الغربية وبين الإلتزام بما يعتقد أنه من مُتطلبات الشريعة، وهذا واضح حينما نُقارن بين ما جاء في كتابه (تخليص الإبريز) من موقف ناقد للمرأة وبين ما جاء في كتابه (المُرشد الأمين للبنات والبنين) من موقف مدافع عنها.

كان الطهطاوي من المؤيدين لفتح باب الاجتهاد، متوافقاً بدعوته هذه مع قول الأفغاني: "متى سُدّ باب الاجتهاد.. فمالك إنسان، وأبو حنيفة إنسان، والشافعي إنسان، وأنا إنسان..."، فكلاهما يدعوان إلى تأويل النص القرآني، فالنص عندهم قابل للتأويللأنه جاء ليُخاطب الناس في جميع، لذلك كان الطهطاوي يميل لتأويل النص القُدسي في حال اعتقادنا بتعارض ظاهره مع مُقتضيات العصر، فمتى ما تعارض النقل مع العقل، وجب تأويل النقل بما يتطابق مع العقل. ومن أهم محطات حياة ىالطهطاوي أنه:

ـ في عام 1817م درس في الأزهر العلوم الدينية والشرعية وعلوم اللغة العربية.

ـ في عام 1826م رشحه أستاذه الشيخ حسن العطار كإمام للبعثة العلمية التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا، فشكلت هذه البعثة المنعطف الكبير في حياته الفكرية، فتعلم اللغة الفرنسية وشاهد الحياة الباريسية واطلع على الثقافة الفرنسية فعرف أفكار مفكري عصر التنوير مثل فولتير وموتسكيو جان جاك روسو. ومن هنا بدأت طموحاته تكبر ولاحظ الفارق الكبير بين ما هم عليع من تقدم وما نحن عليه من تخلف.

ـ في عام 1831م كتب الطهطاوي كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، وفي هذا الكتاب قدم لنا تجربته في أعوام الرحلة، فكان الأشهر من بين كتبه الأخرى لما فيه من رؤية واضحة لطبيعة الحياة والثقافة والعلم في فرنسا مقارنة بما نحن عليه وما علينا فعله.

ـ في عام 1835م أسس الطهطاوي مدرسة الألسن لتعليم اللغات والترجمة.

ـ في عام 1850م نفاه الخديوي عباس إلى السودان.

ـ في عام 1863م أصدر أول مجلة مصرية بعنوان روضة المدارس.

ـ أهم كتبه: تخليص الإبريز في تلخيص باريز(1831)، مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية (1869)، المرشد الأمين للبنات والبنين، أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوفيق بني اسماعيل، نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز، وجميع هذه المؤلفات جمعها د.محمد عمارة تحت عنوان الأعمال الكاملة، وله أكثر من (25) كتاباً مترجماً.

ذهب الطهطاوي إلى باريس على رأس بعثة علمية بوصفه مرشدا دينيا لها. وقد تمت الموافقة على اختياره من قبل محمد علي باشا وهذا واضح من إهداء مطول لـ "ولي النعم" "وعظيم الشيم" (الحاج محمد علي باشا) الذي رشحه لكي يكون مرشدا دينيا للبعثة.

كتب الطهطاوي هذه الرحلة بناءً على طلب شيخه حسن العطار، حتى يستفيد منها من يريد الذهاب بعده أو من يريد معرفة أخبار الأمم .

في بداية هذه الرحلة نرى الطهطاوي يقوم بتقسيم الأمم إلى عدة مراتب:-

الأولى : مرتبة الهمل المتوحشين – ومثالهم بلاد السودان

الثانية: مرتبة البرابرة المنشينين – ومثالهم عرب البادية الذين عندهم نوع من الاجتماع ولكن لم تكتمل درجة الرقي عندهم في أمور المعاش والطبائع البشرية والعلوم العقلية والنقلية.

الثالثة : مرتبة أهل الأدب والظرافة والتحضر والتمدن والتمصر والمستطرفين ومثالهم بلاد مصر والشام واليمن والروم والعجم و الإفرنج و المغرب وسنار وبلاد أمريكا ، وجميع هؤلاء الأمم أرباب عمران وسياسات وعلوم وصناعات ... وهذه المرتبة تتفاوت في علومها، فالبلاد الإفرنجية قد بلغت أقصى مراتب البراعة في العلوم الرياضية والطبيعية وما وراء الطبيعة أصولها وفروعها ولبعضهم مشاركة في العلوم العربية وتوصلوا إلى دقائقها وأسرارها (ص  13تخليص الإبريز ).

غير إنهم لم يهتدوا إلى الطريق القويم ولم يسلكوا سبيل النجاة أبداً وكما إن البلاد الإسلامية قد برعت في العلوم الشرعية وفي العلوم العقلية وأهملت العلوم الحكمية بجملتها فلذلك احتاجت إلى البلاد الغربية في كسب ما لا تعرفه(ص14).

لذلك يدعو الطهطاوي إلى الاهتمام بالعلوم لاسيما الحكمية بقوله" إن العلوم لا تنتشر في عصر إلا بإعانة صاحب الدولة لأهله ، وفي الأمثال الحكمية( الناس على دين ملوكهم) " (ص  15 تخليص الإبريز).

وقد" قويت شوكة الإفرنج ببراعتهم وتدبيرهم ومعرفتهم في الحرابات وتنوعهم واختراعاتهم" (ص15 تخليص الابريز) ،وقد وجد الطهطاوي إن دولة الغرب إنما قامت على أساس العلوم وهو على أنواع عندهم فضلا عن الحساب والهندسة والجغرافية والتاريخ والرسم هناك علم تدبير الأمور الملكية وعلم تدبير العسكرية وعلم القبطانية والأمور البحرية وعلم فن المشي في مصالح الدول الدبلوماسية وفن الحياة وصناعة القناطر والجسور والميكانيقا( الميكانيكا) وهندسة العساكر وفن الرمي بالمدافع وتركيبها وفن السبك والمعادن لصناعة المدافع  والأسلحة وعلم الكيمياء وفن الطب وفروعه  وعلم تاريخ الطبيعيات وفروعه وصناعة النقاشة وفروعها، وفن الترجمة ينظر (ص 19-20 تخليص الإبريز).

كل هذا الإعجاب لهذه العلوم  الذي يبديه الطهطاوي بعلوم الغرب إلى انه لم تفارقه نزعته الدينية المتطرفة القائمة على تكفير الآخر وما يؤيد ذلك قوله " (ص59 تخليص الابريز)

لأن طلقت باريس ثــلاث           فما هذا سوى لوصال مصــر

فكل منهما عندي عـروس          ولكن مصر ليست بنت كـــفر

وقوله في موضع آخر عن باريس "أغلبها نصارى أو كفرة" ويروي عن إمرأة مسلمة إنها تحولت إلى المسيحية ويقول عنها " تنصرت وماتت كافرة" (ص56،  تخليص الإبريز)

ولكن هذا لا يمنع من أن الطهطاوي كان معجباً وشديد الإعجاب بما وصلت إليه بُلدان الغرب من تقدم في العلوم، وهو يحاول أن يكون مُنصفاً، على الرغم من تشكله الديني المتشدد الذي ضعف بشكل تدريجي  بسبب سفره إلى فرنسا، وأصبح أكثر تقبلاً للرأي المختلف، بل وأصبح من أوائل دُعاة الإصلاح  في العالمين العربي والإسلامي  فيقول عن الغرب "لا ينكر منصف إن بلاد الإفرنج الآن في غاية البراعة في العلوم الحكمية وأعلاها في البحر...وإذا رأيت كيفية سياستها علمت كمال راحة الغرباء فيها ومراعاة خاطرهم ولو إختلف الدين... وبالجملة في بلاد الفرنسيين يُباح التعبد بسائر الأديان فلا يُعارض مسلم في بناء مسجد ولا يهودي في بناء  بيعة "(ص32 تخليص الإبريز).

طبائع الغرب

"مما يستحسن في طبائع الغرب دون عداهم من النصارى حبهم النظافة الظاهرية  فإن جميع ما إبتلى الله سبحانه وتعالى به قُبط مصر من الوضم والوسخ أعطاه للإفرنج من النظافة ولو على ظهر البحر"(ص 34  تخليص الإبريز).

ولم يتساءل الطهطاوي لماذا أُبتليَ قُبط مصر بالوساخة، هل الله إبتلاهم أم "ولي النعم"، بعبارة الطهطاوي، وهذا التوجه مما لا يتسق باعتقادنا والنزعة الإصلاحية التي يتبناها الطهطاوي، كونه مُصِر على رأيه هذا تجاه أقباط مصر، لا سيما بقوله عنهم "أنهم يميلون بالطبيعة الى الجهل والغفلة"( ص 76 تخليص الإبريز).

وان الإنسان حينما "يجيء من البلاد الشرقية الى بلادهم (الغرب) لا يدخلها إلَا بعد خضوعه للكرنتينه (المصحة)، أي يمكث أياماً معلومة لإذهاب رائحة الوباء ولكنهم يجيؤن الإنسان بسائر ما يحتاج ويناولهم الثمن فيضعونه في ماعون فيه خل ( للتعقيم) ونحو مع التحفظ التام " (ص46 تخليص الإبريز).

كانت البلاد جميلة وأبنيتها محكمة ومُتقنة ومُمتلئة بالرياض، وحينما وصلنا مرسيليا وبعد دخول الكرنتينه أحظروا لنا الكراسي التي لم نعتد (نحن) الشرقيون الجلوس عليها ومدوا الطبليات ووزعوا الملاعق والشوكات لكل ملعقة وشوكة ولا يجوز عندهم أن يأكل الإنسان بيده أصلا ولا بشوكة غيره أو سكينته أو يشرب من قدحه أبدا...

ومن طباعهم الذهاب إلى القهاوي و القهاوي عندهم  ليست مجمعاً للحرافيش، بل هي مجمع لأرباب الحشمة وهي مزينة بالأمور العظيمة النفيسة التي لا تليق إلَا بالغنى التام وأثمان ما فيها غالية جداً"( ص 52 تخليص الإبريز)

والفرنسيون لا سيما الباريسيين يتميزون بذكاء العقل ودقة الفهم وغوص ذهنهم في العويصات ... وليسوا أُسراء التقليد أصلاً، بل يُحبون دائماً معرفة أصل الشيء والإستدلال عليه حتى إن عامتهم يعرفون القراءة والكتابة..." (ص76 تخليص الإبريز)

ومن طباعهم التطلع والتولع بسائر الأشياء الجديدة وحب التغيير والتبديل في سائر الأمور، وهم محبون لأوطانهم وقد يلقون بأنفسهم في المهالك لمصلحة تعود على أوطانهم  ينظر (ص 77 تخليص الإبريز)

موقفه من المرأة

وأما النساء فمن عادتهن في هذه البلاد "كشف الوجه والرأس والنحر وما تحته والقفا وما تحته واليدين إلى قرب المنكبين" (ص53 تخليص الإبريز)

فأنه يرى إن الرجال عندهم  عبيد النساء وتحت أمرهن سواء كُنَ حمَالات أم لا. قال بعضهم إن النساء عند الهمل مُعدات للذبح وعند بلاد الشرق كأمتعة البيوت وعند الإفرنج كالصغار المُدلعين، وترى الطهطاوي مؤيد لقول الشاعر"

إعصي النساء فتلك الطاعة الحسنة        فلن يسود فتى يعطي النساء رسنه

يعقـنه عن كثير من فضـــــــــائلـه        ولو سعى طالبــا للعلم آلف ســــنه

يبدو أن موقف الطهطاوي هذا نابع من فهم خاص للشريعة القائم على الأيمان بأن"الرجال قوامون على النساء" فضلاً عن تساوق هذا الموقف مع تربيته الشرقية التي تُقلل من أهمية المرأة وتُحجم دورها وتجعله قاصراً على إداء الأعمال المنزلية وطاعة الزوج وتحقيق رغباته وشهواته.

نظام الحكم

بعد أن يستعرض الطهطاوي كيفية تشكيل الدولة في فرنسا وكيفية تكوينها من الملك والوزراء المختصين الذين تفتقد وجودهم دول الشرق يشير إلى طبيعة السياسة في فرنسا .

تسير هذه السياسة وفق قانون مفيد بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي حددتها (الشرطة) (الدستور) والقائمة على أسس العدل والأنصاف وقد إنقادت الحكام والرعايا إلى (الدستور) حتى غمرت بلادهم وكثرت معارفهم وتراكم غناهم وارتاحت قلوبهم. (ص 99ـ100، تخليص الإبريز).

وبعد أن يستعرض الطهطاوي الدستور الفرنسي نجده يقف عند المادة الأولى التي "تقول سائر الفرنسيس متساوون قدام الشريعة"  ويعلق على ذلك قائلا " معناه سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون حتى إن الدعوة الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره فأُنظر إلى هذه المادة فإن لها تسلط عظيم في إقامة العدل وإسعاف المظلوم وإرضاء خاطر الفقير بأنه العظيم نظراً إلى إجراء الأحكام، ولقد كانت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية وهي من الأدلة الواضحة إلى وصول العدل عندهم إلى درجة عالية وتقدمهم في الآداب الحاضرة وما يُسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يُطَلق عليه عندنا العدل والإنصاف، وذلك لأن معنى الحُكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المُحكَمة والمُغيَرة، فهذه البلاد بلاد حرية (ص تخليص الإبريز 113).

"وقد ضمنت الشريعة لكل إنسان التمتع بحريته الشخصية...ومن الأشياء التي تترب على الحرية عند الفرنساوية إن كل إنسان يتبع دينه الذي يختاره يكون تحت حماية الدولة ويعاقب كل من تعرض لعابد في عبادته" (ص117 تخليص الإبريز).

هذه القوانين التي جاءت في الدستور الفرنسي" ليست مُستنبطة من الكتب السماوية إنما هي مأخوذة من قوانين أُخر غالبها سياسية" (ص119 تخليص الإبريز).

موقفه من الحرية

تنقسم الحرية إلى خمسة أقسام حرية طبيعية وحرية سلوكية وحرية دينية وحرية مدنية وحرية سياسية ، والطهطاوي يفهم الحرية الطبيعية بأنها مُتعلقة بوجود الإنسان في هذا العالم وحريته في مُمارسة الغريزة كالأكل والشُرب والمشي وهذه الحرية تقف حدودها عند الضرر بالنفس أو بالآخرين. أما الحرية السلوكية فهي المُتعلقة بتمام الأخلاق وحسن السلوك التي يقتضيها حكم العقل وبالشرط السابق نفسه بالحرية الطبيعية وهو عدم الإضرار بالنفس أو الآخرين (ص127 تخليص الإبريز).

والحرية الدينية كما فهمها الطهطاوي بأنها مُساوقة لحُرية العقيدة والرأي والمذهب بشرط أن لا تخرج عن أصل الدين. أما ما يُراد منها في الغرب فهو حرية ممارسة العقائد الدينية، أي للإنسان أن يختار الدين أو العقيدة التي تطمأن لها نفسه ولا تتدخل الدولة في آراءه أو عقيدته، وينطبق ذلك أيضاً على الحُرية السياسية التي يفهمها الطهطاوي في ضوء وضعه وعلاقته بالحكومة، فهو يفهم الحرية السياسية بأنها حُرية أرباب الإرادة الملكية في إجراء أصولهم وقوانينهم وأحكامهم على مُقتضى شرائع بلادهم.

هذا الفهم باعتقادنا يتعارض مع ما هو معروف، و المُراد من الحرية السياسية في الغرب هو حرية أبناء المجتمع في تبني الرؤية السياسية التي يعتقدون بأنها تنفعهم وتنفع أوطانهم، وهذا مُرتبط بحُرية الإنتماء الحزبي والتعددية السياسية وان أرباب الإرادة الملكية إنما يخضعون لإرادة شعوبهم.

أما المساواة فهي قرينة الحرية، وكلاهما مُلازم للعدل والإحسان، وأما التسوية ( بعبارة الطهطاوي) بين أهالي الجمعية، فهي صفة طبيعية في الإنسان تجعله في جميع الحقوق البلدية كإخوانه، وهي جامعة للحرية المدنية والحرية الملكية، على الرغم من أن الناس قد يتباينوا في الصفات العضوية، بل الصفات الطبيعية وهذا ما إقتضته الحكمة الإلهية، ولكن هذه الحكمة جعلتهم متساوون في الأحكام لا فرق بين الشريف والمشروف والرئيس والمرؤوس(يُنظر: ص 130 تخليص الإبريز).

المواطن والوطن

حينما يقال عن شخص بأنه وطني فمعنى ذلك "أنه يتمتع بحقوق بلده وأعظم هذه الحقوق الحرية التامة في الجمعية التأنسية (الاجتماع الإنساني)، ولا يُنعت الوطني بوصف الحرية إلَا اذا كان مُنقاداً لقانون الوطن ومُعيناً على إجرائه في انقياده لأصول بلده يستلزم ضمناً ضمان وطنه له التمتع بالحقوق  المدنية والتمزي بمزايا البلدية والإنتماء للبلد)، فبهذا المعنى هو وطني وبلدي، يعني أنه معدود عضواً من أعضاء المدينة، فهو بمنزلة أحد أعضاء البدن وهذه اعظم المزايا عند الأُمم المتمدنة" (ص94 المرشد الأمين).

"والوطن يستوي فيه النوع الإنساني، فتجد الحزبيين ولو إختلف البعض مع الآخر يتحدان بالنسبة للأجنبي لحماية الوطن أوالدين أو النوع" (ص125 المصدر نفسه).

ومن أسباب تمدن الأوطان "التمسك بالشرع وممارسة العلوم والمعارف وتقدم الفلاحة والتجارة والصناعة وإستكشاف البلاد التي تعين على ذلك وإختراع الآلات والأدوات من كل ما يُسَهل أو يُقَرب الطرق التمدنية بإيجاد الوسائط والوسائل. فما أعان على التعليم والتعلم الذي هو رُكن عظيم من اركان التمدن المطابع الاهلية... وما اعان على سعة دائرة التمدن في بلاد الدنيا ترخيص جميع الملوك للعلماء وأصحاب المعارف في تدوين الكتب الشرعية والحكمية والأدبية والسياسية ثم التوسع في حرية، ذلك بنشره طبعاً وتمثيلاً وخصوصاً جرائد الوقائع لا سيما في بلاد أوربا بقانون حرية إبداء الآراء بشرط عدم مايوجب الاختلال  في الحكومة بسلوك سبيل الوسط بغير تفريط ولا شطط (ص125 المرشد الأمين).

ومن أعظم معين على التمدن حرية الملاحة والسياسة في البر والبحر"(ص126 المرشد الأمين).

الغناء والموسيقى

يُعَد الطهطاوي من هواة الموسيقى والغناء ومن الذين يعتقدون بعلاقة الموسيقى بالروح والغناء الشجي لبسط النفس، وهذا الموقف بإعتقادنا تأتى للطهطاوي من حضوره لحفلات الاوبرا في باريس، إذ نجده يقول حول أهمية الغناء مُستشهداً بأقوال بعض الحكماء بأن فضل الغناء كفضل النطق على الخرس والدينار المنقوش على قطعة من الذهب، وفي كلام بعضهم إن الغناء يُحرَك الهوى الساكن ويُسكن ألم الهوى المُتحرك، وفي كلام بعضهم الصوت الشجي يُوصل إلى نعيم الدنيا والآخرة وإصطناع المعروف كما قال أفلاطون: هذا العلم يعني علم الموسيقى لم يضعه الحكماء للهو واللعب بل للمنافع الذاتية ولذة الروح الروحانية، وبسط النفس وترطيب اليبوسات وتعديل السوداء وترويق الدم، وقال بعضهم سُمَيت الأنغام والألحان لأن النفس تستغني به عن الملاذ البدنية في حال سماعها (ص157 المرشد الأمين).

والموسيقى والرقص في بلاد الغرب والإفرنج (بعبارة الطهطاوي) من الأمور المُثيرة عندهم والتي تستحق الإحترام، لأنها تنقل حضارة الشعوب وتحترم الإنسان وتبتعد عن الأمور المُخلَة بالحياء لا سيما الأوبرا، وحتى الرقص عندهم، فهو دائماً غير خارجٍ عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر، فأنه من خصوصيات النساء لتهييج الشهوات، وأما في باريس فأنه نمط مُختلف لا يُشم منه رائحة العهر أبدا" (ص139 تخليص الإبريز).

العشق والحب

العشىق قسمان عشق الحواس وعشق القلب وعشق الحواس المُجرَد عن عشق القلب الشهواني الذي ينتهي بالوصال ولذة الإتصال، وأما عشق القلب الذي هو العشق الحقيقي فهو حب حقيقي يرسخ في النفس (ص 198 المرشد الأمين).

والحب يعمي بصيرة العاشق ويشوش ذهن الوامق ويملك روحه.

والحب ليس بمُستنكرٍ في الدين ولا بمحظور في الشريعة وقد رُوي عن النبي (ص) عن إبن عباس (رض) من عشق وصبر فعف وكتم فمات فهو شهيد وشرط الشهادة الكتم والعفه (ص 200 المرشد الأمين).

وسُأل بعض الأطباء عن ماهية العشق فقالوا: إن وقوعه بأهله ليس بإختيار منهم ولا بحرص لهم عليه ولا لذة لأكثرهم، ولكن وقوعه بهم كوقوع العلل المُرتفعة والأمراض المُتنلقة، فلا ينبغي إنكاره على من إبتلى به، بل يُستحب مساعدته من غير تعنيف ولا زجر، كما فعل الصحابة والخلفاء الراشدون، وقال بعضهم المحبة أخذ جمال المحبوب بمحبة القلب حتى لا يجد مانعاً للالتفات لسواه ولا يُمكنه الإنفكاك عنه ولا مُخالفةٍ لمُراده ولا وجود للإختيار عليه لوجود سلطان الجمال القاهر للحقيقة بتحيله المُستغنين عليه دون إختيار منه ولا مُهلة ولا روية، فإن مُغازلة الجمال لا يشعر بها آخذته لا يقدر عليها وحقيقة ما يتولد عنها لا يُعبر عنها فتنقضي الأعراض وتُفنى الحقائق والأمراض، فلا يبقى مع غير المحبوب قرار ولا مع سواه إختيار، وقد قيل إن العناية أن تُحب ويُحبك من تُحب، ومن الشقاء أن تُحب ولا يحبك من تحب (ص201 المرشد الأمين).

موقفه من الدين عند الغرب

فـ"الفرنساوية على الإطلاق ليس لهم من  دين النصرانية غير الإسم، لأن سائر تعبدات الأديان التي لا نعرف حكمتها من البدع والأوهام ولا يُعظَم القسسة في هذه البلاد إلَا في الكنائس عندما يُذهب اليهم ولا يسأل عنهم ابداً فكأنهم ليسوا الا أعداء للانوار والمعارف" (ص 185، تخليص الإبريز).

لذلك نجد شيوع العلوم النظرية والعقلية عندهم، ويعتقد الطهطاوي، أن إعتقاداتهم نتيجة إحتكامهم للعقل أصبحت مخالفة لسائر الكُتب السماوية، وقد أثرت كتب الفلسفة في إعتقاداتهم لأنها محشوة بكثير من هذه البدع ... ويجب على من أراد الخوض في لغة الفرنساوية المشتملة على شيء من الفلسفة أن يتمكن من الكتاب والسنة حتى لا يتغير بذلك ولا يفتر إعتقاده وإلا ضاع يقينه"(ص 190. تخليص الإبريز).

نتيجة لاهتمام الغرب بالعلوم نظراً وعملاً نجد أن لفظ العالم عندهم مُختلف عن لفظ العالم عندنا، فالعالم عندنا هو من له دراية ومعرفة واسعة بالعلوم النقلية (الفقه والشريعة)، أما العالم عندهم فـ"لا يُفهم منه أنه يعرف في دينه، بل أنه يُعرف علماً من العلوم الأُخر"(ص193 تخليص الإبريز) كلعلوم الطبيعية وفنون الصناعة.

وهو أول مفكر مثل الإتجاه التوفيقي، لأنه حاول التوفيق بين الموروث والوافد، أو بين متبنيات الماضي ومُعطيات الحاضر عبر العودة للدين (الماضي) بوصفه المُشكل لنهضتنا الأولى وتعشيق نتاجاته مع مُعطيات الحاضر، أي تبنيه لفكرة تآلف وتعضد فكر الماضي بروحه التقدمية التي مثلتها النهضة المٌحمدية مع روح الحداثة ونزوعها التغييري الذي مثلته  الحضارة الأوربية التي كان من سماتها التنوير وتنمية العقل لإستيعاب قيمة المٌغايرة عبر مُسايرته للحركات والتيارات التقدمية، الذي تبيَن أثره على الطهطاوي في رحلته العلمية ومُعايشته المُجتمعية للحضارة الأوربية في نهضتها. ودليلنا على تأثره بنتاج هذه الحضارة هو انبهاره بها وبمُنجزاتها، ومن أهمها:

1ـ أنه إنبهر بما وصلت إليه الحضارة الأوربية من تقدم علمي وحضاري، فأثارت إستغرابه ودهشته وتعجبه لما يمتلكه الأوربيون من إصرار على التقدم وصناعة الحياة بطرق أفضل.

2ـ إنبهر بالنظام وإحترام الفرنساوية للقوانين، وتشديدهم على التعددية الدينية وتقديرهم لحُرية الرأي، فلكل إنسان عندهم الحق في تبين المُعتقد الذي يشاء. أي ترك الحُرية له في إختيار مُعتقده الديني والسياسي والفكرية الذي يشاء.

ومن الأمور الأخرى التي لاحظها الطهطاوي هي الفصل بين الدولة والدين، ولم يكن مؤيداً لها بُحكم ثقافته الأزهرية وبُحكم قُربه من محمد علي باشا ذو النزوع الإنفرادي في الحكم.

3ـ إنبهر الطهطاوي بما أظهره الفرنساوية من تقدير لحُرية التعبير وحرية الرأي وحرية الإعلام والصحافة، وقد أكد على بالدرجة دور الصحافة الحرة والإعلام الحُر في بناء الدولة المدنية، فهما العين الأخرى لمراقبة الحكومة والسلطة ونقدها وتقويمها.

4ـ إنبهر الطهطاوي بقدرة الفرنساوية على إعطاء النساء حُريتهن في التعبير والملبس وحق القبول والرفض لحياتهن، إذ أنه رأى في أوربا عامة وفرنسا خاصة بأن للمرأة الحرية الكاملة في إقامة العلاقات وحضور المنتديات ولا تمييز بينها وبين الرجل.

كل ما سبق ذكره يتعارض مع الدين ولا سيما حرية المرأة، ولكنه مع ذلك، كان يصف المجتمع الأوربي بأنه مجتمع حضاري مُتطور من حيث الثقافة والفكر والتقنية، فلذلك هناك أمور كانت قد أثارت إعجابه خلافاً للأمور السابقة.

اما أهم النقاط التي كان الطهطاوي معجباً بها في الدول الأوربية عامة وفرنسا خاصة فهي :

1ـ تطبيق القانون وإحترامه والإلتزام بالنظام العام التي أُعجب بها الطهطاوي ونظر إليها على أنها السبب الرئيس فيما وصلت إليه أوربا من تقدم وإزدهار وتطور حضاري.

وأيضا من النقاط الأخرى التي كان الطهطاوي مُعجباً بها في الحياة السياسية الفرنسية هي رفض الفرنساوية إعطاء السلطة المُطلقة للحاكم، أي أن الحاكم له صلاحيات محدودة لا يمكن أن يتجاوزها، وهذا ما حدده الدستور الفرنسي. وبعبارة أخرى، أن الحاكم مُقيد طبقاً للدستور.

2ـ وجود الدستور في البلدان الاوربية والتزام الحكومة والشعب بهذا الدستور بوصفه عقداً اجتماعياً بين الحاكم والمحكوم هو ما أعجب الطهطاوي، وإن لم يُصرح به بحكم ميوله لإستمرار سلطان محمد علي باشا وآله من بعده، لأنه ولي النعم، الذي أنعم عليه بعطايا وهباة كُثر.

 

د. علي المرهج

...................

المصادر:

الطهطاوي: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، طبعة دار الأندلس بيروت ،بلا تاريخ

الطهطاوي: المرشد الأمين ، مطبعة المدارس الملكية بمصر ،طـ1 1289هـ ،أعاده المجلس الاعلى للثقافة بمصر 2002

في المثقف اليوم